انتهاكات حقوق الإنسان في تركيا باتت أمرًا محسومًا، وليس من قبيل المجاز القول بأن تركيا تحوّلت إلى سجن واسع للمعارضات وأصحاب الرأي والشخصيات العامة التي لا تصفّق لسياسات رجب طيب أردوغان، وربما يصح القول بأن كتّاب تركيا وأدبائها باتوا في المواجهة المباشرة، فها هو الروائي التركي أحمد ألتان المحكوم عليه بالإعدام، يقول: “قالوا لنا: لن تنتقدونا، ورددنا عليهم بقولنا: سنظل ننتقدكم. نحن لسنا خائفين منكم. افعلوا بنا ما يحلوا لكم. سنوجه سهام نقدنا إلى صدوركم طالما تنتهكون القانون. هل ستسجنوننا؟ رأينا ما حدث. هل سترسلون بنا إلى هناك مرة أخرى؟ لا توجد مشكلة، سنذهب مرة أخرى إلى السجن”.
وكانت السلطات الحكومية التركية قد هددت “ألتان” أثناء جلسات محاكمته بأنه “سيلفظ أنفاسه الأخيرة داخل السجن”، ولكنه ردّ عليهم رداً حاسماً: “لم آت هنا لأستمع إلى حكم ستصدرونه في حقي، وإنما جئت لأحكم أنا عليكم. أنا على استعداد لأن أموت داخل السجن” وأضاف: “وماذا عنكم أنتم؟ هل أنتم على استعداد أيضًا للموت داخل السجن؟”.
جان دوندار وهو رئيس التحرير السابق لصحيفة جمهورييت التركية، كتب في مقال افتتاحي لصحيفة واشنطن بوست، إن أردوغان يستخدم فيروس كورونا لمواصلة قمع عشرات الآلاف من السجناء السياسيين في البلاد.
وقال في تعليقه على مشروع حزب العدالة والتنمية لتقديم قانون إلى البرلمان يتيح الإفراج عن 90 ألف من 300 ألف سجين في تركيا لحمايتهم من فيروس كورونا: “سيبقي في السجن كثير من الصحفيين والسياسيين والناشطين والمواطنين العاديين الذين سجنوا لانتقادهم الحكومة، التهمة التي تعادل التواصل مع الجماعات الإرهابية، في حين سيتم إطلاق سراح الأشخاص المسجونين الذين ارتكبوا جرائم خطيرة.”
الروائية “أصلي أردوغان” التي تمّت تبرئتها من قبل محكمة في إسطنبول من تهم “محاولة المساس بسلامة الدولة” و”الانتماء إلى مجموعة إرهابية”، كتبت تقول بأنّ “تركيا كنظام بدأت تشن حربًا مفتوحة على حقوق الإنسان والأدب، والأسوأ من ذلك الضمير؛ وذلك من خلال إصرارها على ملاحقة الأبرياء مثلها”.
وسبق لأصلي أردوغان، المنفية في ألمانيا أن أبدت قلقها على مستقبل بلادها في ظلّ حكم أردوغان، ووصفتها بأنها أشبه ما تكون بألمانيا قبل أن يشتدّ فيها حكم النازيين في الأربعينيات من القرن الماضي. وقالت إنّ “الطريقة التي تسير بها الأمور في تركيا تشبه ألمانيا النازية”.
وقد أنجز العديد من الأدباء الأتراك أعمالاً لافتة من خلف القضبان، ومن هؤلاء السياسي المعارض صلاح الدين دميرطاش، الذي يتحدّى من داخل سجنه القمع الحكومي، وهو الذي اعتقل منذ أكثر من ثلاث سنوات، ويتهم بإدارة “منظمة إرهابية” والقيام بـ”دعاية إرهابية” و”التحريض على ارتكاب جرائم”، ويواجه بالتالي عقوبة السجن مدة تصل إلى 142 سنة.
ويعتبر دميرطاش أن الكتابة شكل من أشكال “المقاومة” لرتابة الحياة في السجن وقال “كل شيء يتم فعله لإضعاف الإرادة وتدمير شخصية الرجال”.
• أورهان باموك.. الديمقراطية في الصندوق
وأعلن الروائي الحائز على جائزة نوبل، أورهان باموك، أن الديمقراطية التركية موجودة فقط في صناديق الاقتراع، في حين أشار إلى ما أسماه الحالة السياسية المروعة للبلاد. وقال: “إذا لم تكن متشائمًا حتى اليوم، فهذا أمر تُحمد عليه… تركيا دولة فظيعة، وحالتها السياسية مروّعة أيضًاً”.
