هل فشلت ثورات الربيع العربي؟ بقراءات الرغبة “لا”، فالرغبة “ادب” أما الوقائع فهي “علم”، والعلم يقود إلى الإقرارات الصعبة، وكذلك القرارات الصعبة، وكلتيهما “القرارات و”الإقرارات” موجعة لمن توهجت أحلامه ثم جاءت الوقائع لتسقطه في توهجها.
قبل مدة ليست بعيدة، كان الصحفي رفيق خوري، قد استعان بالشاعر الفرنسي “بول فاليري”، لينقل عن الشاعر العظيم قوله:””الثورة تُنجز في يومين عمل 100 سنة، وتخسر في سنة إنجاز خمسة قرون”، واستلهامًا من كلام فاليري كتب يقول بأن الثورات، على اختلاف أشكالها، محكومة بمعادلة لا مهرب منها: “إما أن تبني دولة، وإما أن تفشل.. إما أن تغير المجتمع، وإما أن يبتلعها المجتمع التقليدي”. وساقه هذا الاستخلاص إلى مراجعات للثورات “الأم” في تاريخ البشرية فالثورة الفرنسية سقطت بممارسة ما سمي “العنف الثوري” والصراع بين أركانها من دون أن تبني دولة، فجاء نابليون بونابرت ليشن حروباً لا تنتهي ويقيم إمبراطورية.
فكان أن:
أورثت الثورة التي أسقطت الباستيل، أورثت خلاصاتها ودماء شبابها للإمبراطور الذي انطلقت من بعده البونابرتية باعتبارها مصطلحًا يجثم على كاهل التاريخ.
الثورة البلشفية في روسيا لم تستطع بناء دولة إلا بعد أن تبنت شعار “بناء الاشتراكية في بلد واحد”، وتخلت عن شعار تروتسكي “الثورة الدائمة”. وهي صنعت قوة عظمى عسكرياً، ولكن بساقين اقتصاديتين من فخار، فسقطت الدولة، ومعها الاتحاد السوفياتي.
الثورة الشيوعية في الصين بقيادة ماوتسي تونغ وجدت صعوبة في بناء الدولة، فحاول ماو تجديد الثورة تحت عنوان “الثورة الثقافية” التي كانت كارثة، حتى قام دينغ شياو بينغ بعد وفاة ماو ببناء الدولة والاقتصاد والعودة إلى كونفوشيوس بدل “الكتاب الأحمر”. ثورة الإمام الخميني الإسلامية في إيران أصرّت على أن تبقى ثورة من دون أن تبني من الدولة سوى القوة العسكرية والصاروخية. وهي في مواجهة يومية مع تظاهرات المواطنين المطالبين بضمان العيش الكريم لهم. وفي صدام مع قوى إقليمية ودولية، لكنها عملياً في حال: لا ثورة ولا دولة.
والمشهد معبر جداً في ما قادت إليه ثورات “الربيع العربي”… “ثورة الياسمين” في تونس التي كانت البداية، أمسكت بها حركة “النهضة” الإسلامية بزعامة راشد الغنوشي ضمن تحالف مع قوى “علمانية”، فكانت فوضى السلطة في دولة دستورها جيد، والصراع داخلها حال دون تقديم الخدمات للناس التي صنعت الثورة. وهكذا سقطت الثورة مرتين: مرة بالصراعات البرلمانية والانشقاقات الحزبية التي حالت دون إيجاد حلول للبطالة والمديونية والفساد. ومرة باستخدام الرئيس قيس سعيد للمادة 80 في الدستور معلناً “ثورة تصحيح” من فوق، بحيث حل المجلس النيابي والحكومة ومجلس القضاء الأعلى، ووضع كل السلطات في يده من دون أن يتبدّل شيء في معاناة الشعب المعيشية. فهو دخل وأدخل البلد معه في سرداب يصعب الخروج منه. ولا شيء يوحي أن المخرج هو الاستفتاء على دستور جديد يلغي تعبير السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية ويسميها “وظائف”، لأن “السيادة للشعب والبقية وظائف وليست سلطات”. أما النظام، فإنه “ليس رئاسياً ولا برلمانياً”، ولا نص فيه على دين الدولة، بل على أن “الإسلام دين الأمة”، لأن الدولة “ذات معنوية مثل الشركة أو المؤسسة العمومية”. والهدف حسب الرئيس سعيد، هو تحقيق “وحدة الدولة” لأن ما حصل منذ 2014 هو “تفكيك الدولة”.
