لحظات الانعطاف التاريخية تتجلى متجاوزة حركات نمو وصراع متعددة الوجوه ومتداخلة ببعضها غالبا، أشبه بالغابة، نوع من الإيقاع الاستوائي في عملية التطور، مع حركة هائلة للتدمير والتدمير الذاتي، بفضل الأنانيات المتعارضة تعارضاً عنيفاً، المتفجرة والمتصارعة في ما بينها من أجل الشمس والنور، غير قادرة على الاهتداء إلى أي حدود أو قيود، أي احترام أو اعتبار في إطار الأخلاق. لا شيء غير “الأسئلة” الجديدة، ما عادت الصيغ الجماعية موجودة، ولاء جديد يستند إلى سوء التفاهم وانعدام الاحترام، ثمة انحطاط وشر مع أسمى الرغبات مجموعة مع بعضها بشكل مخيف، ثمة عبقرية الجنس تفيض فوق أطر الخير والشر، ثمة تزامن مصيري بين الربيع والخريف.
الأحداث كلها في الواقع السوري الأليم تؤكد إطلاق قوة التدمير الهائلة في المجتمع السوري عبر تدمير ذاته في المستويات كافة، وعدم الإبقاء على مساحات جذور التعايش المشترك بين المكونات، وأدوات التدمير الكامنة التي ظهرت في أحضان المجتمع السوري التيارات السلفية، والسلفية هي نزعة ذهنية آلية مسطحة بالعقل، ترتد إلى الماضي بصورة ميكانيكية وخارج نظام التفكر في عودة رجعية إلى الخلف، أي إلى ما حققه الناس السابقون من تراث في الميادين كافة؛ الثقافية والمعرفية إذ يجعلون من هذا التراث قاعدة مرجعية ومصدراُ لأي تطلع فكري في الحاضر أو المستقبل لذلك لا يكاد يفلت أي فكر ينطلق من الدين من آثار التيار السلفي.
تعتمد السلفية على النص والتبعية لوثيقة ماضي الأسلاف، والابتعاد عن البدع والتجديد، إن المبدأ الرئيس الذي ترتد إليه السلفية، هو هذه الرؤية الجذرية (الاتباع لا الابتداع)، أما المسوغ النظري لهذه الرؤية فمصدره قول الرسول (ص)، في ما رواه الشيخان من رواية عبد الله بن مسعود (خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته، وأما الواقعة التاريخية التي تشخص في تحديد الوضع السلفي فهي بكل تأكيد واقعة حضور النص بين ظهراني الجماعة الإسلامية في غياب الرسول ص)(1).
نشأة السلفية بعد وفاة الرسول (ص)، وتجاه الواقع المتبدل المتجدد لم يبق أمام الجماعة الإسلامية سوى القرآن ونصوصه وسنة النبي وأحاديثه، لذلك استحضر النص في حياة الجماعة الإسلامية، واستنطق في كل واقعة أو حدث، لذا فتحديد نشأة السلفية يترافق مع حالة الفزع التي خلفها رحيل الرسول وحضور النص بقوة الأمر الواقع. فقد بقي النص هو الحقيقة المطلقة التي لا يجادل فيها، وارتبط وجود الجماعة الإسلامية واستمرارها ارتباطاً وثيقاً بالنص.
إن استثمار عقل الجماعة واستخدامه لمصلحة الأمة الإسلامية من أجل حفظ البقاء، والاتحاد مع النص بشقيه “الكتاب – القرآن المقدس، وسنة الرسول من قول أو عمل”، لكن هذا كان مع الرعيل المؤسس أعقبه رعيل آخر، جرى اختياره بعناية، والركون إلى فهمه، والوثوق في تفسيره واجتهاده للنصوص، إذ أصبح السند والمرجع للسلفيات كلها، بل الحارس الأمين، مؤسسة السلف التي ستنبثق منها، وتنتمي إليها في النسب لاحقاً السلفيات كلها التقليدية والمحدثة، إن أولئك الذين يطلق عليهم في القرنين الثاني والثالث الهجريين لفظ أصحاب الحديث هم الذين وضعوا هذه الفئة في ذلك الموضع الخاص، الذي يجعلها أصلاً ومصدراً ومنبعاً في الاعتقاد والسلوك والاقتداء. وقد استقر التقليد الإسلامي على أن السلف الصالح الذي تحيلهم إليه النصوص على الدوام ويتخذ طابعاً سلفياً هو صحابة رسول الله الذين شبههم الحديث بالنجوم، من اقتدى بهم اهتدى والأئمة الكبار أصحاب المذاهب الفقهية المعروفة والتابعون وتابعو التابعين بإحسان إلى القرن الثالث الهجري، وكذلك استقر في الأوساط السلفية، أن القصد هو أتباع هؤلاء السلف عن بيّنة ويقين لا تقليد آرائهم عن جهل ومهابة(2).
