وحدة الدراسات الفكرية والفلسفية
وُلدَ المفكر السوري الطيب تيزيني في مدينة حمص عام 1934، ونشأ في بيت معرفة وثقافة، واستطاع من خلال مضافة والده الفكرية والثقافية أن يلتقي بشخصيات مختلفة ذات اتجاهات فكرية متباينة، وحين انتهى من دراسته الثانوية اختار دراسة الفلسفة، ونال فيها درجة الدكتوراه مرتين.
بقيت حمص تنهض في وجدان الطيب تيزيني، فقد قال فيها: “حمص في حياتي هي المبتدأ والمنتهى، وهذا لا يعني إغفال حقّ المدن التي زرتها، وأخذت كثيراً منها، خصوصاً فيينا وبرلين”. ولكنّ ما جرى لحمص يحزّ في روح الطيب، فيشعر بالأسى، ويقول عنها: “حمص كانت وما تزال تعاني شظايا هذا العالم”.
البيئة التي ضمّت بجناحيها الحانيين الطيب تيزيني كانت بيئة منفتحة على الفكر والثقافة والأدب والفلسفة والفنون، ولكن البداية كانت بدايةً دينيةً، كان والد الطيب رجلاً متديناً، ولكن تدينه لم يكن من النوع المغلق على الفكرة والذات، بل كان تديناً منفتحاً على الآخرين وأفكارهم “كانت مضافة مصطفى تيزيني هي ما يمكن أن نسميه “صالون ثقافة” وقد التقى الطيب في هذا الصالون بشخصيات كثيرة، ولعلّ من أهم الشخصيات التي كانت تتردد على الصالون الشيخ طاهر الرئيس والخوري عيسى أسعد”.
لقد عرف الطيب عبر المضافة الثقافية “قوناق” وهي تسمية تركية تعبر عن معنى صالون أو مضافة أن الأفكار التي نأخذ بها ليستً وحيدةً، بل هناك عالم آخر من الأفكار. إن سعة هذا العالم الفكري تضطرُ الإنسان إلى التواضع والتفكير عميقاً في هذه السعة.
الطيب تيزيني رجل يحب المشي على قدميه، ولا يتمنى أن يركب سيارة، فالمشي هو تعرف هادئ إلى العالم “المشي حالة فريدة من التعلّم والتعرف إلى الحياة، لأرى ما أراه، وأسمع ما أسمعه، وأنا أسير وأتحرش بحالات كثيرة خصوصاً الفقراء”.
هذا الاتصال المباشر بين وعي الطيب تيزيني ووعي الناس المارين به، أو ممن يقيم معهم حوارات ومناقشات، ويُصغي إلى أفكارهم، ويتأمل طريقتهم في التعبير عن هواجسهم وأحلامهم وحاجاتهم، هو أسلوب تعلّم مختلف، أسلوب يخلق متعة المعرفة، ولكنّ الطيب اكتشف في شبابه أنّ حمص مركز سياسي وثقافي مهم في سوريا.
يقول الطيب: “إنّ رجالات حمص ومجموعاتها الشبابية ولّدت حالات لا تُنسى” كانت التظاهرات تخرج من المدارس في مناسبات عدّة، وكان الطيب يساهم فيها مباشرةً، فقد تعلّم الكفاح ضدّ فرنسا من مؤذن كان يؤذن في حي باب الدريب، وهو الحي الذي يسكن فيه أهل الطيب. لم يكن المؤذن محض رجلٍ يملك صوتاً جميلاً يرفع به “أذاناً دينياً” بل كان يقدّم مداخلات سياسية، هذه الحالة استفزت أعماق الطيب تيزيني وحرّضتها، وغرست فيها حبّ التعلم. لقد قادت هذه الحالة الطيب إلى دخول المساجد، والتعرف إلى المصلين، وبناء صداقات مع بعضهم، فثمة صفاء قلوب، ونقاء عقول لدى هؤلاء الناس، وثمة حاجة إلى مزيد من الفكر.
لكنّ المسجد لم يمنح الطيب تيزيني معرفةً كافيةً في الشؤون السياسية، الأمر الذي دفعه إلى الاقتراب من الأحزاب للتعرف إلى مبادئها وأهدافها، فاقترب من حزب الشعب ومن الحزب الوطني، وتعرّف إلى مصطفى السباعي زعيم حركة الإخوان المسلمين آنذاك. كانت حمص خلية فكر سياسي وثقافي كبيرين، ولكن الأقرب إلى وعي الطيب في تلك الآونة كان الحزب الشيوعي السوري الذي يرفع شعار “يا عمال العالم اتحدوا”.
كان الطيب يرى نماذج هؤلاء العمال البسطاء الفقراء في شوارع مدينته حمص.
