تتحدث هذه الورقة عن نشأة العنف والتطرف من خلال انتشار السلفية الجهادية بعد غزو العراق للكويت؛ والتسهيلات الأمريكية لذلك الانتشار من أجل مواجهة إيديولوجية تصدير الثورة التي أطلقها الخميني بعد انتصار ثورته بإيران. وكيف واجهت أمريكا المشروع الإيراني عسكرياً بواسطة عراق صدام حسين؛ وإيديولوجياً بواسطة السلفية المعاصرة. ثم تذهب إلى بذور نشأة السلفية الجهادية كحالة انشقاق عن السلفية التقليدية بعد خلافها السياسي مع الحكام ومشايخهم؛ لتطرح الورقة أخيراً توصية للخروج من نفق العنف والتطرف الديني. من خلال المحاور التالية:
- المدخل
- المواجهة العسكرية والإيديولوجية لمواجهة الخطر الإيراني
- أفغانستان؛ حاضنة السلفية الجهادية
- ولادة السلفية الجهادية عالمياً
- الأسس الإيديولوجية للسلفية الجهادية
- السلفية العلمية/ المدخلية؛ وصراعها مع السلفية الجهادية
- السلفية الجهادية وفقه التكفير والتطرف والإرهاب
- السلفية الجهادية في الانتفاضة السورية
- التوصيات والخاتمة
المدخل
يشكل عام 1979 منعطفاً مهماً في التاريخ المعاصر لمنطقة الشرق الأوسط؛ ففي 16 يناير/كانون2 من ذلك العام انتصرت الثورة الإيرانية؛ وأطاحت بنظام الشاه محمد رضا بهلوي رجل أمريكا في المنطقة نتيجة تحالف القوى السياسية الإيرانية من ليبراليين ويساريين ومراجع دينية! إلا أن الخميني الزعيم الثوري، سرعان ما انقلب على رفاقه في الثورة من غير الإسلاميين؛ لتستفرد المرجعية الدينية الشيعية بقيادته بزمام سلطة كهنوتية مطلقة في إيران؟ وبعد أن تخلص من خصومه السياسيين؛ أعلن مبدأ تصدير الثورة خارج إيران.
هنا شعرت الإدارة الأمريكية بقلق كبير من المشروع الإيراني. حيث إن هناك مارداً جديداً؛ بدأ يخرج من قمقمه ويمثله الإسلام السياسي؟ فالسعادة الامريكية بترنح المارد السوفييتي بسبب (بيريسترويكا) (غورباتشوف) قبيل سقوطه وتفككه عام 1990لم تكتمل؛ ولا بدّ من مواجهة مرسومة ودقيقة مع مشروع تصدير الثورة الذي أعلنه الخميني، ومنحت الأمل للشارع العربي بمختلف تياراته العلمانية والإسلامية؛ ولا بد من الإسراع في كبح أيديولوجيا تصدير الثورة بطريقة ذكية؛ لا تجعل الإدارة الأمريكية في مواجهة مباشرة مع القيادة الإيرانية الجديدة ذات الشعبية الجارفة آنذاك حتى عند العرب.
فرح الشارع العربي بمختلف أطيافه السياسية والدينية بانتصار الثورة إلا رجل واحد؟ قرأ التحولات بشكل مختلف؛ إنه المفكر الياس مرقص! إذ حدثني صاحبي اليساري قائلاً: بعد انتصار الثورة الإيرانية كنا سعداء بها؛ ومنحتنا الأمل بالتغيير؛ فأردنا زيارة المفكر مرقص لنرى رأيه بما حصل. دخلنا عليه بيته؛ وفوراً حدثناه عن سعادتنا بانتصار الثورة وما ستحمله من ايجابية للمنطقة، تبعث فيها روح التمرد من جديد. ففاجأنا المفكر الياس مرقص بقوله: لا تتفاءلوا كثيراً! لقد بدأ عصر العنف! فسألتُه: كيف ذلك؟ قال: ستبدأ ثقافة جديدة في المنطقة من خلال صراع فوضوي؛ العنف عنوانها الرئيس.
الإدارة الأمريكية أدركت خطورة مآلات تصدير الثورة، فوضعت خطتين مهمتين لمواجهتها: الأولى: مواجهة عسكرية عاجلة؟ يقوم بها طرف تدعمه الإدارة الأمريكية بشكل غير مباشر. والثانية مواجهة فكرية أيديولوجية؟ يجب أنْ تختار لها فريقاً يتمتع بعناد تاريخي واعتقادي وايديولوجي ضد التشيع.
أما المواجهة العسكرية:
فقد كان صدام حسين وسيلتها والعراق ضحيتها؛ ونتيجة اتهامات متبادلة بين الطرفين العراقي والإيراني حول اختراقات حدودية وتجاذبات عسكرية؛ انهار اتفاق الجزائر بينهما؛ لتندلع حرب استطاعت الإدارة الأمريكية إدارة ملفها بخبث؛ لتخرج وحدها المنتصر الوحيد من تلك الحرب التي استمرت قرابة ثماني سنوات (من سبتمبر/أيلول1980 حتى أغسطس/آب 1988)؟! قضت على كل امكانية للتنمية في هذين البلدين الناشئين؛ ناهيك عن إثارة أحقاد تاريخية بين العرب والفرس! والأخطر هو إعادة انتاج صراع طائفي (سني شيعي) بسبب تلك الحرب! والغريب أن صدام حسين تولى رئاسة العراق في يوليو/تموز1979مع بداية عصر العنف وقبيل انتصار الثورة الإيرانية بقليل!