وكان باموك منتقدًا صريحًا للحكومة التركية، حيث تحدث بصوت عالٍ ضد الأحكام الصادرة بحق الكتّاب الأتراك، وقال إن البلاد تتجه إلى نظام الإرهاب، ودعا الزعماء الأوروبيين إلى اتخاذ موقف أكثر صرامة مع أنقرة بشأن حرية التعبير.
ووجّه باموك الذي عارض موجة الإسلام السياسي، وقال عنها “لقد تبددت أسطورة الإسلام السياسي ورونقه”، انتقادات إلى الرئيس رجب طيب أردوغان، في وقت سابق، وقال “في السنوات الخمس أو الست الأولى من حكمه، كان يغازل الاتحاد الأوروبي تجنبا لوقوع انقلاب عسكري عليه، ولكنه بعدما تمكن من الحكم تراجع اهتمامه بالديمقراطية”.
وكانت الروائية التركية الشهيرة أليف شفق أعربت في أكثر من مرة، عن خشيتها على مستقبل بلادها، مؤكدة أن “المناخ المسمّم سيكون سبباً يزيد صعوبة إنتاج المؤلفين والفنانين لأعمال أدبية وفنية. هناك بالفعل رقابة ذاتية على نطاق واسع بين الأدباء بسبب القمع السياسي. من الآن فصاعداً، سيكون لدينا المزيد من ذلك”.
• حقائق صادمة عن أوضاع حقوق الإنسان في تركيا
في مقال للصحفي أومت كرداش على الموقع الالكتروني “أحوال تركيا”، كتب كرداش يقول بأن “تركيا عانت على مدار تاريخها من الصراعات والتكالب على السلطة بين قوى مختلفة يحاول كل منها أن يظفر بالسلطة. وقد عمدت هذه القوى، في حربها تلك، إلى تغييب دور القانون والبطش بالطرف الآخر”، وأضاف كرداش :”لقد رأينا مثلا كيف كان قائد انقلاب 12 سبتمبر عام 1980، كنعان إفرين، ينفذ المحاكمات العسكرية في المعارضين له، ويُخضعهم لشتى أنواع التعذيب؛ لدرجة أن أعدادًا كبيرة منهم كانت تفارق الحياة، تحت التعذيب داخل المعتقلات. وعلى الرغم من ذلك، كان يخرج ليتحدث عن تطبيق القانون، واستقلالية القضاء”، ويتابع:”هذا الأمر نراه يتكرر أمام أعيننا في الوقت الراهن كذلك؛ حيث نسمع ونشاهد رجال السلطة كل يوم، وهم يتشدقون بعبارات من قبيل أن تركيا دولة الحريات، وأن القانون يطبق على الجميع، وأن القضاء حر ومحايد، وغيرها من الشعارات الجوفاء.”.
ويستشهد كرداش بما أسماه ( أمرًا جليًا) وقد عرض لحديث لنائبة رئيس حزب العدالة والتنمية لشؤون حقوق الإنسان، ليلى شاهين أوسطا، أدلت به خلال زيارتها لمدينة أفيون قره حصار، عندما قالت: “عندما تُذكر انتهاكات حقوق الإنسان في تركيا، فإنني لا أتذكر واقعة واحدة أو اثنتين تأكَّد حدوثها بالفعل؛ لذلك يمكن اعتبار أن الحديث عن هذا الأمر لا يعدو كونه مجرد مجال يحاول البعض استغلاله ضدنا؛ بنشر العديد من المفاهيم والتصورات الخاطئة. والحقيقة أن تركيا أصبحت تتبوأ في الفترة الراهنة مكانة متقدمة في مجال حقوق الإنسان، تخطت بها أميركا والكثير من الدول الأوروبية، التي دأبت على وصف نفسها بأنها الدول الأكثر تقدمًا في مجال الحريات، وحماية حقوق المواطنين لديها. لذلك فإنني أشبه من يتحدث عن وجود انتهاكات لحقوق الإنسان في تركيا بمن ينفخ في الرماد؛ لأن القانون يُطبق في تركيا على الجميع دون استثناء. تركيا هي دولة القانون، وكل من يرتكب فعل من شأنه الإضرار بالدولة، أو يتعاون مع الإرهابيين ينال جزاءه وفق القانون..”. وقال كرداش معلّقًا على كلام ليلى شاهين أنه “لايخفى على أحد ما تعانيه تركيا اليوم من انهيار على مستوى حماية حقوق المواطنين وحريتهم. لقد نُشر في التاسع من ديسمبر 2018 الماضي تقرير بعنوان “مسلسل انتهاكات حقوق الإنسان تحت حكم حزب العدالة والتنمية”. استمد هذا التقرير، الذي يغطي الفترة من عام 2002 حتى 2018، بياناته من مؤسسة حقوق الإنسان في تركيا، والعديد من المنظمات الأخرى المعنية بهذا الأمر.