إن الوقائع التاريخية تقدم أدلة صريحة أنه كلما كثرت الخطوب وازدادت التحديات الخارجية التي يمكن أن تهدد البنية الحضارية، تشتد العودة إلى الماضي والاحتماء بحصون السلف الصالح الرشيد والانغلاق أكثر على الذات، بهدف المحافظة على الهوية، وبخاصة عقب الفتوحات الواسعة، واندياح الإسلام في أصقاع مترامية من البسيطة، واختلاطه بثقافات أخرى، وعلى وجه الخصوص الثقافة الإغريقية، وفلسفتها ذات المرجعية العقلانية. إذ ظنّ أصحاب التحديث والنقل أن تيار العقل والرأي الضارب في الرأي الضارب في الروح (الإغريقية) يمكن أن يأتي على الأسس والأصول المنهجية التي يقوم عليها الإسلام نفسه إتياناً يهدد بضياع الأمة نفسها. وبيّن أن (محدثات الأمور) كانت الهدف الذي وجه إليه السلفيون آنذاك مهماتهم. ولم تكن المقاومة الحنبلية ومقاومة أصحاب الحديث بعامة، للخليفة المأمون الذي أعلن محنة القول بخلق القرآن عام/211 ه/، إلا الفرصة الذهبية التي هيأت الشروط الموضوعية لتبلور (الموقف السلفي) في تيار واضح متميّز لأول مرة(3).
وشهد القرن الثامن عشر ظهوراً آخر للسلفية جسدته حركة “الموحدين” بسبب دعوتها، وإنكار وجود الوسطاء بين الإله والناس، وسميت “الوهابية” نسبة إلى مؤسسها محمد بن عبد الوهاب المتوفى سنة 1793م، وهو من أهل “العينية” في نجد في شبه الجزيرة العربية.
وجوهر هذه الحركة هو الدعوة إلى” السلفية”، واستلهام عقائد الإسلام في القرآن والسنة كما فسرها الإمام أحمد بن حنبل /855م/، وابن تميمة “1243-1338″، وهو تفسير محافظ يلائم بساطة الحياة البدوية، ويقلل من شأن العقل، خصوصاً ما يتعلق منها بالفلسفة.
فالوهابية مذهب متطرف من الحنبلية، إذ رفضت البدع كلها في الفرائض والعبادات، وطالبت بالعودة إلى نص”القرآن والسنة”.
لقد كانت الوهابية نقيضاً لقناعات المسلمين معظمها، الأمر الذي حولهم إلى طائفة متزمتة متعصبة أدت إلى ضيق انتشار هذا المذهب.
وفي أواخر القرن التاسع عشر انتشرت موجة إصلاحية، نتيجة لاحتكاك الغرب بالعرب والمسلمين واقتحام بلدانهم واحتلالها، واستمرت هذه الموجة حتى الربع الأول من القرن العشرين، واتسمت هذه الموجة بإعلاء شأن العقل، وإعطائه دوراً رئيساً في موجة الاجتهاد والتجديد الفقهي، والاستفادة الإيجابية من معطيات السلف، وربط الفقه والاجتهاد بحركة الواقع المتبدل، وبقضايا العصر وإشكالاته، كما فعل الأفغاني، ومحمد عبده، والكواكبي.
لكن ظهور حركات ذات توجهات علمانية، كالحركات القومية والليبرالية والماركسية، قد خفف من حدة الموجة السلفية بصورة عامة، إلا أن فشل هذه الحركات العلمانية في تحقيق ما رسمته من مشروعات تنموية وتحررية ووحدوية، إضافة إلى ما حل بالحركة الوطنية والقومية العربية من هزائم متلاحقة، عقب هزيمة حزيران 1967، واحتلال لبنان في ثمانينيات القرن الفائت قد مهد الطريق لتعاظم الحركة السلفية وتصاعد دورها في الشؤون العامة، في صورة أطلق عليها مرة “الأصولية” ومرة “البعث الإسلامي” وأخرى “الصحوة الإسلامية”، ورفد ذلك دور الأنظمة القطرية القمعية لشعوبها، تلك عوامل تضافرت لتصب الماء في الطاحونة السلفية والأصولية.
ويربط طارق البشري الحركات الإسلامية المعاصرة بأصول سلفية تساعد في تصنيف هذه الحركات ضمن التيارات السلفية من دون تصنع أو قسر. فهو يرى أن الموجة الأولى أعادت الإسلام إلى منابعه الأولى، وربطت الموجة الثانية التجديد بالسلفية، أما الموجة الثالثة فقد أضافت إلى ما سبق شمولية الإسلام وارتباط العمل والدعوة إلى التنظيم العملي في مواجهة فصل الدين عن نظم الحياة(5).