ولكن يحقّ السؤال: كيف تتقارب وتتباعد الأفكار المختلفة المتصارعة لدى الطيب، فالدين رؤية فكرية ذات مرجعية تقول بوحدة الكون الذي خلقه الله، ومن ثم على المرء أن يقبل بالعدالة الإلهية، أما العدالة الاجتماعية التي تؤمن بها الماركسية فهي في موقع دنيوي. لقد كان الطيب تيزيني على قناعة عميقة أن الماركسية هي نظرية صحيحة كليّة القدرة، أما اللينينية فهي تجريب خاص بالساحة الروسية. يقول الطيب تيزيني: “لينين سار في طريق معقّد كما لو أن حركة عمالية ناضجة قيد الواقع”. الطيب تيزيني يرى أن لينين وقع أسير فكرةٍ أن البروليتارية الروسية أصبحت في موقع الثورة، وهذا الأمر غير صحيح بالمعنى التاريخي، فالبروليتاريا كانت موجودة ولكنها كانت في مراحلها الأولى، وتحتاج إلى مزيدٍ من التطور والتحرك سياسياً. وعلى الرغم من الكاريزما الخاصة التي يملكها “فلاديمير لينين” بوصفه قائداً سياسياً، فهذه الخصيصة لا يمكنها أن تلعب دوراً خارج نضج الموضوع الذي تشتغل عليه. لذلك اللينينية هي فكر تجريبي خاص بالساحة الروسية، ولم تثبت صحته.
إن فهم الماركسية غاب عن قادة موسكو في تلك المرحلة، فهم لم يدركوا أن لكلّ بلدٍ صيرورة تطور خاصة به، وخصوصية طبقية، وتطور اقتصادي سياسي مختلف عن غيره. لذلك يحقّ للنقد الفكري والسياسي أن يقول إن البروليتاريا الروسية في زمن 1917 لم تستطع أن تحقّق تاريخاً بالمعنى الزمني على صعيد بنية المجتمع الروسي بأنساقها الثلاثة “الاقتصادي – الاجتماعي – السياسي” وهذا ما أدركه “بليخانوف” الذي وجد أن الوقت لا يصلح للثورة، وأن تطور البنية الاجتماعية الروسية لم يصل إلى مرحلة الاستعداد والقيام بالثورة.
إن فهم الطيب تيزيني للتجربة السوفياتية هو فهم نقدي يستند إلى المنهج النقدي الجدلي، يقول الطيب تيزيني “التاريخ لا يغفر لمن يتجاوز مرحلة فيه، ولأي اسم كان، ما حدث في روسيا أضرّ بروسيا أولاً، كما ببلدان أخرى منها العالم العربي”. وهذا ما يجعل من واقع الأحزاب الشيوعية العربية ومن برامج عملها أسيرة للفكرة الروسية. كان النموذج الاشتراكي الروسي يُقدّم للبلدان العربية على أنه نموذج يمكن تطبيقه. ولكن لم يستطع هذا النموذج أن يحيا ويتطور في بلده الأم، والأمر لا يتعلق بمؤامرة، بل بالبنية الحاملة، فهذه البنية لم تكن مؤهلة منذ البداية لحمل هذا المشروع الاشتراكي، ومن ثم فهناك تفاوت بين الفكرة المحمولة “الاشتراكية” والحامل غير الناضج تاريخياً “البروليتاريا”.
هذا السياق سيتطور وتزداد درجة التفاوت فيه بين الحامل والمحمول، أو بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، فقوى الإنتاج لم تكن قد استكملت شرطها التاريخي ووعيها الذاتي، لتنُجز مهمات بنائها للعدالة الاجتماعية المرجوة. يرى الطيب تيزيني: “أن الأحزاب الشيوعية التي نشأت في البلدان العربية، وتلك المؤسسات الأخرى الدينية والثقافية لم تكن قد نضجت بعد، بحيث تؤسس لحامل اجتماعي ملائم للثورة”. حامل الثورة يتكون من فريقين هما الطبقة الوسطى والطبقات الكادحة الشعبية “عمال – فلاحون فقراء – مهمشون”، هاتان الطبقتان الرئيستان في حمل برنامج الثورة والتغيير لم تكونا قد أنجزتا بنيتيهما على صعيد النضج التاريخي، فكيف تحمل هذه الطبقات برنامج ثورة وهي غير مؤهلة لحمله. الطبقة الوسطى هي طبقة غائبة، وفي العالم العربي لا نجد في هذه الطبقة وحدة فكرية عامة ودرجة نضج تاريخية، والسبب موضوعي وهو أن المجتمع بتطوره الاقتصادي، ودرجة هذا التطور هو من يُنتج هذه الطبقة، ومن يُحدد مهماتها التاريخية في كل مرحلة من المراحل. هذا الفهم يقوم على أرضية فكر مادي جدلي، لا يقبل بغير رؤية البنية في صيرورة تطورها، وفي اكتشاف أنساقها. ولهذا فهم الطيب تيزيني أن المشروعات الدينية العربية فشلت مع وجود تيار ديني كان أقرب إلى قلوب الناس. لم تفهم المشروعات الدينية كما المشروعات الاشتراكية أن الناس أنساق، وأن وظيفة النسق لا تحددها الإرادة البشرية بالقسر، بل تكتشفها في سياق تطورها وأدائها لمهمتها.