وعرض كرداش للتقرير المتضمن أن ما يربو عن 47 ألفًا و910 أشخاص تعرضوا لأنواع مختلفة من انتهاكات حقوق الإنسان خلال الفترة من 2002 حتى 2018؛ حيث تعرَّض 22 ألفًا و224 شخصًا منهم لجرائم تتعلق بطبيعة عملهم، و14 ألفًا 960 شخصًا لجرائم خاصة بالسيدات، أما العدد المتبقي (4003)، فكان من نصيب الأطفال الذين لم يسلموا كذلك من جرائم انتهاكات حقوق الإنسان في تركيا.
يشير التقرير أن ما يقرب من 21 ألفًا 325 شخصًا تعرَّضوا للتعذيب والمعاملة السيئة خلال الفترة بين 2002-2018 ، في الوقت الذي لم تتجاوز فيه أعداد الذين تعرضوا للتعذيب في عام 2002، عندما تولى حزب العدالة والتنمية السلطة، 988 شخصًا، وأنه على الرغم من أن هذه الأعداد قد انخفضت في السنوات التالية لذلك، إلا أنها عاودت الارتفاع، مرة أخرى، بشكل كبير، اعتبارًا من عام 2014؛ فارتفعت هذه الأعداد في هذا العام إلى ألف و39 شخصًا؛ لتصل إلى خمسة آلاف 671 شخصًا في عام 2015، ثم خمسة آلاف 606 في عام 2016، ثم ألفين 278 في عام 2018. ويبلغ عدد الذين تعرضوا لانتهاكات حقوق الإنسان وللمعاملة السيئة منذ عام 2018 حتى الآن ما يربو عن ألفين 214 شخصًا.
وعلى الجهة الأخرى، كان القضاء أحد المجالات التي ارتكب من خلالها مستويات غير مسبوقة في تاريخ الجمهورية التركية من جرائم حقوق الإنسان؛ حيث أكدت البيانات الصادرة في هذا الصدد في نهاية عام 2017، بلوغ عدد المشتبه بهم، الذين تعرضوا لانتهاكات أثناء مرحلة التحقيقات خلال الفترة بين 2006-2017 ما يقارب 11 مليون985 و118 مواطناً، في حين لم تتعد أعدادهم 2 مليون 943 ألفًا و33 فردا فقط عام 2006. وهذا يعني أن عدد الذين يخضعون للتحقيقات من قبل النيابة العامة في تركيا قد تضاعف بنسبة 307%. وهذا يعني كذلك أن السلطات التركية تقوم، وفق إحصاءات العام الماضي، باتخاذ إجراءات عقابية من هذا النوع ضد 230 ألفًا 483 مواطنا في الأسبوع؛ أي بما يعادل 23 مواطنا في الدقيقة الواحدة.
وعلى الرغم من إجراء الحكومة بعض التعديلات على المادة 301 من الدستور التركي، بزعم زيادة مساحة حرية الرأي في تركيا، إلا أن نسبة الذين وجهت إليهم اتهامات في مجال حقوق الإنسان قد سجلت ارتفاعا بنسبة 43%؛ ففي حين لم تتعد فيه أعداد الذين وجهت لهم الاتهامات وفق المادة 301، التي كانت تتحين الدولة الفرصة لإقحامها من أجل قمع حرية الفكر المعارض، 526 في عام 2006، وجدنا أن هذا العدد قد ارتفع، بعد التعديلات المزعومة، إلى 754 عام 2017 مما يعني أن إجمالي أعداد الذين تعرضوا لانتهاكات حرية الرأي في الفترة بين 2006-2017 بسبب المادة رقم 301 بلغ أربعة آلاف و21 مواطنًا.
وفي حين لم يتعد عدد الذين وُجِّهت إليهم تهمة “الإساءة لرئيس الجمهورية” 109 أشخاص في الفترة بين 2003-2006، نجد أن هذا الرقم قد ارتفع في الفترة بين 2007-2014 إلى 895 حالة، ليبلغ الذروة خلال عامي 2015 و2017 بتسجيل 12 ألفًا 168 حالة.
