عاد السؤال مجددًا عن حضور الدولة الوطنية بعد أن أغرقت العولمة العالم بمفاهيم أخرى، فالحديث عن الدولة القومية، ارتفع حتى بات ثمة ما يسمى بـ “حقبة مما بعد كورونا”.. هذا ما ذهب اليه ديفيد بري بعد تساؤلاتومن بينها تساؤلات حول قورة الدولة الوطنية، ليصل الى التساؤال الأساس وهو:
كيف تكون الدولة قوية؟
كان ديفيد بري، قد قصد بقوة الدولة هنا القدرة على تنفيذ مهامها مثل توفير السلامة والصحة والتعليم بفعالية كما ورد في كتاب فرانسيس فوكوياما “ترتيب وانحدار السياسة” والذي اعتبر فيه أن قوة الدولة بجانب نطاقها –مساحتها وموقعها الجغرافي- هما المتغيرين الأساسيين لتقييم الدولة. ويجدر الإشارة إلى أن قوة الدولة ربما تكون أكثر أهمية من النطاق لتحقيق مستويات عالية من التقدم والرفاهة وأفضل مواجهة للأزمات؛ فدول مثل الدنمارك وهولندا مرتفعة القوة بينما أفغانستان ونيجيريا منخفضتا القوة.
ولكي تصبح الدولة قوية –وفق التعريف السابق- هي بحاجة إلى عدة مقومات من بينها: بيروقراطية حديثة، سيادة القانون، آليات رقابة فعالة. ويقصد بالبيروقراطية الحديثة أنها تلك التي يتم فيها انتخاب الموظفين الحكوميين وترقيتهم على أساس الجدارة وليس الوساطة، والتي تعمل بقواعد وإجراءات واضحة وشفافة، مع توافر موارد كافية واستقلال ذاتي عن السلطة السياسية. وسيادة القانون لا تعني فقط تنفيذه أو تطبيقه في المعاملات بين الأفراد، ولكن أيضًا أن القانون متساو، أي لا يميز أو يطبق على فئات دون غيرها. وتفهم آليات الرقابة الفعالة على أنها الإجراءات التي تجعل الحكومة مسؤولة أمام المجتمع عن أفعالها. ولتحقيق هذه الغاية من الضروري ليس فقط إجراء انتخابات نزيهة ولكن أيضًا وجود قضاء مستقل وأساليب مراقبة إضافية مثل الصحافة الحرة. هذه المقومات أظهر الفيروس غيابها في بعض الدول، ضعفها في الأخرى.
ومع تفاقم أزمة كورونا وعجز أغلب الدول عن السيطرة عليها ومواجهتها بفعالية بدأت يظهر اتجاه آخر من الكتابات ينتقد الاتجاه القائل بأن الأزمة ستقوض العولمة وتعزز دور وأهمية الدولة القومية، ومن تلك الكتابات مقال دافيد براي الذي يرى أن وباء كورونا يمكن أن يتسبب في استبدال الدولة بتنظيمات أخرى، وفيما يلي عرض لأبرز الأفكار التي تناولها في مقاله.
التحديات العالمية للدولة القومية الوستفالية
قبل أزمة كورونا (وفق ديفيد بري) كانت هناك ثلاثة تحديات في العالم تتحدى المفهوم الوستفالي للدولة القومية ذات السيادة الكاملة على مواطنيها داخل حدودها، التي تمخضت عن حرب الثلاثين عامًا في أوروبا حيث تم استبدال الولاءات المتعددة التحتية في العصور الوسطى مع كتلة وحدوية تحت حكم سيادي. وتمثلت تلك التحديات المتسارعة التي تحدت الفكرة الوستفالية للدولة القومية في: الإنترنت وزيادة الرقمنة عبر العالم، زيادة التجارة العالمية، التدفق العالمي للسلع، الناس، الأمراض المعدية. ويرى براي أنه في حقبة كورونا المضطربة يتم تحدي هذه التحديات ومن غير الواضح ما إذا كانت حقبة ما بعد كوروا ستعزز الدولة الوستفالية أم سيؤدي إلى ظهور تنظيمات أخرى جديدة تمامًا.
التحدي الأول: الإنترنت وزيادة الرقمنة عبر القومية. في ديسمبر 2019 تجاوز الاعتماد على الإنترنت نسبة الـ 50% حيث أصبح أكثر من نصف البشر على الأرض لديهم إمكانية الوصول إليه. إدراك هذه الحقيقة يعني أن عددًا كبيرًا من البشر لا يمكنهم الوصول إلى الإترنت، بل إن العديد من البشر لا يمتلكون هواتف محمولة، هذا المعوق يحول دون تحدي الإنترنت لفكرة الدولة القومية الوستفالية التي تعمل الآن على توسيع سيادتها خارج حدودها من خلال عرقلة الوصول إلى مكان وجود حزمة من المعلومات على شبكة الإنترنت للتصدي لتحدي الإنترنت لها. ربما تكون لائحة حماية البيانات العالمية (GDPR) في أوروبا هي أوضح مثال على محاولة توسيع سيادة أعضاء الاتحاد الأوروبي خارج الحدود المادية له، حيث تتوقع اللائحة العامة لحماية البيانات أن تلتزم الشركات الموجودة فعليًا خارج الاتحاد الأوروبي ببنودها إذا شاركت في أعمال مع أي فرد من الاتحاد الأوروبي. علاوة على ذلك، إذا كان أي فرد من الاتحاد الأوروبي يسافر في دولة أجنبية، فمن المتوقع أيضًا أن تلتزم تلك الدولة والعمل باللائحة العامة لحماية البيانات عند إشراك فرد من الاتحاد الأوروبي في الخارج.