السلفية الجهادية
يؤكد الباحث محمد أبو رمان أن سيد قطب (1906-1966) المؤسس الحقيقي للجماعة السلفية الجهادية المعاصرة، فقد شكلت أفكاره قطيعة معرفية مع الفكر الإسلامي.
وكتابه “معالم في الطريق” هو الدستور والبيان الذي تعتمد عليه الحركات الجهادية في معمل طروحاتها المتعلقة بالرؤية، ومنهج الحركة، وآلية التغيير والعمل فضلاً عن المأسسة للطبيعة الصدامية، وطنياً ودولياً، بناءً على مفهومين هما “الحاكمية” و”الجاهلية”.
ظهرت أولى الحركات السلفية الجهادية الحديثة عام 1973، فقد أنشأ الدكتور صالح سرية في مصر تنظيماً عرف في ما بعد بتنظيم “الفنية العسكرية”.
وحاول التنظيم القيام بمحاولة الاستيلاء على الحكم عام 1974، ويعتبر سرية أول من بلور رؤية شاملة للعمل في كتابه “رسالة الإيمان”، ومن أشهر التنظيمات التي تنتمي إلى السلفية الجهادية، “تنظيم الجهاد”، ومن أبرز قادته محمد عبد السلام فرج، صاحب كتاب “الفريضة الغائبة” الذي مزج فيه بين التاريخية والوهابية والحركية.
وقد ساهم الجهاد الأفغاني في إمداد السلفية الجهادية بطاقة فائقة أسفرت عن نشوء عشرات الحركات السلفية الجهادية في العالمين العربي والإسلامي عقب انسحاب الاتحاد السوفياتي ثم انهياره وتفكك المنظومة الاشتراكية، تبلورت لاحقاً بتأسيس تنظيم القاعدة بزعامة أسامة بن لادن، وأيمن الظواهري الذي عمل على عولمة السلفية الجهادية.
إذ برز عدد من الشيوخ والمنظرين أمثال: عبد الله عزام، وأبو محمد المقدسي، وأبو قتادة الفلسطيني، وأبو يحيى الليبي، وغيرهم(6).
بينما تدّعي بعض حركات الإسلام السياسي وأحزابه وبعض السلفيين من غير الجهاديين، “القبول” الديمقراطية بدرجات متفاوتة مع (بعض التحفظات)، فإن تيار الجهاد العملي (السلفية الجهادية)، يعتبر أي نوع من أنواع المشاركة في العملية الديمقراطية “إقراراً بحكم كافر وتعاوناً على الإثم والعدوان”(7).
وكانت “أفغانستان إحدى الدول التي وصلتها أفكار قطب وتعاليمه باكراً، إذ إن الأفغان الإسلاميين وجدوا في مصر توجيههم الروحي، من خلال ترجمة أعمال سيد قطب. كانت أولى تلك الترجمات حوالى عام 1960″(8).
فتشكل عدد من الأحزاب والحركات السياسية بمرجعية إسلامية، عملت بهدف إنشاء “دولة إسلامية” قائمة على الكتاب والسنة.
وقد تحالفت مختلف التنظيمات الإسلامية الأفغانية لمواجهة الاتحاد السوفياتي (السابق)، بعد غزوة أفغانستان في 1979، وبما كانت المقاومة الأفغانية حركة إسلامية جهادية، فقد فتحت أبواب الجهاد أمام المسلمين ووجود تميز بين المجاهدين الأفغان.
وهم من أطلق عليهم لقب “الأفغان العرب” ومن أبرزهم عبد الله عزام، مؤسس “مكتب خدمات المجاهدين” أحد أهم الهيئات التي دعمت “الجهاد الأفغاني”، ومدته بالمقاتلين العرب.
وكان عزام على صلة بمروان حديد (1934-1976)، مؤسس “الجهاد السوري”. وقد تأثر عزام بفكر مروان حديد عن “الطليعة الجهادية التي تقوم في جوهرها على فكرة قلة مجاهدة تقود المعركة وتعمم الثورة، وهي الأساس ذاته الذي قامت عليه فكرة “قاعدة الجهاد” (تنظيم القاعدة)(9).
في ما بعد تتالى ظهور أجيال جديدة من الجهاديين، مقاتلين ومنظرين، وذاع صيت السعودي أسامة بن لادن ومساعده المصري أيمن الظواهري، بوصفهما أبرز قواعد “القاعدة” الجهادية التي نفذت هجمات إرهابية ضد المصالح الأمريكية في أنحاء متفرقة من العالم.