يشير التقرير كذلك إلى أن أعداد الذين قضوا نحبهم نتيجة تعرضهم لجرائم لها علاقة بطبيعة عملهم قد ارتفع خلال الفترة من عام 2002 حتى 2017 بما يزيد عن 13 ضعفًا؛ ففي حين لم يشهد عام 2002، الذي جاء فيه حزب العدالة والتنمية على رأس السلطة، سوى 146 حالة وفاة، نتيجة جريمة مرتبطة بطبيعة عملهم، وجدنا أن هذا الرقم قد واصل الارتفاع بشكل كبير خلال الأعوام التالية؛ حيث بلغ في عام 2003 ما يربو عن 811 شخصًا، ثم ألف و44 في عام 2007، ثم ألف 454 في عام 2010؛ لتصل أعدادهم إلى ألفين وستة أشخاص في عام 2017.
وعلى الجانب الآخر، أعلنت لجنة حماية الصحفيين الدولية (CPJ) في تقريرها السنوي أن ما يربو عن 262 صحفيًا تعرضوا للسجن حول العالم، اعتبارًا من عام 2017، ووضعت تركيا على رأس أكبر ثلاث دول سجنًا للصحفيين؛ حيث يقبع في السجون التركية وحدها ما لا يقل عن 141 صحفيًا ومشتغلًا بالإعلام.
وتضم السجون التركية، إلى جانب هذا، ما لا يقل عن 44 ألف شخص، وجهت إليهم تهم لها علاقة بالإرهاب. وتشير الإحصاءات إلى أن إجمالي المعتقلين، والذين صدرت بحقهم أحكام، لا يقل عن 260 ألف شخص. وفي حين اكتظت السجون بأعداد المعتقلين والمسجونين، لم تتوقف السلطات التركية عن ممارسة أبشع انتهاكات حقوق الإنسان بحق هؤلاء . وفي السياق نفسه، صنَّفت منظمة “فريدم هاوس” الأميركية (منظمة غير حكومية مقرها الولايات المتحدة تدعم وتجري أبحاثًا حول الديمقراطية والحرية السياسية وحقوق الإنسان) تركيا، في تقريرها عام 2018، ضمن “الدول المُقيدة للحريات”، واستندت هذه المنظمة، في تصنيفها لتركيا ضمن الدول المقيدة للحريات، على ما تمارسه السلطات من قمع للحقوق السياسية وفرض قيود على حرية الأفراد في التعبير عن آرائهم. وبالتالي لم يكن مُستغربًا أن يشير التقرير إلى فقدان تركيا 34 مركزًا في هذه القائمة خلال السنوات العشر الأخيرة؛ لتتذيل قائمة الدول الأكثر حرية في الوقت الراهن.
أضف إلى هذا ما تفرضه الدولة من رقابة شديدة على الإنترنت، وإغلاق المواقع، وتقييد حرية الرأي على مواقع الإنترنت، وإغلاق مواقع دولية وإقليمية؛ حيث قامت السلطات في 29 أبريل 2017 بحجب موقع ويكيبيديا، أكبر موسوعة على الإنترنت في العالم تتحدث بمئات اللغات، ولا يزال هذا الحظر مستمرًا حتى الآن.
واستمرارا لمسلسل انتهاكات حقوق الإنسان، استغلت السلطات التركية حالة الطوارئ، وما واكبها من استصدار مراسيم قرارات لاعتقال أعداد كبيرة من الأكاديميين ونواب البرلمان والفنانين والصحفيين والكُتَّاب المعارضين لها، وتقديمهم للمحاكمة بتهمة الترويج للإرهاب، أو الانضمام إلى منظمة إرهابية؛ لتقضي بذلك على حرية الرأي، وتبتعد بالدولة كلها عن معايير الديمقراطية السليمة؛ ليحدث بذلك نوع من التداخل بين أزمة الديمقراطية وأزمة القضاء.
فالقاضي والمدعي العام في تركيا يعجزان عن توفير ضمانة قانونية تكفل الحقوق والحريات؛ ومن ثم فهما يساهمان، بخضوعهما لأهواء السلطة الحاكمة اليوم، في تقييد الحريات. والسؤال الآن، هل يمكن أن نشَّبه من يتحدث عن انتهاكات حقوق الإنسان بمن ينفخ في الرماد؟ الواقع أن السعي خلف الحقيقة هو واحد من أسمى القيم الإنسانية، التي إذا اقتربنا منها زادت المشاركة الوجدانية مع الآخرين.