تحول العراق نتيجة تلك الحرب إلى دولة شبه مفلسة تعتمد على المساعدات الخليجية، وأُضعفَ الجيشُ العراقي الذي كان يعدُّ من طليعة جيوش المنطقة؛ والأهم اشغال إيران عن ايديولوجية تصدير الثورة التي كان هدفها الاستراتيجي السيطرة على القرار العربي؟ فإنْ لم يحصل ذلك، لابد من إقلاق راحة العرب! ومنذ انتصار الثورة الإيرانية حتى يومنا هذا؛ لم ترتح المنطقة العربية؛ ولعبت الإدارة الأمريكية على الطرفين المتصارعين، وبعد ثمانية أعوام انتهت الحرب بلا خاسر ولا رابح (كما قيل) وكان ضحيتها أكثر من مليون إنسان من الطرفين، أُطلق عليها اسم (حرب الخليج الأولى).
ثم أُعيد إشغال العراق في حرب أخرى (حرب الخليج الثانية من17 يناير إلى 28 فبراير 1991) أتت على ما تبقى من دولة العراق! نتيجة تحرشات كما ادعى صدام حسين في لقائه مع السفيرة الأمريكية لديه آنذاك (أبريل غلاسي) قبل اسبوع من اجتياحه للكويت؛ حين أبلغها انزعاجه من تجاوزات الحكومة الكويتية تجاه المصالح العراقية. فأجابته قائلة: إن ذلك صراع عربي/عربي ولا علاقة للإدارة الأمريكية به.
فهم صدام حسين كلامَها بأنه ضوء أخضر باجتياح الكويت؛ لكنه في كان الحقيقة طُعماً؛ ابتلعه صدام بسهوله؛ ليأتي على ما تبقى من العراق الدولة الفتية الناشئة. ثم لينهار نظامه عام 2003 الذي بات يشكل خطراً ما على اسرائيل وأمريكا. ليبدأ عصر آخر للعنف والإرهاب سنأتي عليه لاحقاً.
لقد نجحت الإدارة الأمريكية من خلال إدارتها لحرب الخليج الأولى؛ بتأسيس عصر العنف والإرهاب؛ وبعد سقوط العراق 2003 ازدادت وحشية العنف والإرهاب من خلال صراع عراقي/عراقي بين السنة والشيعة؛ ربما بلغ عدد ضحاياه أكثر من عدد ضحايا حرب الخليج الأولى لتصبح المنطقة أكثر قبولاً لثقافة الذبح! وتمت أدلجة تلك الثقافة من خلال العامل الثاني المتمثل بالمواجهة الأيديولوجية.
المواجهة الأيديولوجية
مواجهة تصدير الثورة أيديولوجياً تمثلت من خلال الفكر الشرس (السلفية = الوهابية) في مقاومة ظاهرة التشيع التي تلت الثورة الإيرانية في البلاد العربية؛ ولا بد من داعم حقيقي للسلفية في مواجهتها لتصدير الثورة؛ فكانت المملكة العربية السعودية هي الضالة المنشودة آنذاك، لكونها تأسست تاريخياً على تحالف ما بين الإمام محمد بن عبد الوهاب والأسرة السعودية. والدور السعودي آنذاك كان في حالة تصاعد مستمر مقابل انكماش كبير لدور مصر بعد (كامب ديفيد) أما علماء السعودية فبدأ تسويقهم إعلامياً ليكونوا المرجعية العقائدية والفقهية والدعوية لمن يتخذ السلفية الجديدة منهجاً.
بدأت تظهر في عام انتصار الثورة الإيرانية بوادر ما سُمي بالصحوة الإسلامية في الدول الخليجية خصوصاً والدول العربية عموماً؛ حيث بلغ التيار الديني منتهى مدّه؛ هنا ظهرت السلفية الجديدة بمرجعية لها مكانتها في العالم الإسلامي متمثلة بهيئة كبار العلماء وعلى رأسهم الشيخ عبدالعزيز بن باز مفتي المملكة؛ ودعاتها الجدد (سفر الحوالي وسلمان عودة وعائض القرني وعبد الوهاب الطريري وغيرهم) الذين ملأوا العالم الإسلامي بأشرطتهم المسجلة محذرين من مدّ شيعي إيراني يريد القضاء على أهل السنة؛ والسيطرة على بلدانهم سياسياً وعقائدياً؟ والحقيقة كما أراها أن إيران استخدمت التشيع قفازاً للتغلغل عربياً حتى تحقق مشروعها القومي ذا الجذور الفارسية؛ فأنهت التشيع العربي؛ ونقلت المرجعية الشيعية مكانياً من النجف العراقية إلى قُمْ الإيرانية.