وباتت العنوان الأول للجهاد العالمي، والإرهاب الدولي التي وجدت مستقراً لها في أفغانستان، “ثم ظهرت لها فروع عدة، من أبرزها فرعها العراق ما بعد إسقاط نظام صدام حسين(10).
وبعد الهجوم على مبنى مركز التجارة العالمي في نيويورك، في أيلول/ سبتمبر 2001، واتهام القاعدة وأسامة بن لادن بالوقوف وراء الاعتداء، اتخذت الولايات المتحدة من وجود التنظيم وزعيمه في أفغانستان ذريعة للقيام بغزو ذلك البلد واحتلاله، وبدء ما سمي “الحرب على الإرهاب”.
وكان من نتائجها طرد ابن لادن وجماعته من ملاذهم الآمن في أفغانستان، وغزو العراق واحتلاله في نيسان 2003، ما أفسح المجال للقاعدة بإعادة تنظيم ذاتها عسكرياً، على يد الزرقاوي الذي قام بتجنيد أكبر عدد من الانتحاريين في التاريخ، وأعلن الزرقاوي تغيير اسم جماعته إلى “القاعدة في بلاد الرافدين”، وولاءه لابن لادن، الذي باركه أميراً للقاعدة في العراق.
اتحد الزرقاوي مع عدد من التنظيمات الجهادية، وتخلى الجميع عن الأسماء التي يعملون بها وكان الاسم الجديد “مجلس شورى المجاهدين”.
وبعد مقتل الزرقاوي أراد أبو عمر البغدادي أن يعبر إلى مرحلة جديدة في تأسيس دولة فكان اسم “دولة العراق الإسلامية” التي وجدت في حالة الفوضى التي تعيشها سوريا فرصة للتمدد غرباً والتغلغل فيها بمسمى “جبهة النصرة لأهل الشام”، إضافة إلى ذلك أعلن زعيمه الحالي أبو بكر البغدادي تغيير الاسم إلى “الدولة الإسلامية في العراق والشام”.
السلفية الجهادية في سوريا
يظهر مروان حديد في قيادة التحرك في مدينة حماة منذ عام 1962، نشط في بناء الخلايا الإسلامية في حماة، ونجحت السلطة في احتواء الموقف وإنهاء الاضطراب، وأعاد البناء بتنظيم قوة ضاربة سرية عام 1965، أطلق عليها اسم “كتائب محمد”، وكان يعمل على هامش حركة الإخوان المسلمين في سوريا ببناء خلايا جهادية ضم كل منها 10 إلى 12 عضواً(11).
وعام 1975، استطاعت السلطة السورية اعتقاله، وتدهور وضعه الصحي نتيجة لذلك، ونقل إلى المستشفى، وبقي حتى توفي في حزيران عام 1976.
وتابع المسلحون الإسلاميون سلسلة هجماتهم الإرهابية حتى وصلت إلى الخبراء السوفيات الموجودين في سوريا، وصولاً إلى الحادثة الشهيرة في 16 حزيران 1979، حين ارتكبت عناصر “الطليعة المقاتلة” مجزرة بحق عشرات الطلاب العسكريين العزل في مدرسة المدفعية في حلب.
إضافة إلى ذلك كله شرع الأخوان المسلمون بتفعيل اللجان العسكرية التي كانوا قد أسسوها بعد نيسان 1979، وبدؤوا بإعداد أنصارهم في الجيش السوري، وفتحوا باب التطوع للجهاد في سوريا لاستقطاب الشباب المقاتلين من أنحاء العالم كلها، وأعلنوا في تشرين الأول من عام 1980 قيام “الجبهة الإسلامية لإنقاذ سوريا”. وأصدر بيان عن تشكيل الجبهة بعنوان “الثورة الإسلامية في سوريا ومنهاجها” وكان ذلك إعلان رسمي صريح عن تحول جماعة الإخوان المسلمين إلى “الجهاد” وفكرة “الدولة الإسلامية”(12).
ومع الاحتلال الأمريكي للعراق في نيسان عام 2003، ذهب آلاف السوريين لقتال القوات الأمريكية في العراق، وظهرت أكثر من مجموعة جهادية كـ “جند الشام للجهاد والتوحيد” التي اشتبكت مع عناصر الأمن، إلى أن “انشقت” بعض تلك الجماعات عن أخرى كانت تعمل على تجنيد الشباب وتدريبهم لإرسالهم إلى العراق للجهاد، كما في حالة “صقور القعقاع”، المجموعة التابعة لتنظيم “غرباء الشام” الذي كان يقوده محمود غول أغاسي “أبو القعقاع” في مدينة حلب. فحين توقف أبو القعقاع عن إرسال “المجاهدين” اتهم من قبل تنظيم القاعدة بالعمالة للسلطات، ولم يتمكن من السيطرة على مجموعاته، لينتهي الأمر باغتياله في أواخر أيلول 2007(13).