التحدي الثاني: زيادة التجارة العالمية. أصبحت الشركات عبر القومية الآن تتمتع بالسلطة نفسها، إن لم يكن أكثر، من الدول القومية. ففي منتصف عام 2019، بلغ إجمالي القيمة السوقية لخمسة شركات (Facebook وApple و Amazon و Netflix و Google) حوالي 3.2 تريليون دولار، وذلك كان أكثر من إجمالي الاقتصاد العالمي لجميع البلدان باستثناء أربعة: الولايات المتحدة والصين واليابان وألمانيا في نفس الفترة. ومن ثم أصبحت الشركات عبرالقومية تمتلك قوة جيوسياسية أكبر من الدولة.
التحدي الثالث: التدافق العالمي للإنسان والسلع والأمراض المعدية. تسببت الحدود المفتوحة أو المغلية بفعل العولمة في عجز الدولة عن السيطرة على الأوبئة على سبيل المثال، وكذلك عن القيام بمهامها بفعالية. افنتقال الأمراض المعدية جعل الحفاظ على الصحة العامة في دولة معينة غير مقتصر على حدودها الجغرافية. ولتفادي تلك الأمراض مثل فيروس كورونا قامت الدول بإغلاق حدودها تمامًا حتى يمكنها التحكم في انتقال العدوى إلى البشر.
تحدي وباء كورونا للتحديات العالمية
قبل الوباء، بدا العقد التالي وكأنه سيواصل التحديات التي تواجه المفهوم التقليدي للدول القومية الويستفالية حيث أصبح العالم مرتبطًا بشكل متزايد عبر الإنترنت والتجارة العالمية وتدفق البشر والنباتات والحيوانات وغيرها من المواد. الآن تحدى وباء كورونا بمفرده هذه الاتجاهات الثلاثة. فبدأت الحكومات في إغلاق حدودها بسبب الوباء وأصبح قادة الدول يتحدثون عن قوة الحدود الجغرافية التي تفرضها الحكومات وأهمية عودتها مرة أخرى. كما تواجه التجارة العالمية عدة تحديات، فقد توقفت العديد من الخدمات والسلع بسبب الوباء. وإعادت الدول التفكير في سلاسل التوريد عبر القومية نظرًا للمخاطر التي تطرحها على الصحة العامة بما قد يجعلها تتجه في المستقبل للإنتاج المحلي بدلًا من الإنتاج العالمي الموزع في أكثر من دولة. رغم أن هذا قد يكون جيدًا للاقتصادات المحلية وقد يقلل نسب الكربون والتلوث إلا أنه يضر بالاقتصاد العالمي.
ويتم تحدي الاتجاه الأول-الإنترنت- خاصة في الأنظمة الاستبدادية التي وضعت قيودًا على الإنترنت للرغبة في السيطرة. وتعد الصين وكوريا الشمالية مثالان بارزان على ذلك بجانب بعض الدول الشرق الأوسطية والتي أظهرت قدرتها على منع وصول سكانها إلى الإنترنت. حتى في أوروبا، يجد بعض المسؤولين السياسيين الآن أن اللائحة العامة لحماية البيانات تطرح تحديات تتعلق بتتبع انتشار الوباء ، ويرجع ذلك جزئيًا إلى عدم الوضوح بشأن البيانات الصحية التي يمكن جمعها متى وتحت أي ظروف خلال الوباء.
بدائل الدولة القومية في حقبة مابعد كورونا
قبل COVID-19، كانت إدارة البيانات العالمية بالنسبة للشركات عبر الوطنية التي تقدم خدمات رقمية، مجزأة بشكل متزايد بما حد نسبيًا من انتشار الرقمنة في جميع المجالات. ولكن بعد الوباء يبدو أن الرقمنة هي المستقبل. فالعديد من المنشأت الصناعية التي تتطلب وجودًا فيزيائيًا للعمالة أصبحت تتحمل مسؤولية أثناء انتشار الوباء، بما تسبب في ازدهار الخدمات الرقمية. كما أثبت العالم مقدرته على الانتقال إلى العمل عن بعد من المنزل وتلقي الخدمات في المنزل بدلًا من التعامل مباشرة مع المنتج، بما يدفع القطاعين العام والخاص نحو تقديم السلع والخدمات الرقمية بشكل متزايد. وهذا يشمل الأتمتة واستخدام الروبوتات لإنتاج السلع المادية. ففي الصين أضحى 37% من قطاع التجزئة لديها رقمي.