بدأت الملحقيات الثقافية في السفارات السعودية بالعالم؛ تتحرك بشكل مذهل ومنظم؛ لتدعم التوجه والامتداد السلفي في كل بقعة جغرافية يتواجد عليها بسخاء؛ حتى يتم إحياء سلفية جديدة؛ هدفها السياسي الحد من تصدير الثورة في مقاومة ظاهرة التشيع عربياً، وهدفها العقائدي تصحيح الاعتقادات الخاطئة لدى المجتمعات العربية المتدينة صوفياً وأشعرياً، وخلال مرحلة الثمانينات حتى مطلع التسعينات؛ كانت السلفية الجديدة متصدرة للمشهد الدعوي إسلامياً. ولكن في مرحلة ما فإن المارد الذي تصنعه ويكبر كثيراً؛ قد يخرج عن سيطرتك! لينقلب عليك.
أفغانستان حاضنة السلفية الجهادية
أخذ خطاب السلفية الجديدة يتمنهج فقهياً من خلال الشيخ الدمشقي ناصر الدين الألباني؛ في حين بدأ دعاة السلفية الجديدة بالخروج من النطاق المسموح به والمبارك في مهاجمة تصدير الثورة؛ وهو الثابت في المنهج السلفي؛ بالتحول إلى خطاب يدعو إلى الجهاد ومحاولة أسلمة العالم؛ حتى ولو بالقوة لكل من يقف في طريق الدعوة إلى الله سلفياً.
أصبح خطاب السلفية الجديدة يركز بندواته وخطبه ومحاضراته على خطر إسرائيل في المنطقة ويدعو لمجاهدتها؛ كما ركز على محاولات التنصير المسيحية في مناطق متعددة في العالم؛ مستغلاً كتابات المفكرين الأمريكان التي تتحدث عن مواجهة محتومة مع الشرق المسلم؛ وكلنا يتذكر كتاب وندوة الشيخ سفر الحوالي الشهيرة (القدس بين الوعد المفترى والوعد الحق) التي كان لها تأثير كبير على شباب الصحوة الإسلامية؟ وكذلك كتابه ومحاضرته المشهورة (كشف الغمة عن علماء الأمة) التي تحدث فيها عن الأهداف الأمريكية في الخليج ودور كيسنجر في التنظير للصراع بالمنطقة. وواجب العلماء في تحذير الأمة من ذلك الخطر.
هنا أخذت ثقافة (الموت) الجهاد تتأطر وتتأصل عند شباب الصحوة الإسلامية عموماً وأتباع السلفية الجديدة خصوصاً المتحمسين لفكرة الجهاد القتالي التي بشّر بها هؤلاء الدعاة الجدد؛ ولا بد من تنفيس لها؛ حتى لا تخرج عن السيطرة.
ولكنْ ذهاب هؤلاء الشباب المتحمس للجهاد في فلسطين غير ممكن؛ ولا مسموح به؛ ويجب تبرير ذلك بفتاوى تأكد أنه لا يمكن التعاون والتعامل مع الأنظمة العربية المجاورة لفلسطين لكونها علمانية ومعادية للدعوة إلى الله؛ فلا بد من تأجيل المعركة الفلسطينية حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً! وهذا ما قالوه علناً في تلك الندوات.
وبدأوا البحث عن سبيل آخر يساهم في عملية التنفيس والاحتقان الجهادي؛ فوجدوا ضالتهم بمكان مناسب جداً لذلك إنه أفغانستان؛ وبدأت حملة قام بها دعاة السلفية الجدد؛ تحث هؤلاء الشباب لنصرة دينهم في مكان أكثر إسلامية من الحالة الفلسطينية التي تدير المعركة فيها منظمة التحرير (العلمانية)! وأفغانستان خير مكان يذهب إليه هؤلاء؛ فهي بلد إسلامي محتل من قبل الشيوعية العالمية (الملحدة) من جانب؛ والمجاهدون الأفغان إسلاميون ولا توجد علمانية ولا علمانيون هناك!
في سنة 1984 ذهب أسامة بن لادن إلى أفغانستان ليؤسس بالاتفاق مع الحكومة السعودية ورضاها؛ منظّمة دعويّة أسماها (مركز الخدمات) وقاعدة للتدريب على فنون الحرب والعمليات المسلحة باسم (معسكر الفاروق) لدعم وتمويل الجهاد القتالي للمجاهدين العرب والأجانب فيما بعد؛ التي تحولت بعد خلافه مع الحكومة السعودية لتصبح تنظيم القاعدة، ويوجه ابن لادن الصراع مع العالم عموماً والأنظمة العربية خصوصاً.
سبق ابن لادن إلى افغانستان مؤسس الفكر الجهادي المعاصر الشيخ الإخواني عبد الله عزام الذي يتمتع بكاريزما لدى أتباعه؛ عزام أُخرج من فلسطين إلى المملكة للتدريس فيها؛ ثم تم إرساله إلى أفغانستان بطريقة مريبة جداً؛ كتب عنها فيما بعد بعضهم؛ فتم اغتياله هناك؟ ليصبح ابن لادن قائد وزعيم الأفغان العرب! وبدأت الطائرات والمطارات تُفتح للأفغان العرب المتحمسين لقتال (الكفار الملاحدة) السوفييت للوصول إلى أفغانستان، ونالوا دعماً من الغرب الإمبريالي عامة والولايات المتحدة بخاصة.