لم تتوقف مشاركة الجهاديين السوريين عند حدود سوريا فقط بل بلغت الجهاد الأفغاني، إذ حازت سوريا على المرتبة السابعة بين خمسة عشر بلداً عربياً ينتمي إليه المجاهدون العرب في أفغانستان، ومن السوريين كان عدنان إبراهيم الذي كان يعد (التقرير الأسبوعي) الذي كان يصدر بتمويل سعودي، وأحمد زيدان عمل مدة أربع سنوات في مجلة “الجهاد” التابعة لـ”مكتب خدمة المجاهدين” أصبح بعدها رئيس تحرير نشرة “الثبات الأسبوعية”(14).
ومن أهم الجهاديين السوريين، الذين قصدوا أفغانستان وذاع صيتهم مصطفى ست مريم نصار، العضو السابق في جماعة الإخوان، ولقبه “أبو مصعب السوري” أو “عمر عبد الحكيم” الذي عمل مدرباً في معسكرات المجاهدين، ودرس الفقه الجهادي وانضم إلى القاعدة عام 1992، وفي بريطانيا ساعد “قاري سعيد الجزائري” في تأسيس “الجماعة الإسلامية المسلحة” وساهم في دعم “الجهاد الجزائري”، ليعود إلى أفغانستان مجدداً ويبايع الملا عمر، وأسس “معسكر الغرباء” بدعم من حكومة طالبان، وبعد سقوطها تفرغ للبحث والتأليف، ومن كتبه “ملاحظات حول التجربة الجهادية السورية” وكتابه الأشهر “دعوة المقاومة الإسلامية”(15).
وإلى جانب الجهاديين السوريين، كان هناك الأردنيون والفلسطينيون، وبرز أبو مصعب الزرقاوي الذي بنى شبكته وتنظيمه، أيديولوجياً وفكرياً وفقهياً، على أسس تتجاوز الجهاد التضامني ومنطق حروب “النكاية”، وهي الاستراتيجيات التي حكمت التجربة الأفغانية، ثم أيديولوجيا القاعدة في مرحلتها الجديدة، وبدلاً من ذلك تأسست رؤية الزرقاوي الأيديولوجية على إدارة التوحش وتحقيق التمكين، ولذلك توجهت اختياراته الإستراتيجية نحو طروحات أبي بكر ناجي في كتابه “إدارة التوحش” أخطر مرحلة تمر بها الأمة، وهي المرحلة الجهادية الانتقالية التي تفصل بين بناء (شوكة النكاية) والوصول إلى (شوكة التمكين).
وعلى الصعيد الفقهي اعتمد الزرقاوي على مرجعية شيخه أبي عبد الله المهاجر الذي كان له الأثر المباشر في عقيدته القتالية ونهجه الفقهي، وخصوصاً المسائل المتعلقة بأولوية قتال العدول القريب المتمثل في المرتدين من الأنظمة العربية والإسلامية الحاكمة.
وكذلك مسألة تكفير الشيعة بعامة، فأغلب خيارات الزرقاوي الفقهية المتشددة والخاصة بالعمليات الانتحارية، وعمليات الاختطاف والاغتيال وقطع الرؤوس، وتكتيكات العنف والرعب، كان قد تلقاها من شيخه أبي عبد الله المهاجر.
هوية جبهة النصرة
إن محتوى هوية جبهة النصرة تعتمد على مصادر سلفية جهادية متنوعة تفتقد إلى التجانس والتماسك نظراً إلى حداثة تشكلها بعد بداية الثورة السورية في آذار 2011، وإعلان تأسيسها في كانون الثاني 2012، فقد تكونت من خليط هجين من المقاتلين بدعم وإسناد من الفرع العراقي.
وعززت مرحلة الثورات الشعبية العربية أهمية هذه المراجعات وإخراجها إلى العلن، بغية تطوير خطاب السلفية الجهادية بما يمكن أن يسمى “تكيفاً أيديولوجياً”، لكي تصطدم بحركة الشعوب العلمية، لكن مع الإبقاء على “النواة الصلبة” في هذه الأيديولوجيا.