ويرى براي أن هذه الاتجاهات التكنولوجية والاقتصادية المترتبطة بفيروس كورونا هي القشة التي قصمت ظهر البعير، بما يضع بقاء الدول القومية موضع تساؤل، وإذا كانت ستختفي فما الذي سيحل محلها؟ وهنا طرح عدة احتمالات أو بدائل للدولة القومية أحدها المدن الضخمة (mega-cities) والتي يمكن إعادة تصميمها بشكل كبير في المستقبل لتقوم بتقديم الخدمات الأساسية بطريقة أكثر مرونة وأكثر قدرة على التصددي للأوبئة المستقبلية والكوارث الطبيعية الأخرى، ويتم تحديد هذه المدن بدرجة أقل من خلال الهوية الوطنية وبدرجة أكبر من خلال ما تقدمه للأفراد الذين يعيشون داخلها. وتمكن التكنولوجيا المدن الضخمة من الاستجابة بشكل أسرع من الدولة للمواطنين. ويتوقع براي أن هذه المدن هي التي ستقوم بصياغة الاتفاقيات التجارية وترتيبات الصحة العامة واتفاقيات تغير المناخ مع المدن الأخرى حول العالم عبر العلاقات الدبلوماسية.
الاحتمال الآخر هو المجموعات عبر القومية المنظمة على أساس الأيديولوجية أو الهوية المؤسسية لتحل محل الدولة القومية الوستفالية التي تحددها الجغرافيا. ففي عالم ما بعد كورونا ستكون هناك حاجة للتأكد من أن الأفراد غير معديين ولا يشكلون خطرًا على الآخرين وغير معرضين للعدوى أيضًا، وهو ما يحفز إنشاء حلول تكنولوجية مرتبطة بجواز سفر الشخص أو بعمله أو بعض الآليات العالمية الأخرى المشابهة والتي قد تمكن شخصًا من أن يصبح مقيمًا إلكترونيًا في إستونيا دون الإقامة الفعلية فيها. فيرى براي أن تحديات ضمان أن الأفراد آمنون في السفر والسلع آمنة لعبور الحدود قد تجهد نموذج الدولة القومية بما يؤدي إل انهيارها واستبدالها بشئ آخر قائم بدرجة أكبر على الشبكة.
ووضع براي في ختام مقاله بعض المؤشرات المبكرة التي يجب مراقبتها لمعرفة ما إذا كانت الدولة القومية بالمفهوم الوستفالي ستستمر أما لا، ومعرفة ما سيحل محلها. يتمثل المؤشر الأول في مدى تعاون أوروبا في حل الأزمة، فهل يجتمع الاتحاد الأوروبي معًا ويحدد بفعالية استراتيجيات الصحة العامة والاستراتيجيات المالية وإعادة النمو الاقتصادي والتنمية الجديدة؟ إذا نجح الاتحاد الأوروبي في ذلك، فسيشير ذلك إلى أن نموذج الدولة القومية التقليدي المحدد فقط من خلال الجغرافيا انتهى في أوروبا ، ليحل محله شيء أكثر تركيزًا على الشبكة، وهو مجتمع من هويات ولغات وتاريخات مختلفة ملزمة بالمبادئ المشتركة. وإذا فشل الاتحاد الأوروبي، فإن الأمل في مستقبل نموذجي عالمي قد يتضاءل أيضًا في مناطق أخرى حول العالم. المؤشر الثاني هو انهيار إيطاليا، والتي تحتفظ بوحدة هشة ومجزأة يهددها بالفناء فيروس كورونا بما قد يقسمها إلى إمارات كما كانت خلال فترة مكيافيلي وبالتالي سينهار المثل الأعلى الويستفالي للدول القومية –إيطاليا-، وقد يحدث في باقى الدول وفقًا لـ “تأثير الدومينو”. ويجدر التنويه أن هذا السيناريو سيحدث فقط إذا فشل الاتحاد الأوروبي في إيجاد حلول تفيد جميع الأعضاء في مواجهة الأزمة.
الأمر الثالث هوقدرة الشركات عبر القومية على العودة مرة أخرى للعمل، فرغم أن القيمة السوقية الإجمالية للخمس شركات المذكورة أعلاه تجاوز إجمالي الاقتصاد العالمي مطروحًا منه اقتصاد الولايات المتحدة والصين واليابان وألمانيا، إلا أن أسهمها تأثرت سلبًا بفيروس كورونا. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو هل سترتد هذه الشركات بقوة أكبر من الاقتصادات الوطنية على مستوى العالم؟ وهل ستقوم بدعم الدول أم سيظهر ترتيب جيوسياسي جديد تمارس فيه الشركات وتشكل القوة والنفوذ الاقتصاديين؟
يختم ديفيد بري بالقول:” يمكن القول إن السؤال الرئيسي المطروح للدول هو ما إذا كان عام 2020 هو العام الذي أعاد تمكين السيادة الوطينة لها أم أنه العام الذي أثبتت فيه الدول القومية عدم فعاليتها في الاستجابة للوباء بما يدفع المواطنين من جميع أنحاء العالم لاختيار بديلًا مختلفًا لها؟”