انجز شباب السلفية الجديدة المهمة في أفغانستان بنجاح؛ وهزموا الاتحاد السوفيتي هناك؛ بإرادتهم القوية؛ والدعم الأمريكي؛ ليقيموا فيما بعد بالتعاون مع حركة طالبان ذات التوجه السلفي الجهادي دولة إسلامية تحتكم إلى الشريعة؛ تشبع توجههم الاعتقادي والفقهي والجهادي. إلا إنّ الشباب العربي السلفي الذي أطلق عليهم اسم (الأفغان العرب) لما عادوا إلى بلادهم بعد عام 1990 وخصوصاً الخليجيين منهم مزهويين بنصرهم على ثاني أكبر قوة عالمية وبفكرهم الجهادي؛ باتوا يشكلون خطراً على المجتمعات الخليجية؛ فوقع خلاف بين ابن لادن والحكومة السعودية؟ انتهى بصفقة يذهب من خلالها ابن لادن إلى السودان؛ ليمارس تجارته ودعوته هناك بعيداً عن الدول الخليجية وذلك مطلع العام 1990 ومع بداية اجتياح العراق للكويت.
ولادة السلفية الجهادية عالمياً
بعد ضغوط دولية غادر ابن لادن السودان عام 1996 متوجّهاً إلى أفغانستان التي كانت تسيطر عليها حركة طالبان. وأعلن الحرب على الولايات المتحدة الأمريكية. وفى عام 1998م تلاقت أيدولوجيته مع أيديولوجية أيمن الظواهري الأمين العام لتنظيم الجهاد الإسلامي المصري المحظور، وأطلق الاثنان بياناً يدعو إلى قتل الأمريكان وحلفائهم أينما كانوا، ونتيجة لبيانه، ارتكبت القاعدة تفجيرات عدة كنيروبي ودار السلام؛ والأخطر والأشهر تمثلت بأحداث أيلول/سبتمبر عام 2000ومن ثم تفجيرات مدريد 2004 ولندن عام 2005.
الأسس الإيديولوجية للسلفية الجهادية
السلفية الجديدة أدخلت تعديلات على المنهج السلفي التراثي القديم؛ يختلف في ايديولوجيته عن السلفية الحنبلية والسلفية الوهابية؛ إذ أصبحت السلفية الجديدة تقوم على مثلث مهم؛ لا بد من تحقق أضلاعه الثلاثة في الواقع المعاش.
الضلع الأول: صحة عقيدة ولي الأمر.
لا يجوز أن يتولى الحكم في البلدان الإسلامية إلا مَنْ كان ذا عقيدة صحيحة؛ ولا يوجد اعتقاد إسلامي أصح من الاعتقاد السلفي بحسب وجهة نظرهم. وكل حاكم يكون اعتقاده سلفياً فهو حاكم شرعي. والعكس صحيح.
الضلع الثاني: تصحيح الفقه التراثي.
الفقه الذي انتجته المذاهب الفقهية السنية الأربعة؛ تشوبه أخطاء كثيرة في العبادات والمعاملات وغيرها؛ ولا بد من تصحيح لتلك الأخطاء؛ فتولى تصحيح المسائل الفقهية هذه هيئة كبار علماء السعودية؛ فأصبحت فتاواها في كل شيء المرجع الأساس في السلوك السلفي شعائرياً وعبادياً، وساهم بذلك إلى حدّ كبير الشيخ ناصر الدين الألباني والشيخ عبد القادر أرناؤوط وهما دمشقيان من أصول ألبانية.
الضلع الثالث: جهاد الطلب.
حتى الآن لا مشكلة لأنظمة الحكم في الخليج مع السلفية الجديدة في ذلك التصحيح؛ إلا أن السلفية الجهادية أضافت الضلع الثالث لمنهجها؛ مما أدى لقطع شعرة معاوية بينهم وبين السلفية الجديدة وعلمائها وأتباعها؛ ومن خلاله نفهم سر الخلاف ما بين ابن لادن والحكومة السعودية بعد عودته من افغانستان. حيث أعلنت السلفية الجهادية أن الضلع الثالث يتمثل بجهاد (الطلب) وبه تجاهدُ العالمَ كله؛ وقسمته إلى فسطاطين؛ فسطاط الكفر وفسطاط الإيمان!
وبالتالي فإن أي نظام حكم في أي بلد مسلم؛ إنْ حقق الضلعين الأوليين للمثلث السلفي؛ ولم يحقق الضلع الثالث، فقد شرعيته؛ ووجب الخروج عليه؟! في حين أن علماء السلفية الجديدة لم يجدوا بأن ذلك الضلع واجباً شرعياً؛ إنما الجهاد أمر طارئ لا بد من أن يقرره ولي الأمر. هنا ظهرت السلفية المدخلية أو الجامية أو العلمية.
السلفية العلمية/ المدخلية؛ وصراعها مع السلفية الجهادية
قبيل حرب الخليج الثانية عام 1990 وبمجيء القوات الأمريكية إلى منطقة الخليج؛ بدأ خلاف حقيقي يدب ما بين دعاة السلفية الجديدة الشباب ومشايخهم الكبار؛ تمركز حول شرعية تواجد القوات الأمريكية في بلادهم؛ وموقفهم من الحكام المرحبين بذلك، فصب هذا الخلاف في مصلحة السلفية الجهادية؛ لتغدو أكثر جماهيرية؛ وبالتالي أصبحت نظرية الضلع الثالث (جهاد الطلب) ذات مصداقية، ولها أنصارها في الشارع العربي عموماً؛ ربما ليس إيماناً بها؛ ولكنه نكاية بالسلوك الأمريكي في المنطقة وتعاطفاً مع الحالة العراقية.