وانبثقت من هذه المراجعات فكرة “أنصار الشريعة” التي اتخذت تطبيقات عملية في اليمن وتونس، ونجد صداها في اسم الجبهة ذاته “النصرة” الذي يقوم على ضرورة الاندماج في الشعوب والاهتمام بالقضايا العامة في مواجهة الاستبداد وإقامة النظام الإسلامي، مع البقاء خارج قبة البرلمان وحدود اللعبة السياسية، وتقوم فكرة أنصار الشريعة على التحول من العمل النخبوي النوعي ذي الطبيعة العسكرية المحضة إلى العمل الشعبي الإعلامي والسلمي العام تحت شعار تطبيق الشريعة الإسلامية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو تحول نوعي كبير مقارنة بالمراحل السابقة، ويظهر تعبيره في سلوك النصرة واندماجها في المجتمع وبحثها عن الأنصار في المجتمع المحلي ومخرجات المراجعات القاعدة المركزية، فبحسب النهج الجديد، لا بد من الابتعاد عن إعلان الانتماء إلى القاعدة، في سبيل عدم منح النظام السوري مسوّغات قمع الثورة بذريعة محاربة “الإرهاب”، وعدم إثارة الولايات المتحدة الأمريكية، وتجنباً لإثارة الحاضنة الاجتماعية لجلب الأنصار.
لكن الجولاني (أمير جبهة النصرة) اضطر إلى كشف علاقته بالقاعدة بعد إعلان البغدادي إقامة الدولة الإسلامية في العراق والشام. وجدت قيادة النصرة ضالتها لتعزيز المنهج الجديد في كتب أبي مصعب السوري ورؤيته، وخصوصاً كتبه “ملاحظات حول التجربة الجهادية في سوريا”، و”أهل الشام في مواجهة النصيرية والصليبية واليهود”، وكتابه الأهم “دعوة المقاومة الإسلامية العالمية” الذي يؤسس لبناء “سرايا المقاومة الإسلامية”، ومفهوم الجهاد الفردي (الذئاب المنفردة)، وتحويل الجهاد إلى مشروع أمة.
ومع بروز الخلافات والصدام بين النصرة، وتنظيم الدولة الإسلامية حظيت النصرة بدعم كبير من قيادات القاعدة المركزية وفي مقدمتهم الدكتور أيمن الظواهري، وأبو محمد المقدسي، وأبو قتادة الفلسطيني، وكان ذلك في أكثر من رسالة وتسجيل صوتي.
على الرغم من هذا الدعم كله، لم تعد النصرة ولا القاعدة الجديدة تمثلان الخط الوحيد في الوسط الجهادي، إذ برز خط الدولة الإسلامية الذي استقطب مجموعة من المنظرين وعدداً كبيراً من الجيل الجهادي الشاب الصاعد، ليس فقط في العراق وسوريا، بل في مناطق متعددة أيضاً من العالمين العربي والإسلامي. ومن الجيل الثاني والثالث، ومنهم: أبو سعد العاملي في رسالة “تنبيه الأنام لما في التفرقة من آثام وأهمية التوحد في دولة الإسلام”، وأبو الحسن الأزدي في رسالة “موجبات الانضمام للدولة الإسلامية في العراق والشام”، وأبو همام بكر بن عبد العزيز الأثري في كتابه “مد الأيادي لبيعة البغدادي”، وأبو المنذر الشنقيطي في بيانه “نصرة لإعلان دولة الإسلام متى يفقهون معنى الطاعة”، وأبو محمد الأزدي في كتابه “المعارضين لدولة المسلمين”، والشيخ عاني العلم في رسالته “رد الشبهات عن الدولة الإسلامية شرعية الدولة صحتها”، وأبو يوسف البشير في رسالته “البيعة ثم البيعة ثم البيعة”، وأبو منذر عمر مهدي زيدان في مقالات عدة وغيرهم(16).
وتجدر الإشارة إلى أن صعود تنظيم الدولة الإسلامية وامتداده وانتشاره إلى مناطق أخرى، بدأ يسحب البساط من تحت أقدام تنظيم القاعدة المركزية نفسه، وبالتوازي مع اختراقه السريع لجيل الشباب في السلفية الجهادية.
فالتنظيم الذي نشأ في بيئة مسكونة بالصراع الهوياتي الطائفي والفوضى في العراق، وجعل موضوعة الهوية السنية اهتمامه الرئيس والأول، ما عزز قدرته على التجنيد والدعاية والصعود.
وقد استفاد من تحول طبيعة الصراع في سوريا، كي يتحدد في مجتمعين عربيين تعاني فيهما الشريحة السنية الكبرى قلقاً كبيراً يطاول شعورها بتهديد أمنها وهويتها ووجودها في مواجهة النفوذ الإيراني الإقليمي مع غياب أي حضور عربي-سني يوازي هذا النفوذ الإيراني، فجاءت الدولة الإسلامية لملء هذا الفراغ الكبير معتمدة منظومة أيديولوجية تحاكي القلق السني العميق، وهو ما خلق الفرق الشاسع بين أولويته وأولوية تنظيم القاعدة المركزي، إذ إن تنظيم الدولة يجعل من القضية السنية والصراع الهوياتي شغله الشاغل بخلاف شبكة القاعدة التي تؤكد عولمة الصراع وأولوية قتال الولايات المتحدة (العدو البعيد)(17).