وكما فشلت الأحزاب الشيوعية العربية في فهم العلاقة بين الحامل والمحمول، بقيت الاتجاهات الدينية ذات طبيعة إصلاحية وغير مؤتلفة، وبقيت على صورة تيارات غير ناضجة حتى في مستوى فلسفة الفكر الديني. يقول الطيب تيزيني: (إنّ أحدهم سأل النبي الكريم محمد “ص”: أين الله يا رسول الله؟. فأجاب الرسول: الله موجود حيث تراه). هذه الإجابة تركت حالة مفتوحة أمام المؤمنين، مفتوحة تماماً كي يتأثروا هنا وهناك وهنالك. وهذا لم يحدث، فالطبقة الوسطى لم تتكوّن تماماً، إضافةً إلى أن هذه الأيديولوجيا الدينية لم تستطع أن تبلغ مداها الطبيعي التطوري. ويرى الطيب تيزيني “أن ما حدث عام 1967 كان تيئيساً للعقل، لم نقل إنّ هذا الأمر قضى على بذور الثورة، ولكن الثورة لم تعد مشروعاً راهناً، أُجّلت الثورة لأن البنية الداخلية لم تعد تحتمل هذا التحول الكبير، فلا بدّ من إعادة البناء”.
ويمكن للمرء استحضار الهزيمة التي حدثت عام 1967 ودراستها موضوعياً، وفهم الأسباب التي سهّلت حدوثها، وهذا لا يقود إلى فهم نقدي شكلاني يقرأ الظاهرة من سطحها، بل ينبغي معرفة البنية القائمة آنذاك ثم ما لحق بها من تغيرات.
لم يعمل أحد على تغيير البنية الاجتماعية الاقتصادية التي وقعت الهزيمة عليها، هل كان بالإمكان تغيير هذه البنية؟ هل فهمت الطبقة الوسطى دورها الفكري المعرفي في نقد هذه المرحلة؟.
يبدو أن الطبقة الوسطى والطبقات الاجتماعية الدنيا بحاجة إلى تنوير فكري حقيقي. التنوير المبني على المنطق ينبغي أن يُرى ويُمارس في تاريخه، والتاريخ يُمارس في منطقه بشكل عضوي وثيق. إن مهمة المعرفة ألا تكتفي بالنتائج التي قد تكون خادعةً، فأيّ أمرٍ أو حدثٍ أو فكرٍ ينبغي تقصّي تكونه التاريخي. هذا المنهج ينبغي بوساطته وبآلياته دراسة طبيعة الدول العربية بوصفها بنى، وهل وحدتها الداخلية قائمة على الاستمرار أم هي متجهة نحو التصدع، وما الذي يمنع هذا التصدع؟ أي ما هي الشروط الحقيقية اللازمة لمنع تصدع المجتمعات العربية وإطارها السياسي “الدولة”؟.
إن الوحدة الداخلية في أي دولة عربية لا يمكن أن تحصل بشكلها التاريخي الطبيعي من دون أن يتوافر لها شرط آخر وهو الديمقراطية، “الديمقراطية شرط حاسم ولصيق بالوحدة” كما يقول الطيب تيزيني.
لقد كان هناك خطأ هائل في مشروع الرئيس جمال عبد الناصر، وجوهر الخطأ أنه لم يُدرك أهمية النضج الداخلي ووجود حامل حقيقي له، الحامل الحقيقي كان استمرار الأحزاب بنشاطها وليس في حلّها.
ولكن مع ذلك يمكن فهم التطور في البلدان العربية بحيث يمكن القول “إن الوجود البورجوازي في العالم العربي لم يكتمل حتى في البلدان الأكثر تقدماً. والسبب هو علاقتها بالطبقة الاجتماعية السابقة لها والموجودة وهي الإقطاع. أما العشائرية فإن مشروعها ظلّ عاجزاً حتى النهاية والسبب أنه خسر دوره التاريخي كعلاقات إنتاج”.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال افريقيا الإعلامي.