وحدة استطلاع الرأي والدراسات
أعاد هجوم قوات نظام الأسد على محافظة درعا الحديث من جديد عن الجنوب السوري، والعلاقة التي تحكم محافظتي درعا والسويداء، ولعل خصوصية الحديث عن ذلك تكمن في أن محافظة درعا ذات أغلبية سنية، ومحافظة السويداء ذات أغلبية درزية، وقد حاول نظام الأسد استغلال ذلك بالعزف على الوتر الطائفي عبر أجهزة استخباراته وأدواتها المختلفة، وهو أسلوب لم يغفله منذ أن سلب الحكم في سوريا.
في 18 حزيران/ يونيو الفائت، بدأت قوات نظام الأسد قصف مدن وبلدات عدة في محافظة درعا، وأخذت تنشر آلاتها ومعداتها العسكرية في بعض مناطق الريف الغربي وبلداته لمحافظة السويداء، المحاذي للريف الشرقي لمحافظة درعا، الأمر الذي أثار حفيظة بعض الأهالي في السويداء، ولكن الأمور لم تتعدَّ الاحتجاج اللفظي البسيط مع بعض الاجتماعات الأهلية التي لم تثمر، فيما أخذ نظام الأسد يوسع انتشار قواته ويصعد حجم القصف المدفعي قبل أن يبدأ الطيران بتنفيذ غاراته على المدنيين في مناطق درعا، واستعراض نفسه بالتحليق المنخفض في سماء السويداء، وبخاصة أن مطار خلخلة العسكري الواقع في الريف الشمالي لمحافظة السويداء، قد أعده الروس والإيرانيون مركز قيادة للعملية العسكرية على درعا.
في هذا السياق اجتمع في 20 حزيران/ يونيو الماضي، ضباط روس من مركز العمليات العسكرية، مع مشايخ العقل الدروز، وبعض من أطلق عليهم النظام (وجهاء) مجتمع -وهم في الواقع أتباع أمنيون له- في مبنى المحافظة في السويداء، وطلب الروس من هؤلاء دفع أبناء السويداء إلى القتال مع قوات النظام، وبخاصة أن عشرات آلاف من أبناء المحافظة متخلفون عن الخدمة العسكرية منذ اندلاع الحوادث.
وطالب الروس بتصنيف فصيل (رجال الكرامة) -الذي اغتال نظام الأسد مؤسسه الشيخ وحيد البلعوسفي في تفجير راح ضحيته عشرات من المدنيين عام 2015- منظمة إرهابية يجب محاربتها، إلا أن مشايخ العقل رفضوا ذلك كله، وكان جوابهم بأنهم لن يسمحوا لأبناء المحافظة بمحاربة جيرانهم، فهذه الأمور لها تبعات أخلاقية لن تنتهي صراعاتها، وأن السويداء كانت على الحياد في الدم السوري وستبقى، وطالبوا بفتح ممرات إنسانية بين المحافظتين للقادمين من مدن درعا وبلداتها، فوافق الروس على ذلك، وحددوا الممرات الإنسانية.
أغلقت بالمقابل ميليشيات النظام العاملة في السويداء بقية المعابر التي كانت تمر منها بعض المواد الغذائية والمحروقات بين المحافظتين طوال السنوات الماضية، ووضعت حواجز فيها للتضييق على الأهالي في درعا، ووصلت حتى بلدة ذيبين الواقعة تماماً على الحدود السورية الأردنية، وانتشرت قوات كبيرة لنظام الأسد في تخوم تلك البلدة التي تقع أيضاً على تخوم محافظة درعا بموازاة الحدود الأردنية مباشرة، وكان من الواضح أن هذا المحور يعده نظام الأسد للهجوم نحو مدينة بصرى الشام من محور حدودي مع الأردن.