وكانت النصرة في سوريا قد اشتبكت مع عدد من الكتائب في حمص وريفها، وأقدمت على تصفية “ثائر وقاص” أحد قادة الجيش الحر “في منطقة سرمين في ريف إدلب”، ما دفع العلاقات نحو التدهور، وبدء مرحلة الاغتيالات المتبادلة بين الطرفين، اغتيل “أبو حرملة” المسؤول الشرعي للنصرة في ريف حمص، وبانتشار هذه الأخبار بات ينظر بعض عناصر “الجيش الحر” إلى أفراد النصرة بوصفهم “أعداء الثورة”، لتنتقل الخلافات إلى مناطق في حماة وحلب وإدلب، حيث سجلت فيها جميعاً مواجهات بين الطرفين، وتصاعدت حدة الخلافات بعد ما اغتالت النصرة القيادي في الجيش الحر وأحد أعضاء قيادته العليا “كمال المحامي” الملقب بـ”أبي بصير اللاذقاني” وهو قائد “كتائب العز عبد السلام” وذلك خلال اجتماعه مع أركان “النصرة” في إحدى مناطق ريف اللاذقية. تلاه إعلان الجيش الحر بأن قتل المحامي بمنزلة إعلان الحرب. وهو ما دفع الرئيس السابق للائتلاف المعارض، أحمد معاذ الخطيب، إلى انتقاد جبهة النصرة ووصفها بـ”عصابة إجرام لا دين ولا خلق لها تظن الجهاد دماً وقتلاً”(18).
إن الجهاد العالمي الذي سار خلف القاعدة شهد انقساماً في أضلعه الثلاثة: الأمراء والجنود، والجمهور، والدعاة، ولم تنفع دعوات التهدئة ومحاولات التقريب بين الجولاني والبغدادي، فقد بلغ التوتر درجة أن مقربين من النصرة اتهموا البغدادي بالوقوف وراء محاولة اغتيال استهدفت الجولاني ونائبه أبا ماريا القحطاني، المسؤول الشرعي للجبهة، ونجا الاثنان منها بأعجوبة(19).
لكن عام 2016، قدمت جبهة النصرة التابعة لتنظيم القاعدة في سوريا، ذاتها في صورة جديدة عبر تغيير اسمها إلى جبهة فتح الشام، ثم هيئة تحرير الشام (بعد دخولها في ائتلاف مع عدد من المجموعات)، معلنة تباعدها عن القاعدة وقد أثار ذلك نفور المتشددين في الجبهة، ومعظمهم من المقاتلين الأجانب.
وقبل بضعة أشهر أنشأ هؤلاء تنظيمهم الخاص باسم تنظيم حراس الدين الذي حافظ على ولائه لزعيم القاعدة أيمن الظواهري، والتحق عدد من الجهاديين ذوو التاريخ الطويل في القتال إلى جانب تنظيم القاعدة في العراق في صفوف التنظيم الجديد، وأبرزهم زعيم تنظيم حراس الدين، السوري سمير حجازي، المعروف بأبي همام الشامي، ويضم عدداً كبيراً من الأردنيين، بينهم إياد الطوباسي، المعروف بأبي جليبيب طوباسي، وسامي العريدي، وخالد العاروري المعروف بأبي القسام.
إن محاولات هيئة تحرير الشام احترام الاتفاقيات السياسية منها مناطق خفض التصعيد مع النظام السوري، وحصر نشاطها بالأرض السورية دفع إلى وجود تنظيم حراس الدين مع نواته الجهادية الأجنبية وانتمائه الصريح إلى القاعدة، ومهاجمته مواقع تابعة للنظام في محافظة اللاذقية، ما تسبب بإطلاق عملية قصف جوي في منطقة كانت تنعم بالهدوء بفضل تفاهم روسي–تركي(20).
مما تقدم كله نجد أن السلفية الجهادية بتنويعاتها المتشددة في الساحة السورية لعبت دور “الثورة المضادة” التي قادت العمل العسكري الجهادي نحو الاقتتال الفصائلي الجهادي لتغيير صورة الثورة السورية من صراع ضد نظام سياسي دكتاتوري استبدادي قمعي قام بها الشعب السوري لنيل حريته وكرامته وتحقيق دولة مواطنة مدنية تقوم على تكريس الديمقراطية وحقوق الإنسان في الحياة إلى صراع حول شكل مفهومات السلفية الجهادية وأساليب تطبيقها الخاصة بكل فصيل جهادي لـ”الدولة الإسلامية” وشرعيتها التي تستند إلى مفهوماتهم الخاصة، وظهرت الصراعات السلفية المتشددة في أساليب السيطرة والقمع في كل منطقة سيطرة عليها تنظيمات وفصائل جهادية سلفية.