ثورة ليبيا انتهت إلى فوضى برعاية الأمم المتحدة والدول الكبرى والقوى الإقليمية: ميليشيات جهوية، وميليشيات أيديولوجية إسلامية. مجلس نواب انتهت ولايته وبقي. مجلس دولة انتهت ولايته وبقي. مجلس رئاسي وحكومة جاء بهما مؤتمر في جنيف بإشراف الأمم المتحدة فشلا في مهمتهما، وهي إجراء انتخابات نيابية ورئاسية في نهاية العام الماضي، ولم يغادرا المسرح… “حكومة الوحدة” برئاسة عبد الحميد دبيبة و”حكومة الاستقرار” برئاسة فتحي بانشاغا، حيث لا وحدة ولا استقرار. جيش في الشرق وبقايا جيش في الغرب ومرتزقة من كل طرف. ومخاطر العودة إلى حرب أهلية.
ثورة السودان ضربت بانقلاب المكون العسكري على المكون المدني، من دون القدرة على بناء دولة وحتى على تعيين حكومة. لا وساطة نجحت حتى الآن عبر “الآلية الثلاثية”، ثم “الآلية الثنائية”. والعسكر يمسكون بسلطة عاجزة عن فعل أي شيء سوى العنف ويخافون تركها. والمدنيون يتظاهرون يومياً في الشارع لتجديد الثورة. بلد “سلة الغذاء” للعالم العربي جائع. ولعبة العسكر هي إعادة حكم “الإخوان المسلمين” من دون عمر البشير. ثورة اليمن تحولت إلى حرب لا تنتهي. ثورة سوريا قادت إلى تحكم خمسة جيوش أجنبية بالبلد، وصعود تيارات إسلامية متشددة بينها “داعش” و”القاعدة”. وثورة تشرين في العراق ضد “الاحتلالين الإيراني والأميركي” انتهت إلى تحكم وكلاء إيران بالسلطة.
ثورات الربيع العربي:
إنها الصورة القاتمة والنتيجة القاتلة والمحبطة، حتى ولو أنهى الكاتب ماكتب بالقول:
لكن الثابت في متغيرات الثورات هو أن الأزمة التي قادت إلى الثورات مستمرة ومتفاقمة، ولا بد من إيجاد حلول لها مهما طال الزمن.
ـ وهاهي التجربة السورية، وقد تكون الأشد مرارة من بين مجموع الثورات المجُهضَة من بين ثورات الربيع العربي، اقله وقد انتهت بتدمير مدن سوريا وتهجير مايزيد عن نصف سكانها، وسوق آلاف المناضلين وأصحاب الرأي إلى ساحات الإعدام وزنازين السجون، وعلى كل هذه النتائج المكلفة، بل وباهضة الثمن لم يتوقف أحد حتى اللحظة بنقد التجربة، وقراءتها بعين المؤرخ أو بعين االفيلسوف، والوقوف معها بـ “عين الشاعر وحده” وهي عين الرغبة لاعين الوقائع.
رهاب نقد التجربة:
ابتدأت ثورة خالية من الشوائب والتدخلات الخارجية كانت ثورة شعب أعزل طالب بحقوقه المشروعة والمحقة.. مظاهرات سلمية.. عصيان مدني.
ثم كان التحول القاتل الذي خطط له النظام ووقعت الثورة في فكان “السلاح” والسلاح يعني منازلة الخصم على أرضه وبالوسائل التي يتقنها ويمتلك أدواتها، وفعلاً تم تحقيق إنجازات على الأرض من قبل الجيش السوري الحر حتى هذه المرحلة لم يكن هناك أي تدخل خارجي يُذكر بمسار الثورة وانتصاراتها على الأرض.
ثم جاءت المرحلة اللاحقة، ونعني بها الاستعانة بالخارج، وأي خارج؟
خارج فيه إسرائيل المجاورة وفي حال سقوط نظام الأسد الضامن لأمنها واستقرارها، قد يؤدي لجلب نظام آخر معادي لإسرائيل ومهدد لأمنها، . فكان الإسرائيلي أول الداعمين للنظام، حتى ولو اختفى في خلفية المشهد، ومازال داعمه حتى اللحظة، فكانت نتائج الاستعانة بالخارج أن اشتغل الخارج على كل ما يفسد الثورة، وينقلها من “ثورة شعب”، إلى استثمار لنخب لم تكن يومًا ممثلة للناس والشعب، نُخب بلا تاريخ، ولا حاضر يمنحها حق أن تدخل التاريخ، فانتقلت الثورة من ثورة الشارع أو معارضات الفنادق، ومع هذه المعارضات مشت كل المشاريع التي تسقط الثورة، فتبيع الثورا وتشتري من النظام، حتى أن هذا الخارج لم يتحرك لحظة في الميدان الذي كان عليه أن يتحرك به:
- لم يمنح الثوار السلاح المضاد للطائرات.