يظن بعض الناشطين المحليين، أن هذا الوجود لقوات نظام الأسد، ما كان ليحصل في تلك المنطقة الحدودية الحساسة، لولا ضوء أردني أخضر، وخصوصاً أن الأردن حذر كثيراً من وجود قوات إيرانية وميليشيا حزب الله اللبناني على حدوده، واعتبر ذلك خطاً أحمر، وتفاهم سابقاً مع الدبلوماسيين الأمريكيين والبريطانيين، ومن المعلوم أنه إلى الشمال الغربي من بلدة ذيبين الحدودية، تقع بلدة برد التي يوجد فيها مركز إيراني يديره عناصر من ميليشيا حزب الله اللبناني، ويشرف هذا المقر على التحركات العسكرية للميليشيات الإيرانية في الجنوب السوري، وهو قريب من مدينة بصرى الشام التي كانت تعدها إيران عاصمة لتمددها الطائفي جنوباً، ويبتعد عن الحدود الأردنية بضعة كيلومترات، ومنه أيضاً تجري إدارة عمليات تهريب المخدرات وتنظيمها من لبنان إلى الأردن والخليج العربي ومصر، وكان أبناء قرى السويداء الجنوبية قد داهموا أحد تلك المستودعات الواقعة إلى الجنوب الشرقي من بلدة القريا، وصادروا كميات من المخدرات وسلموها مع عناصر حزب الله إلى سلطات نظام الأسد لكن أُفرِج عن المتورطين خلال ساعات، وأعيدت المواد إلى المهربين، ما اضطر رجال الكرامة إلى التدخل ومداهمة الموقع، الأمر الذي أقلق ميليشيا حزب الله وإيران وهددوا بالانتقام، فجرى قتل زعيم العصابة حينئذ ووضع جثته في وسط مدينة السويداء وعليها تحذير لنظام الأسد وعملاء حزب الله من اللعب في المحافظة ونشر المخدرات، وما زال الموضوع يتفاقم إلى ما قبل هجوم قوات نظام الأسد الأخير على درعا.
من جانب آخر وضعت المعركة الحالية التي يخوضها أبناء محافظة درعا في تصديهم الشجاع لقوات نظام الأسد وميليشيات إيران والطيران الروسي، المجتمع المدني في السويداء في مواجهة الحدث، من خلال تدفق جديد للاجئين، إذ اعتاد أهالي السويداء على ألّا ينصبوا أي خيمة في المحافظة للنازحين منذ بداية الحوادث، وعمل الجميع سابقاً على إيواء النازحين في أماكن سكنية ومقرات واسعة كانت معسكرات لـ(طلائع البعث)، إضافة إلى فتح عدد من البيوت السكنية، طبعاً هناك عدد كبير من الأسر النازحة استطاعت استئجار بيوت، وعلى الرغم من أن عدد النازحين القادمين من محافظتي درعا وريف دمشق وغيرهما من المحافظات يقارب ضعف عدد السكان في السويداء، لم تسجل أي حادثة سلبية، وكان لتراجع فاعلية قوات النظام وعناصر أمنه الذين انكفؤوا في مقراتهم منذ سنوات بعد صداماتهم مع رجال الكرامة، دور في سيادة السلم الأهلي، إذ يمكن تصنيف نظام الأسد مخرباً للسلم الأهلي وليس راعياً له.
استغل هذا النظام انكفاء الجبهات الأخرى في سوريا بسبب المصالحات الوهمية التي أجراها بعد اتفاقات آستانة، ليركز هجومه الأخير على درعا، وفي الوقت نفسه يعيد انتشاره في محافظة السويداء، ويعيد هيبته فيها إذ كان قد خسرها عملياً منذ عام 2015، وبقيت المحافظة رمزياً تحت سلطته من دون أثر له في حياة الناس، لكن تشتت المعارضة في تلك المحافظة كما بقية المعارضة السورية، أبقاها ضعيفة وعاجزة عن استلام زمام المبادرة لتنظيم الأمور، وهذا بسبب الضعف الاقتصادي للمحافظة عموماً وطبيعة الدخل المعتمدة على مؤسسات الدولة اعتماداً رئيساً، وموارد الهجرة المحدودة لأبنائها، فبقي نظام الأسد يتحكم فيها من خلال الاقتصاد والأمن الخارجي، إذا جعل من تنظيم (داعش) عصا يهدد بها المحافظة من البادية الشرقية كلما احتاج إلى ذلك، وهنا نتذكر كيف نقل عناصر التنظيم من مناطق دمشق الجنوبية، إلى بادية السويداء الشرقية في أيار/ مايو الماضي، أي قبل الهجوم على درعا بنحو شهر، ولا شك في أن الأمرين مرتبطان ببعضهما كعادة هذا النظام.