الإدارة الأمريكية آنذاك كانت في أوج انتصاراتها وعجرفتها؛ وبدأ مفكروها ومراكز أبحاثها تتحدث بعد انهيار الاتحاد السوفييتي عن مواجهة قادمة مع الأصولية الإسلامية؛ أسست في خطابها لثقافة (الإسلاموفوبيا) فجاء كتاب ريتشارد نيكسون الرئيس الأمريكي الأسبق (نصر بلا حرب) ليتحدث عن مرحلة جديدة يدخلها العالم بعد عام 1990 يكون قد تخلص فيها من الاتحاد السوفييتي؛ وحتى يفرض نمطه الجديد الذي نضّر له فوكاياما فيما بعد بـ (نهاية التاريخ) فإن العقبة الأساسية أمام ذلك تتمثل بالأصولية الإسلامية ولا بد من مواجهتها.
وهذا الطرح الأمريكي عزز نظرية السلفية الجهادية بأن المواجهة مع الغرب قادمة لا محالة؛ وأنّ الغرب هو من بدأها ونحن لها. وقد وردت عبارة في كتاب كيسنجر المذكور تمت ترجمتها سلبياً على الشكل التالي: سننتهي من المارد الأحمر(الشيوعية) ونتفرغ للمارد الأخضر (الإسلام) الذي أخذ خطه البياني آنذاك في تصاعد كبير عالمياً. إنْ من خلال الصحوة الإسلامية السنية؛ أو من خلال انتصار الثورة الإيرانية الشيعية المذهب.
هنا وجد الشيخ ربيع هادي المدخلي الحل بتبني السلفية العلمية التي تسمى عند خصومها المدخلية أو الجامية نسبة لمحمد أمان الجامي الاثيوبي الاصل وهو المؤسس الحقيقي لهذا التيار، وتُسمى أيضاً (حزب الولاة) وتدعو إلى حرمة الخروج على ولي الأمر أو التحريض عليه؛ أو مجالسة أو الاستماع لمن يدعو إلى ذلك.
هناك تفسيران لظهور السلفية المدخلية (العلمية):
الأول:
بهذه الرؤية للسلفية العلمية يتم تجنيب الدعوة السلفية المعلِنة عداوتها لإسرائيل وأمريكا والغرب وتنادي بجهاد الطلب؛ ضربة من قبل الغرب وأمريكا قد تودي بها؛ خصوصاً أن الإدارة الأمريكية تخلت عن الجهاديين السلفيين بعد أن حققوا لهم غرضها في أفغانستان بهزيمة الاتحاد السوفييتي! وأن الضربة الأمريكية لهم ستترك الساحة الإسلامية الدعوية شاغرة للأشاعرة والشيعة؛ فلا بد من انقاذ ما يمكن انقاذه.
الثاني:
وجدت السلفية المدخلية أن الخطاب السلفي بدأ ينحو باتجاه سيؤدي حتماً لصدام مع الحكام خصوصاً في المملكة العربية السعودية؛ وهذا سيضر بالدعوة السلفية كثيراً؛ وربما سيقضي عليها؛ خصوصاً أن الدولة في السعودية هي من تتبنى الدعوة وتنفق عليها؛ فأعلن بُعيد حرب الخليج الثانية عن تأسيس السلفية العلمية التي أخذ أنصارها يلقبون الشيخ المدخلي بإمام أهل السنة والجماعة، وفي أيديولوجيتها ترفض نهائياً الضلع الثالث الذي تطالب به السلفية الجهادية؛ كما ترفض التحريض المبطن على ولاة الأمر الذي بدا واضحاً في خطاب دعاة السلفية الجديدة أثناء وبعد حرب الخليج الثانية.
أكد منظرها الشيخ المدخلي أن الحاكم متى ما حقق الضلعين الأوليين التي قالت بها السلفية الجديدة؛ أصبح حاكماً شرعياً؛ لا يجوز الخروج عليه، كما أن الجهاد لا يكون إلا لضرورة كدفع الصائل وما شابهه فقط؛ وبإذن ولي الأمر تحديداً وتحت رايته. وأن الخروج على الحاكم يمثل فتنة كبيرة، لها تداعيات خطيرة على المجتمع والدعوة إلى الله هذا من جانب؛ ومن جانب آخر فإن حكام الخليج يحتضنون الدعوة ويدعمونها؛ وبالتالي فإن مخاصمتهم سيفقدها دعم الدولة المهم جداً؛ فأصدر فتواه: أنه لا يجوز مجالسة السلفيين الجهاديين فهم خوارج لخروجهم عن طاعة ولي الأمر؟ ولا الاستماع إليهم؛ ويجب محاربة فكرهم الضار بالدعوة إلى الله.
