إخفاء لحقيقة الأعداد وواقع طبي سوري متردي، تمثل بنقص الكوادر بين هجرة سنوات الحرب العشر الأخيرة، وفايروس كورونا المستجد في السنة الفائتة، والذي استفحل منتشرا داخل المجتمع على امتداد الخارطة السورية، واصلا للكوادر الطبية الشحيحة، حاصدا منها المئات، وسط حديث بوصول لقاح لم تحدد ماهيته بعد، خلال الربع الحالي من العام، قد لا تستطيع مناطق من الحصول عليه لأسباب سياسية وعسكرية، ولا تقوى مؤسسات طبية على حفظه لأسباب لوجستية.
وثق تقرير لمصادر حقوقية اليوم الإثنين، وفاة 181 طبيبا منذ تسجيل أول حالة في سوريا قبل نحو تسعة أشهر، سبعة منهم في الشمال الغربي الذي تتقاسم السيطرة المعارضة الموالية لتركيا وطبيبان في الشمال الشرقي الخاضع لسيطرة “الإدارة الذاتية” ذات الغالبية الكردية، والباقي توفي في مناطق سيطرة نظام الأسد.
وفي شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، قالت منظمة العفو الدولية في تقرير لها، إن وزارة الصحة السورية لا تنشر معلومات حول تأثير الفيروس على العاملين الصحيين، وإن المعلومات الوحيدة المتاحة هي التي تقدمها الوزارة إلى الأمم المتحدة.
أرقام صادمة ووضع مزري..
وزارة الصحة التابعة للنظام السوري تقول إن أعداد الإصابات وصلت حتى اللحظة إلى قرابة 12 ألف إصابة، توفي منهم 723، فيما تؤكد مصادر حقوقية نقلا عن مصادر طبية في المستشفيات السورية أن الرقم الحقيقي لأعداد الإصابات بلغ قرابة 140 ألف، حصد أرواح قرابة 8500 شخص.
وكانت الأمم المتحدة قد أكدت في أكتوبر/ تشرين الاول من العام الماضي أن تفشي فيروس “كورونا المستجد” في سوريا “أكبر بكثير من الحالات التي تم تأكيدها”، لافتة إلى أن “غالب الحالات انتشرت بسبب انتقال مجتمعي، وهناك صعوبة إمكانية تتبع 92% من الإصابات المؤكدة رسميا”.
مصادر طبية خاصة بـ “مينا” أفادت بأن الأعداد الحقيقية داخل مناطق سيطرة النظام تجاوزت المليون إصابة وأعداد الوفيات يبلغ عشرات الآلاف، وسط حالة مادية متردية تمنعهم من مراجعة الأطباء، الذين بدورهم يمتنعون عن استقبال الحالات المشكوك بإصابتها في عياداتهم الخاصة، إضافة إلى الازدحام الكبير في أقسام الإسعاف في المستشفيات السورية، التي وصفتها المصادر بالبؤرة الأكبر لانتشار الفايروس في سوريا.
“محمد الحامد” مواطن سوري قال لمرصد مينا أصبت بالفايروس أنا وثلاثة أفراد من عائلتي، ذهبت بأمي الكبيرة في السن لأكثر من طبيب في منطقة الميدان بدمشق، وجميعهم لم يستقبلونا، داعيين للذهاب إلى المستشفى التي يفترش فيها المواطنون الأرض بانتظار دور قد لا يلحق بهم، مما اضطرنا فقط لاستشارة صيدلاني قريب لنا، أعطانا بعض الأدوية ساعدتنا على قضاء فترة الحجر الصحي في المنزل.
“نسرين الشيخ” بدورها تقول عجزنا ونحن نبحث لخالي عن أسطوانة أوكسجين في مستشفيات دمشق، إلا أننا لم نجد إلا في إحدى مستشفيات محافظة القنيطرة المجاورة، لكن بعد فات الأوان، فلفظ خالي أنفاسه الأخيرة ونحن في الطريق إلى القنيطرة.
وتضيف “الشيخ” “للأسف المحسوبيات والمعارف تسيطر على الوضع الطبي في كل المستشفيات الحكومية، وتخصص المنافس وغرف العناية المركزة، لمن لديه علاقة بأحد الأطباء أو إدارة المستشفيات”.