وبذلك يكون نظام الاستبداد قد نجح في رسم صورة غير حقيقية عن واقع الإنسان والشعب السوري في نظرة العالم إلى سوريا التي تحولت إلى بؤرة إرهابية لتصفية الصراعات والنزاعات العنفية الدولية كلها، بحيث يكون قادراً على تدمير سوريا ليحولها إلى أرض يباب من دون إنسان له منظومة قيميه إنسانية تنمي إلى الحضارة الإنسانية التي قدمت سوريا عبر تاريخها منجزات إنسانية لهذه الحضارة.
المراجع
- فهمي جدعان: “السلفية- حدودها وتحولاتها”، مجلة “عالم الفكر”، العدد “3،4” نيسان/ حزيران 1998، ص(12،34).
- ابن عبد البر القرطبي: “جامع بيان العلم وفضله”،المكتبة السلفية، الطبعة الثانية، 1986، ص(2).
- فهمي جدعان: “المحنة، بحث في جدلية الديني والسياسي في الإسلام” عمان، دار الشروق 1989.
- شاكر العيساوي: “في بعض المفاهيم والأفكار”، دار الينابيع، 1996، ص(196،197).
- الدكتور حيدر إبراهيم علي: “الإسلام بين السلفية التاريخية الكلاسيكية وبين السلفية المحدثة”، مجلة عالم الفكر، عدد 3،4، نيسان، حزيران 1998، ص (130،134).
- محمد أبو رمان، حسن أبو هنية: “السلفية المحافظة: الاستراتيجية” أسلمة المجتمع “وسؤال العلاقة الملتبسة” مع الدولة، مؤسسة فريدريش ايبرت، كانون الأول، 210، (ص 26).
- علي الكواري (تحرير): “أزمة الديمقراطية في البلدان العربية”، دار الساقي، الطبعة الأولى 2004، ص(76).
- الدكتور فتحي الزبيدني؛ “الجهاد الأفغاني، دار المعرفة”، دمشق، الطبعة الأولى، 1996، ص(119).
- كتاب المسبار الشهري، الكتاب الثاني والثلاثون، الإخوان المسلمون في سوريا، مجموعة باحثين، مركز المسبار للدراسات والبحوث، الطبعة الأولى، آب (أغسطس) 2009، ص(257).
- طارق عزيزي: “جبهة النصرة لأهل الشام”، القاعدة في طبعتها السورية، البوصلة .. المجموعة السورية للدراسات والبحوث، كراسات البوصلة (4)، 2014، (ص15).
- كمال ديب: “تاريخ سورية المعاصر”، دار النهار، الطبعة الأولى، بيروت، 2011، (ص548).
- كتاب المسبار الشهري، الكتاب الثاني والثلاثون، الإخوان المسلمون في سوريا، مجموعة باحثين، مركز المسبار للدراسات والبحوث، الطبعة الأولى، آب 2009، (ص252).
- محمد جمال باروت: “العقد الأخير في تاريخ سوريا جدلية الجمود والإصلاح”، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة الأولى، بيروت، آذار، 2012 (ص443).
- الدكتور فتحي الزبيدي: وقد جاء ترتيب تلك البلدان على النحو الآتي: السعودية، مصر، فلسطين، اليمن، الجزائر، العراق، سوريا، ليبيا، تونس، قطر، الكويت، السودان، المغرب، الأردن، البحرين. (ص 150)
- عزيزة .. (ص23).
- لرسائل التي أيدت تنظيم الدولة الإسلامية ومعرفة روابطها، انظر الرابط الإلكتروني الآتي: Http://www.hanein.in.info/vb/showthowthread.php?t=337513
- محمد أبو رمان: مجلة الدراسات الفلسطينية، العدد (10) شتاء، 2015، السلفية الجهادية داعش والنصرة في إدارة التوحش إلى فقه الدعاء (ص65).
- معاذ الخطيب: جبهة النصرة والقاعدة عصابة إجرام، مجلة العربية، 14 تموز/ يوليو، 2013. رابط المجلة: http://www.jurnoljazina.com/index.php
- حسين جمو: الجولاني والبغدادي: التنافس على المنارة الدمشقية ينذر يتفكك “القاعدة”، الحياة، 9 آب/ أغسطس 2013.
- مهند الحاج علي: تنظيم “حراس الدين” يستعيد “القاعدة” في يدي “جبهة النصرة”، الحياة، 10 حزيران/ يونيو، 2018.