السلفية الجهادية وفقه التكفير والتطرف والإرهاب
بدأت السلفية الجهادية عملها في تلك البلدان؛ من خلال إطلاقها لفتاوى تكفّر الحكامَ والعلماءَ وأتباعهم، فبدأت ثقافة التكفير يتوحش أكثر من خلال عمليات التفجير والاغتيال والقتل داخل البلدان العربية بخاصة؟ وبلغت ذروتها في مصر منتصف التسعينات من خلال اغتيال مسؤولين مصريين؛ ومفكرين علمانيين كفرج فودة وقتل للسياح الأجانب فيها، ودخلت معارك شديدة مع أجهزة الأمن ومراكز الشرطة؛ قامت بها الجماعة الإسلامية المصرية التي نشأت بمصر ودعت إلى الجهاد لإقامة دولة الخلافة لتحكيم شرع الله، وكان أميرها الشيخ عمر عبد الرحمن الذي يقضي الآن عقوبة السجن المؤبد في الولايات المتحدة الأمريكية، ومن أبرز رموزها عبود الزمر وكرم زهدي وطارق الزمر؛ وهي مَنْ قام باغتيال الرئيس أنور السادات عام1981 في بداية عصر الذبح بالحادثة المشهورة.
ووقعت تفجيرات مرعبة طالت دول الخليج العربي أشهرها تفجير الخبر بالسعودية في 25 تموز/يوليو 1996 حيث تم استهداف مجمع سكني؛ يأوي جنود أجانب بالقرب من شركة النفط الوطنية (آرامكو) في الظهران بشاحنة مفخخة. ثم تفجير مجمع المحيا 2003 حيث قام أفراد من جماعة تنظيم القاعدة بمهاجمة مجمع المحيا السكني الذي يقطنه الآلاف من الجاليات الأمريكية والأوروبية والعربية غرب العاصمة الرياض بسيارة مفخخة، كانت حصيلة ذلك الهجوم (18 قتيلاً و122جريحاً) وباتت عمليات التفجير تأخذ طابعاً وحشياً لم تألفه المجتمعات من قبل؛ وغالباً ما كان تنظيم القاعدة يعلن مسؤوليته عن تلك التفجيرات.
ساهم الاحتلال الأمريكي للعراق؛ والدور الإيراني في ذلك الاحتلال؛ كما صرح بذلك علي أبطحي نائب الرئيس الإيراني الأسبق محمد خاتمي؛ إضافة للدور الذي قام به زعماء المعارضة العراقية الموالين لإيران؛ وما جرى إثر سقوط بغداد من عمليات تنكيل من قبل جماعات (شيعية المذهب إيرانية الولاء) ضد أفراد وكيانات ومجموعات سنية محسوبة على نظام صدام؛ أخذت طابعاً ثأرياً طائفياً؛ وتم تصوير الأمر إعلامياً على أنه انتقام يقوم به الشيعة ضد السنة. وفي ذلك كثير من الصحة؛ أضافة إلى حالات الاغتصاب والتهجير والانتقام.
أثناء وجودي في الرقة نازحاً إليها من الحسكة بعد مطاردة النظام لي هناك، التقيتُ بأبي فهد العراقي؛ أحد القادة العسكريين لداعش قبل استيلائها على الرقة، ودار بيننا حوار حول أمور كثيرة منها الذبح الوحشي الذي تقوم به داعش؟ فسألتُه: لِمَ كل هذه القسوة مع خصومكم؟ أجابني: لوكنتَ مكاني لفعلت أكثر مما نفعل! فاستغربت جوابه! فتابع قائلاً: أنا عن نفسي سأذبح أكثر! لقد اغتصبت الميلشيات الشيعية أمام عيني زوجتي وابنتي وأمي! ولكن الأكثر حزناً لي أنهم اغتصبوا كذلك والدي أمامي! ثم قتلوهم جميعاً وتركوني. وأفصح لي أبو فهد العراقي أنه كان ضابطاً في الحرس الجمهوري العراقي برتبة رائد. طبعاً ذلك ليس مبرراً للذبح الوحشي التي تقوم به داعش؛ لكنه يعطينا تصوراً كيف كان يؤسس لتجذير ثقافة الذبح في العقل؛ بطريقة ممنهجة؛ تجعل سلوك الذبح مبرراً عنده؛ وكردة فعل وحشية على فعل وحشي.
السلفية الجهادية في الانتفاضة السورية
لما بدأ الربيع العربي واشتعلت الانتفاضة السورية؛ بدأت السلفية الجهادية بالتسلل إلى صفوف المتظاهرين؛ وتدعو إلى عسكرتها! وتم رفد صفوف المتظاهرين بجرعة مهمة وخطيرة من التيار السلفي الجهادي؛ عندما أطلق سراحهم من سجن صيدنايا؛ منتصف عام 2011 فانخرطوا فوراً بالحراك الثوري؛ وأسسوا أهم الأجنحة العسكرية كجيش الإسلام وأحرار الشام وحتى جبهة النصرة.
أخذ التطرف صورته المتوحشة حينما تحول إلى الطرف الآخر رفيق السلاح والثورة والأيديولوجيا؛ حدث ذلك حينما وقع الخلاف بين داعش وجبهة النصرة التي رفضت أن تكون الذراع العسكري لدولة العراق الإسلامية في الشام؛ فبايعوا الظواهري ليرتبطوا تنظيمياً بالقاعدة، مما دفع البغدادي ومجلس شوراه كي يعتبروهم قد نكثوا البيعة معهم، وخرجوا عنهم. وبالتالي تجوز محاربتهم وقتلهم!