- لم يرفع الصوت بمواجهة نظام استخدم القصف الكيماوي على المدنيين ومدن المدنيين وأرياف المدنيين.
- وكتفى بالإدانة والاجتماعات الوهمية، للتعبير عن رفضها لمجازر النظام وسياساته القمعية، دون اتخاذ أي إجراء مباشر على الأرض يساعد في حقن الدماء وإنصاف المظلومين.
ـوكان الخارج خارجين”:
- خارج “الثورة” الذي لم يقدم للثورة سوى التصريحات التي لاتمنح قيمة لثورة.
- وخارج السلطة، فكان التدخل الروسي والإيراني والميليشيات المساندة وقد سيطرت على جميع مرافق الدولة، فعم الصمت وانخفضت وتيرة التهديدات ضد النظام، وبدأت السياسة الناعمة تطفو على السطح، وأصبحت روسيا المتحدثة الرسمية، وصانعة القرارات والمفاوضات باسم النظام والمتحكمة بكل شيء سياسياً وعسكرياً.
بات المشهد بالغ الوضوح ومن الصورة، ترك االشعب لمصيره بمواجهة قوى دولية، وجيوش دولية، وميليشيات تشكل الإسناد لتلك القوى والجيوش، فسقطت الثورة ولم يبق على الدولة، ومع سقوط الثورة انتعشت الميليشيات، العصابات، قطاع الطريق، التنظيمات الرادديكالية بالغة التطرف، واستثمر النظام فيها حتى باتت يافطته تحمل عنوان:
محاربة الارهاب.
وكان الارهاب من صنعه، ومن يقرأ كتاب “السلطة السوداء” للألماني كريستوف رويتر، يعرف بالتمام والكمال كيف ولدت “داعش” من رحم النظام، ويعرف بالتمام والكمال جدية ماكتبه كريستوف رويتر، فوفق رويتر أن “المفارقة تكمن في أن صعود داعش لم يكن ممكنًا لولا ثورة الناس في سوريا وقبلها في تونس ومصر وليبيا، على الدكتاتورية والاضطهاد”، ليتابع في مكان آخر ” من خلال هذا الواقع بدأت تنحسر الدكتاتورية، فنشأت مستوطنات “داعش”، كما تستوطن الطفيليات الحيوانات المضيفة” فـ “انتهزت العقول المدبرة في داعش الفرصة التي أتيحت أمامهم خلسة في سوريا للتغلغل في جسد البلاد، وبدأوا خطوة بخطوة بتوسيع نفوذهم، وقد ساعد داعش في صعودها ضباط من استخبارات النظام الذين سهلوا قبل سنوات مرور متطرفين من جميع أنحاء العالم عبر سوريا الى تنظيم الدولة في العراق”، ومع صعود داعش، باتت ثورة الناس بمواجهة ثالوث:
- نظام دولي استعانت به الثورة، فكانت استعانة محتضر بميت.
- حلفاء دوليون للنظام أشد بأسًا في النظام من النظام، وقد باعهم النظام البلاد.
- وفصائل متطرفة اشتغلت من حساب ولحساب النظام ووهبته المظلة التي بوسعه التحرك تحتها، حتى بات العالم كل العالم حليفًا للنظام في مواجهة الإرهاب.
فكانت النتائج “ثورة يتيمة”، وبلاد بلا دولة.
لم تنتصر الثورة ولم يبق على الدولة، فانتقلت البلاد من وطأة الدكتاتوريات، إلى فوضى السلاح، وفوضى الحياة، مع احتمالات تقسيم البلاد، لا إلى كانتونات ودول قزمة فحسب، لا .. بل إلى ازقة تديرها الميليشيات، وتستثمر فيها الميليشيات، أما الناس فيبتلعهم الصمت أو البحر.
ثورة مجهضة، ودولة تائهة وراء ما لايحصى من الاحتمالات.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مركز أبحاث ودراسات مينا.