إن إعلان الأردن إغلاق حدوده مع سوريا في وجه اللاجئين، أثار أيضاً مجموعة أسئلة جديدة في السويداء بوصفها محافظة حدودية نائية وجارة لدرعا، تتعلق بالسماح للعائلات النازحة كافة بالقدوم إلى السويداء من معابر إنسانية، لكن غرور قوات نظام الأسد بعد سيطرتها على مناطق واسعة في سوريا بسبب المصالحات، جعلت عناصر أمنه يشيعون بين الناس أن المعركة محسومة سلفاً، وأن النظام سيلتفت بعدها لكل من عارضه في السويداء، كما فعل في أنحاء سوريا، الأمر الذي دفع وليد جنبلاط زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي في لبنان، إلى الطلب من الروس حماية المحافظة من بطش النظام، إذ أصبح الروس أمراً واقعاً في سوريا، بحسب ما نشره جنبلاط على حسابه في موقع تويتر.
يشار إلى أن الروس عقدوا اجتماعاً موسعاً في السويداء، في أيار/ مايو 2017 وأعلنوا فيه إنشاء لواء من أبناء المحافظة، لمن يرغب التطوع مقابل 200 دولار أميركي شهرياً، مع مكافآت ومساعدات أخرى وضمانات صحية، وتسوية أوضاع الفارين من الخدمة العسكرية، مقابل أن يعمل اللواء بإمرة قوات نظام الأسد، لكن الأهالي رفضوا هذا العرض وفشل إنشاء هذا اللواء حينئذ.
أعلنت الأمم المتحدة من جانبها، على لسان محمد هواري، المتحدث باسم مفوضية شؤون اللاجئين، أن عدد النازحين من محافظة درعا وصل الأسبوع الماضي إلى نحو 45 ألف شخص منهم من وجد على الحدود الأردنية، لكن يوم السبت الماضي أعلن هواري أن العدد وصل إلى أكثر من 160 ألفاً، وأن المنظمة الدولية طالبت بتأمين إغاثة لهم، وأكدت أنهم لم يعبروا الحدود السورية بسبب إغلاقها مع الأردن ومع فلسطين المحتلة غرباً، وتوقعت المفوضية أن يرتفع هذا الرقم في الأيام القليلة المقبلة وفق (رويترز)، لكن لم تقدم المفوضية حتى الآن الإغاثة المطلوبة ولم تعط معلومات عن عدد النازحين نحو محافظة السويداء، ولكون النظام هو المسيطر على السويداء فلا يمكن الوثوق بأرقام آتية من هناك حتى اللحظة، كونه لا يكترث بأي أمر إنساني أو أي إحصاء، ويتصرف مع المدنيين كعصابة إذ يعتبرهم بحكم الرهائن إلى حين الطلب.
اللافت أن عناصر النظام التابعين للفرقة الرابعة الذين وجدوا غرب السويداء، سرقوا في الأسبوع الماضي، إحدى قرى السويداء التي سيطروا عليها من يد فصائل المعارضة، وعرضوا المسروقات للبيع في قرى أخرى بإنشاء سوق (التعفيش) في بعض القرى الغربية من السويداء ثم استمروا في التقدم ونهب عدد من قرى محافظة درعا المحاذية، وعرض المسروقات للبيع، وهذا ما أثار حفيظة عدد من ناشطي المحافظة ومثقفيها، واعتبروها إهانة مباشرة لعاداتهم وتقاليدهم وسمعة مجتمعهم، يتعمدها نظام الأسد لإذلال المحافظة، وبدأت يوم الخميس الماضي حملة شعبية واسعة، تستهدف مشايخ العقل لدفعهم إلى إصدار بيان تحريم التعامل مع المسروقات وتجريم أصحابها على الأقل اجتماعياً ودينياً؛ ولاقت هذه الحملة استجابة ببيان صدر أخيراً عن مشايخ العقل بتاريخ 2 حزيران/يونيو الجاري يحرِّم ذلك باعتباره منافياً للدين والأخلاق العامة؛ كذلك أصدر رجال الكرامة بياناً خاصاً بهم محذرين من هذه الظاهرة.