قبل احتدام التكفير والاقتتال بينهما؛ أخذت داعش تصفي بوحشية الكتائب التابعة للجيش الحر؛ لكونها تدعو إلى مشروع وطني بعيداً عن مشروع الخلافة الإسلامية الذي تدعيه داعش؛ ولها صلات بالإدارة الأمريكية كما ادعت داعش في فتوى محاربتها؛ كما حدث مع جيش أحفاد الرسول الذي أنهته داعش في يوم وليلة وأخرجته من المعادلة الميدانية نهائياً! ثم تابعت عمليات الذبح والتنكيل بالكتائب الأخرى بطريقة مفزعة، أدخلت الرعب في قلوب كتائب الجيش الحر وأفراده؛ مستخدمة ثقافة الذبح؛ وقدمتها للرأي العام بأشرطة فيديو على الطريقة الهولويودية؟ مما جعلها تربح معارك معهم دون اقتتال حقيقي؛ فالخوف من الذبح الداعشي؛ كان يدفع عناصر تلك الكتائب للفرار من مواجهتهم؛ وأصبحت ثقافة الذبح وتعليق الرؤوس وتصويرها وبثها على مواقع التواصل الاجتماعي حرباً جديدة، تؤرخ لوحشية العنف الذي وصل ذروته في الحالة السورية.
أصبح الميدان السوري نقطة جذب لكل مَنْ آمن بأيديولوجية السلفية الجهادية؛ وباتت داعش بعد أن ساهم الإعلام العالمي بشهرتها والحديث عن انتصاراتها المذهلة هي الأنموذج الأفضل لهؤلاء الشباب الذين توافدوا إلى سوريا لمبايعة الخليفة البغدادي والانخراط في صفوف جيشه من كل مكان بالعالم؛ ولقد شاهدتُ قبيل سيطرة داعش على الرقة مطلع عام 2014 شباباً من كل جنسيات العالم؛ جاءوا ليحققوا حلمهم بالجهاد في سبيل الله لإقامة شرعه وتحقيق الخلافة المزعومة.
استطاعت داعش خلال زمن قياسي أن تطرد كتائب الجيش الحر من المناطق التي حررتها من النظام؛ وتدخل في معارك صورية مع النظام؛ لتسيطر على قرابة (60%) من الجغرافية السورية؛ والأخطر من ذلك أنها قامت بنقل معركتها إلى قلب أوروبا؛ حتى تكسب متعاطفين معها كارهين للغرب، فوقعت هجمات باريس في نوفمبر/تشرين الثاني من العام 2015 شملت عمليات إطلاق نار جماعي وتفجيرات انتحارية واحتجاز رهائن، اقتحم المسلحون خلالها مسرح (باتاكلان) واطلقوا النار بشكل عشوائي، واحتجزوا رهائن، ومن ثم داهمت الشرطة المسرح، وأنهت عملية الاحتجاز، حيث فجّر ثلاثة من المهاجمين أنفسهم، وتعتبر الهجمات الأكثر دموية في فرنسا منذ الحرب العالمية الثانية.
ثم وصل الذبح بلجيكا من خلال سلسلة تفجيرات في22 آذار/مارس 2016 حيث وقع في مطار بروكسل الدولي تفجيران وتفجير ثالث في محطة مترو (مالبيك) ببروكسل، والغريب أنّ التفجيرات؛ وقعت بعد يوم من إلقاء القبض على صلاح عبد السلام المشتبه به الرئيسي في هجمات باريس التي تبنتها داعش.
أما في العراق فحدث عن ثقافة التطرف والإرهاب فيه ولا حرج؛ ما بين داعش والميليشيات الحشد الشعبي ومن الطرفين؛ إضافة إلى عمليات التفجير التي كان آخرها مذبحة الكرّادة ببغداد أواخر شهر رمضان الفائت؛ وكذلك العملية الإرهابية في الحرم المدني بأواخر شهر رمضان الماضي؛ وقوبلت بموجة استياء عارمة من المسلمين في كل مكان بالعالم؛ ناهيك عمليات تفجير في تركيا؛ كان آخرها عملية إرهابية بمطار اسطنبول في رمضان المنصرم.
ورغم أن جنون عصر التطرف والعنف تصاعد بعد دخول داعش الميدان السوري؛ ودورها في تهجير أبناء المنطقة الشرقية من بيوتهم؛ إلا أن العالم لم يتحرك لإنقاذ سوريا؛ بل ربما أقول: كان سعيداً بذلك. إذ إن دخول داعش وأخواتها على خط الثورة؛ يعفيه من استحقاقاته الإنسانية والأخلاقية كما يظن! وكذلك بقدوم الجهاديين الأوربيين إلى سوريا؛ يكون قد تخلص من بؤر إرهابية، كانت كامنة في مجتمعه؛ وخلايا نائمة تهدد أمنه.
التوصيات والخاتمة
هذا العنف المتوحش منذ انتصار الثورة الإيرانية حتى عسكرة الانتفاضة السورية؛ دفع المجتمع العربي عموماً والسوري خصوصاً؛ ليكفر بالإسلام السياسي الذي سطا على ربيعه الثوري؛ وحرف مساره من حالة سلمية راقية؛ نالت إعجاب العالم كله باتجاه عسكرة أحالت سوريا إلى بلد مدمر ذات شعب مهجر في أطراف الأرض؛ لكنه بقي مؤمناً بالإسلام.
لذلك نحن بحاجة ملحة لوقفة متأنية من دعاة الإسلام السياسي ليقوموا خلالها بمراجعات جادة. فينزعوا من عقولهم أحلام مستحيلة التحقق في عصرنا؛ فلا الحاكمية الإلهية صحيحة كما يطرحونها، ولا الخلافة أصل من أصول الدين. إنما هي شكل من أشكال الدولة؛ تجاوزه عصر الحداثة وتطور شكل الدولة.