وهذا ما أكدته منظمة الصحة العالمية في تقرير نوفمبر الماضي، اعتمادا على شهادات أقارب مرضى مصابين بالفيروس في سوريا، إذ شرحوا اضطرار المستشفيات العامة إلى عدم استقبال المرضى، بسبب نقص الأسرّة و خزانات الأوكسجين وأجهزة التنفس الصناعي.
لقاح مجهول منتظر..
أواخر شهر ديسمبر الفائت أعلنت مديرية الأمراض السارية التابعة لنظام الأسد في سوريا أن البلاد بدأت مفاوضة منظمة الصحة العالمية لتأمين لقاح فيروس “كورونا المستجد” (كوفيد- 19) في البلاد.
ونقلت مواقع إخبارية محلية عن مدير منظمة الإسعاف والطوارئ بوزارة صحة حكومة النظام “توفيق حسابا”، أن الوزارة ستتلقى لقاح ضد فيروس “كورونا المستجد” (كوفيد-19)، متوقعًا أن يصل اللقاح في الربع الأول من عام 2021.
وعن نوع اللقاح القادم قال “حسابا””حتى الآن لم تعرف نوعية اللقاح الذي سيتم تزويدنا به، وهذا الأمر يعود إلى أن منظمة الصحة العالمية هي من ستعتمد اللقاح الذي سيتم تزويد الدول به”، لافتًا إلى أن “الصحة العالمية” وعدت بتوفير اللقاح في الربع الأول من العام الحالي، “لكنها لم تؤكد هذا بشكل قاطع حتى اللحظة”، مشيرا إلى أنه لا يزال سعر اللقاح الذي ستختاره المنظمة وتزود حكومة النظام غير معروفًا.
وتعتمد منظمة الصحة العالمية حتى اللحظة لقاح فايزر “الاميركي – الألماني” عبر منصة “كوفاكس”، لضمان وصول اللقاحات المعتمدة إلى الدول الأقل نموًا في العالم بشكل عادل، إذ وضعت منظمة الصحة العالمية سوريا بين قائمة الدول الـ 92، من فئة البلدان المنخفضة الدخل، التي ستدعمها لتلقي اللقاح ما إن يتم اعتماده.
وبالتزامن مع تصريحات “حسابا”، قال عضو الفريق الاستشاري المعني بالتصدي لـ”كورونا”، الدكتور “نبوغ العوا” “إنه من الممكن اعتماد اللقاحين الصيني أو الروسي، موضحًا أن اللقاح ليس مرتبطًا بمنظمة الصحة العالمية”.
تحديات استقبال اللقاح..
في ظل انقسام المناطق السورية بين إدارات مختلفة، يخضع استقبال اللقاح إضافة للتحديات الاقتصادية إلى أخرى سياسية وعسكرية، والأهم هي لوجستية في ظل انقطاع شبه تام للتيار الكهربائي تشهده كافة المناطق على اختلاف المسيطر عليها، تمنع من تخزين اللقاح في حال تواجده، ولا سيماأان الأمم المتحدة تعتبر أرقام الإصابات غامضة وتصفها بمستحيلة الإحصاء.
منظمة الصحة العالمية وضعت بحسب أحدث تقاريرها مؤخرا في ديسمبر / كانون الاول الماضي ضمن أولوياتها العمل مع وزارة الصحة التابعة لنظام الأسد على استراتيجية توزيع اللقاح، وذكر التقرير أن العمل على إيصال اللقاح يبدأ من تقييم المتطلبات والثغرات الصحية واللوجستية، بما فيها التخزين والقدرة على الحفظ، وكان ذلك أول ما لوحظ مع نقص المنشآت المتاحة للحفظ بالدرجة المطلوبة التي تبلغ -25 درجة مئوية.
مصادر مينا الطبية أفادت بأن آلية تخزين اللقاح وحفظه، تعد تقريبا أمر شبه مستحيل مع انقطاع التيار الكهربائي المستمر، مما سيلزم تأمين مولدات ضخمة لبرادات الحفظ، ومعه مادة المازوت التي تكاد تكون مفقودة في سوريا.
أما في الشمال الشرقي والغربي لسوريا، إضافة إلى اللوجستيات، فالمعاناة الأكبر هي في طرق استقبال اللقاح في ظل وضع عسكري سيئ يشهد اشتباكات شبه دائمة، وغياب تام لعمل المنظمات الإنسانية بعد تقليص الدعم الدولي لها وإيقاف بعضها عن العمل من قبل الحكومات المجاورة، وإغلاق المعابر الحدودية مع دول الجوار.