يمكن القول بعد مرور أكثر من عشرة أيام على حملة قوات نظام الأسد: إن هذا النظام وداعميه الروس فشلوا في الحملة الأخيرة على درعا في استقطاب مقاتلين معهم من أبناء السويداء، وفضلت الميليشيات المحلية التابعة للنظام الذهاب إلى البادية الشرقية لمواجهة تقدم عناصر (داعش) نحو تخوم المحافظة، على التوجه نحو محافظة درعا تلبية لطلب النظام والروس.
يطمح الروس بأن يجري تسليم معبر نصيب الحدودي مع الأردن، إلى قوات نظام الأسد برعاية روسية، ومن الواضح أن الأردن ولبنان معنيان بهذا المعبر البري الاقتصادي الوحيد والمهم نحو العمق العربي، وهو أيضاً مورد مالي كبير لنظام الأسد الذي يعاني أزمة اقتصادية خانقة، وكان النظام قد افتتح معبراً احتياطياً مع الأردن منذ عام 2015، يمر من محافظة السويداء عبر بلدة ذيبين الحدودية، لنقل البضائع المختلفة من سوريا ولبنان وإليهما، وكذلك الشواطئ السورية، وقد أغرى النظام محافظة السويداء بأهمية هذا المعبر المادية، وأوهمها بأنه سيوسعه ليكون معبراً دائماً بين الدولتين، لتستفيد منه بالعمل عوضاً عن معبر نصيب، لكن في حقيقة الأمر كان نوعاً من الابتزاز اللحظي، خدع فيه الأهالي لكي لا تنشأ أي عمليات أو تحركات ضد النظام، وفي أرض الواقع كان المستفيد الوحيد من المعابر الواصلة من السويداء نحو الأردن، هو ميليشيا حزب الله بعمليات التهريب المنظمة التي يديرها، وأيضاً عناصر ميليشيات النظام المتعاملة مع تنظيم (داعش)، بالتهريب عبر البادية الشرقية نحو درعا ومنها إلى القنيطرة وريف دمشق والقلمون، وبصورة رئيسة تهريب المحروقات والآثار.
يظن عدد من مثقفي السويداء وناشطيها أن الحرب الحالية في درعا مقررة النتائج سلفاً، وهي بتنسيق إسرائيلي أميركي روسي عربي، لإنهاء الفصائل العسكرية المعارضة كافة، وتثبيت نظام الأسد راعياً لمصالح إسرائيل وأمنها، وعلى هذا يظنون أنها حرب أكبر كثيراً من هذه الجغرافيا، لكن يصرون في الوقت نفسه على ألا تُفقدهم علاقاتهم الطيبة مع جيرانهم في سهل حوران التي ما زالت حتى هذه اللحظة خارج قدرة النظام على تشويهها، وعلى هذا يحاولون دفع مشايخ العقل إلى الخروج من المواقف المبهمة، إلى مواقف أكثر وضوحاً في وجه محتل روسي ونظام له دور وظيفي غير وطني، فهل ستنتهي لعبة الأمم في سوريا وتسترها على جرائم نظام الأسد إلى ما لا طاقة للأهالي به ليؤسس لمستقبل قاتم، أم سيعيد السوريون رتق ثوبهم الوطني بأدواتهم في هذا الحقل من الألغام ومنها سهل حوران وجبله.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال افريقيا الإعلامي.