كذلك فإن نظرية تقسيم العالم إلى فسطاطين فسطاط مؤمن مجاهد؛ وآخر كافر تجب محاربته ومعاداته؛ ما قالها القرآن الكريم! ولا دعا إليها رسولنا الكريم محمد؛ إنما هي تأويلات إلغائية لنصوص في السنة النبوية؛ ثبت عدم صحة الكثير منها؛ أو نسَخَها فعلُ النبوة؛ وعلى رأسها ما أسس لثقافة الذبح المتمثلة بحديث: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله. المخالف لعموم النص القرآني. وحديث: جئناكم بالذبح. فهو حديث فيه علة بسنده؛ لا أعلم لِمَ صححها بعض علماء الحديث؛ وكذلك حتى لو صحت تلك الأحاديث، فإن النبي نسخها بفعله لما دخل مكة فاتحاً، مؤسساً ثقافة العفو والتسامح عند المنتصر وناسخاً حديث الذبح (إنْ صحّ) حيث قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء. لم ينتقم من أحد؛ ولا أجبر كبار قريش وأعداء الأمس على الإسلام.
ولا بد لجنون السلفية الجهادية وعمليات الثأر الطائفي الشيعي أن تتوقف؛ ولا يعتقدنّ أحد أن قتال ومحاربة ثقافة التطرف يقضي عليها؛ إنما يحتاج القضاء عليها إلى فكر واعي وعقل إنساني منفتح على الآخرين؛ وإصلاح حقيقي للفكر الديني؛ يخلص الإسلام من عبء تراث فقهي؛ كُتب بعقلية إلغائية للآخر؛ الإسلام بريء منها؛ حتى يعود الإسلام إلى إنسانيته التي اغتصبها منذ زمن غير بعيد فقهاء؛ احتكروا حق المعرفة الدينية؛ وأسسوا لثقافة الذبح في كتبهم وحواشيهم وشروحهم، ومنحوا الاستبداد مشروعية دينية؟!.
آن الأوان لنعود إلى إسلام القرآن بعيداً عن آية السيف الموهومة؛ وندع إسلام الحديث؛ من خلال مراجعات حقيقية؛ تقول للآخر: إن الدين جاء لخدمة الإنسان وليس العكس؛ وأن الأرض يرثها عباد الله الصالحون؛ وليس القتلة؛ ولا عشاق الدماء؛ إنما كل مَنْ يقدم خيراً للبشرية بغض النظر عن دينه أو لونه أو قوميته؛ حينئذ سيتحقق الوعي الذي هو معركتنا الأولى؛ ويعمل العقل المغيب منذ قرون؛ وتنمو روح الإنسانية فينا؛ عندها سنخرج من الثقافة الخشبية، وسيعلم الذين تخشبوا أي حطب كانوا. وكم أساءوا لدينهم.
عندئذِ نعي أن إكراه الآخرين على وجهة نظرنا؛ نظرية ثبت فشلها! وهي مرفوضة قرآنياً. وأن السياسة هي استكشاف الخيارات الممكنة في ظل توازن القوى على الأرض واحتمالات الخسارة أو الربح على المدى البعيد. وأن الدين يجب أن يبقى متطهراً من فساد السياسة ورغباتها السلطوية؛ وأن الدولة الحضارية والإنسانية والأخلاقية في مجتمع متعدد المكونات؛ يجب أن تكون حيادية؛ لتخدم كل مواطنيها دون تمييز عرقي أو ديني أو طائفي؛ فتحقق النمو والازدهار.
أما إذا بقي الإسلامويون متكئين على تراث عفا عنه الزمن؛ فإن النتيجة الحتمية أنموذج داعش والولي الفقيه؛ وصراع طاحن يُطيل عصر الذبح؟ وليعلم أمراء الإسلام السياسي؛ أن شرعيتهم وصوابية منهجهم لا تتحقق باستلامهم السلطة؛ إنما الشرعية لإرادة الشعب؛ يمنحها لمن يؤمن لها الأمن والأمان؛ ويحق له التنمية؛ وينقله حضارياً إلى مصاف المجتمعات المتقدمة؛ وليس لمن يسوقه إلى الصلاة بسلطان الخوف من الذبح؛ ولا مَنْ يجبرهم على زي معين؛ وهيئات محددة؛ تنتمي لعصر فات أوانه. أو يدعي احتكار الحق الإلهي.
إن العقبة الحقيقية التي تمنع دخولنا المعاصرة هي ثقافية تراثية بالدرجة الأولى مبتدعة، شارك في تأطيرها الاستبداد وفقهاؤه، أدت إلى قصور في الوعي الواقعي، فتولدت عنها أزمة سلوكية، تقدس ثقافة الموت؟ ولا تقيم وزناً لثقافة الحياة والتعايش الإنساني.
وإنْ صحت نظرية أن الآخر يخطط لتدميرنا، فمن العار والجنون؛ أن نساهم في تنفيذ مخططاته بدعوى تحقيق حلم شرعي. فمعركتنا الأولى والأهم؛ هي الوعي أولاً وثانياً وثالثاً.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مركز أبحاث ودراسات مينا.