عودة إلى نجها
يشار إلى أن النظام استمر طويلا في الامتناع عن نشر أرقام حقيقية لعدد الاصابات والوفيات، ومازال مستمرا في ذلك، بحسب المعلومات الواردة من مصادر الداخل السوري.
وفقاً لما قاله مصدر خاص من داخل الكوادر الطبية العاملة مع النظام، لمرصد مينا، في وقت سابق فإن النظام خصص المقبرة واسعة المساحة والبعيدة نسبياً عن المناطق السكنية، لتكون مكان لدفن المتوفين بالوباء التاجي، مشيراً إلى أن بعدها عن المناطق المأهولة ساعده بالمزيد من التكتم على الإحصائيات الحقيقية.
إلى جانب ذلك، يوضح المصدر، أن المقبرة تلقت خلال شهر آب الماضي وحده، معدل دفن موتى أعلى بضعفي قدرتها الاستيعابية اليومية، والتي تقدر بما يتراوح بين 40 إلى 50 جثة يومياً، لافتاً إلى أن معدلات الدفن في بعض الأوقات وصلت إلى ما يتراوح بين 80 إلى 90 جثة في اليوم الواحد.
وكانت الإحصائيات غير الرسمية، التي أصدرتها بعض الجهات الطبية، قد أكدت أن مدينتي دمشق وحلب، هما الأكثر تسجيلاً للوفيات والإصابات بالفيروس التاجي، منذ ظهوره وحتى الآن.
في السياق ذاته، يضيف المصدر: “اختيار النظام لمقبرة نجها، يساعده على خلط الوفيات الناجمة عن كورونا بالوفيات الناجمة عن الحرب، كونها المقبرة التي خصصها خلال السنوات العشر الماضية لدفن ضحايا العمليات العسكرية”.
النعوات تكشف المستور
على الرغم من محاولات التكتم والتشديد على سرية المعلومات الطبية فإن النعوات المنشورة على مواقع التواصل الاجتماعي، تشير بشكل لافت إلى تزايد معدلات الوفاة في سوريا خلال الأشهر الأربعة الأخيرة، بحسب ما يؤكده الناشط، “أبو رامي”، مضيفاً: “خلال اليوم الواحد يظهر أمامي ما لا يقل عن 4 نعوات لأشخاص أعرفهم في سوريا، وعلى الرغم من عدم كتابة سبب الوفاة إلا أن خلال مشاركتنا في العزاء تكشف عوائل المتوفين بشكل غير مباشر عن ارتباط الوفاة بكورونا”.
كما يشير “أبو رامي” إلى أن تلك النعوات المنشورة على صفحات التواصل الاجتماعي، تثبت بشكل قاطع وجود فجوة كبيرة بين إحصائيات النظام وبين الواقع، لافتاً إلى أن أسرته فقدت أربعة من أفرادها، خلال شهري حزيران وتموز الماضيين، بسبب كورونا، في حين أخرجت سلطات النظام شهادات الوفاة بالسكتة القلبية والالتهاب الرئوي الحاد.
الطامة الكبرى في القطاع الصحي السوري، بحسب ما أشارتإليه المصدر، يتمثل في عدم وجود اسطوانات أكسجين كافية وعدم وجود أسرة وافتقاد الكوادر الطبية السورية للخبرات اللازمة للتعامل مع الوباء، مشيراً إلى أن النظام الصحي السوري عاجز تماماً عن تقديم أي شيء للمرضى، لدرجة أن لا فرق بين بقاء المريض في منزله أو توجهه إلى المستشفى، في حال تمكن من تأمين إسطوانة الأوكسجين اللازمة له، وهو ما يعتبر بحد ذاته تحدياً كبيراً أمام المرضى، على حد وصفه.
كما يختم المصدر حديثه مع مرصد مينا، بالتأكيد على أن كورونا أباد عوائل بأكملها، كاشفاً أن إحدى الحالات، التي تابعها، توفيت فيها الأم وتلاها ولداها، وذلك خلال ثلاثة أيام فقط، مشيراً إلى أن عجز المستشفيات عن استقبال المرضى وعزلهم وبقاء المصابين في منازلهم، ساهم في انتشار العدوى بشكل كبير بين الأسر، وأن رهان السوريين اليوم، بات متعلق برحمة الله وقدرتهم الخاصة والبدنية على مواجهة المرض.