تشن تركيا حاليًا ثلاثة حروب ونصف. اولها في العراق، وهو النزاع الأقدم، وصولا إلى تدخلها في سوريا، لتضيف عليه مؤخرا تدخلها في الملف الليبي، أما (نصف الحرب) فهي المواجهة التركية مع اليونان.
الطموحات التركية باستعادة هيمنتها على المنطقة ستكون له تداعيات جمة، ولن تقتصر على دول المتوسط والدول الجارة لتركيا، بل إنها ستثير قلق الناتو -الذي يضم تركيا منذ قرابة السبعين عاماً-، وكذلك الإتحاد الأوروبي والذي لا تزال مفاوضات انضمام تركيا إليه مستمرة رسمياً، ولكن الصدام التركي الأوروبي يزداد حدة في جملة من القضايا أهمها ملف اللاجئين وقضية الطاقة واحترام سياسة حسن الجوار مع الأوروبيين.
تدخلت تركيا عسكرياً وبشكل مباشر في سوريا ابتداءً من العام 2016، واتخذت لحملاتها العسكرية أسماءً وادعة كـ “درع الفرات” في جرابلس، “غصن الزيتون” في عفرين، “نبع السلام” في تل أبيض ورأس العين كما “درع الربيع” في إدلب. في الوقت الذي كانت تركيا تقاتل الجهاديين والدولة الإسلامية، كانت المواقف التركية متوافقة مع رؤية الاتحاد الأوروبي، ولكن الثقل العسكري التركي توجه بالكامل لمجابهة الأحزاب الكردية، والتي كانت في طريقها لتأسيس كيان مستقل لدولة في الشمال السوري أو على الأقل منطقة حكم ذاتي على الحدود مع تركيا، اليوم جزء كبير من الشمال السوري يرزح تحت الاحتلال التركي وبضوء أخضر روسي، حتى باتت الليرة التركية العملة الرسمية المتداولة في إدلب.
التوسع التركي يمتد باتجاه عمق البحر المتوسط
ثالث منطقة نزاع تشهد تدخلاً تركياً وهو الأكثر تهديداً لمصالح أوروبا المباشرة، هي الحرب الليبية، لطالما ارتبطت الحرب في ليبيا بثروات المتوسط الطبيعية، قبل وقت طويل من وصول المستشارين العسكريين الأتراك إلى ليبيا، نازعت تركيا جيرانها حقوق التنقيب عن الغاز، اليونان وقبرص بالإضافة إلى مصر وإسرائيل تتبع اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار UNCLOS والتزام التنقيب في المياه الإقليمية المخصصة لكل دولة.
لم تعترف تركيا أبدًا باتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار وكانت وحيدة في ذلك، حتى أقنع أردوغان الحكومة المضطربة في طرابلس العام الماضي بتقسيم جزء كبير من البحر الأبيض المتوسط إلى “مناطق اقتصادية حصرية” بين تركيا وليبيا. تدعي تركيا، من بين أمور أخرى، بأن المياه اليونانية في محيط كل من كريت وجزر دوديكانيسيا، الغنية برواسب الغاز الطبيعي هي مناطق مختلف عليها. في المقابل، يعمل أردوغان الآن على دعم حكومة فايز السراج بالطائرات بدون طيار والميليشيات والمستشارين العسكريين. وقد أخل ذلك بالتوازن الاستراتيجي في ليبيا، على عكس الوضع في العراق وسوريا، حيث الهيمنة التركية هناك محدودة، ولا يزال حزب العمال الكردستاني والميليشيات الكردية المرتبطة به تكافح، وفي سوريا يجد أردوغان نفسه مرغماً على التنسيق مع بوتين والحصول على موافقته. في المقابل، ليبيا أصبحت ملعباً تركيا خالصاً بلا منازع تقريباً.
يمنح هذا الموقف أردوغان الثقة لتحدي جميع جيرانه المتوسطيين في الوقت نفسه. أردوغان يتبادل التهديدات بالحرب مع مصر. يرسل سفن الحفر التركية في المياه جنوب قبرص ويهدد اليونانيين بأسطوله. في منتصف الأسبوع، انطلقت سفينة استكشاف تركية للحفر التجريبي إلى جزيرة كاستيلوريزو اليونانية. ما دفع اليونانيين لوضع جيشهم في حالة تأهب، وفقا لتقارير إعلامية.
أردوغان والذي قام في شباط / فبراير الماضي بإرسال مجموعات من اللاجئين إلى الحدود اليونانية، كان قد أثار الجدل بصورة له أمام خريطة تظهر الجزر اليونانية في بحر أيجه ضمن نطاق المياه الإقليمية التركية. أردوغان لم يلبث يثير الشكوك وينتقد مراراً اتفاقية لوزان، والتي أرست الحدود بين تركيا واليونان عام 1923.
تشكل ملفات عدة المواقف الأوروبية تجاه تركيا أهمها ملف اللاجئين ومفاوضات الانضمام للاتحاد الأوروبي، وباهتمام أقل انتهاكات حقوق الإنسان، لدى تركيا القوة العسكرية الكافية لفرض مواقفها، علاوة على ذلك لديها الإرادة لاستخدام هذه القوة، وهي تعمل على خلق الأيديولوجيا المسوغة لذلك.
يعتمد ثاني أقوى جيش في حلف الناتو على استيراد معداته العسكرية، وهذا ما يزعج أردوغان، وخاصة اضطراره للالتزام بالقوانين الألمانية الصارمة لكونه المستخدم الأخير فلا يمكن إعادة بيعها أو تزويد أطراف أخرى بها كما ويعتمد على التكنولوجيا الأمريكية، وفي حالات هناك حظر من قبل بعض الشركاء في الناتو على تركيا. “لقد أردنا دوماً صناعة دباباتنا” كما صرح وزير الدفاع الأسبق وجدي غونل، بالنسبة لتركيا استقلال السلاح كان دوماً الشعار.
في ظل حكومة أردوغان ارتفع معدل إنتاج الأسلحة محلياً، وفي شباط / فبراير تفاخر معلناً بأن تسارعاً مضطرداً بنسبة الإنتاج من 20 إلى 70 بالمئة حدث في عهده، وقد بلغت صادرات الأسلحة التركية في 2019 ما حجمه 3.68 مليار دولار، في 2023 وعندما تحيي الجمهورية مئويتها الأولى يخطط أردوغان لمضاعفة هذا الرقم ثلاث مرات.
في الواقع، انتجت تركيا سفنا حربية لفترة طويلة. ينتج حوض بناء السفن -ديارسن- في اسطنبول زوارق الدوريات، في حين ينتج حوض -غولجوك- في قوجه إيلي الغواصات. السفن التركية مهمة لتأكيد الادعاءات في البحر المتوسط والتحايل على حظر الأسلحة في ليبيا.
في الآونة الأخيرة، استثمرت تركيا الكثير من الوقت والمال والطاقة في تطوير طائرة بدون طيار وهي بيرقدار تي بي 2. كانت الطائرة المدججة بالسلاح فعالة في صد قوات الجنرال حفتر في ليبيا، وقد استخدم الجيش التركي سابقًا نفس الطائرة في ساحات قتال أخرى، في جنوب شرق تركيا وسوريا ضد الميليشيات الكردية. كما تم نشر الطائرة بيرقدار تي بي 2 في شمال قبرص.
مؤسس الجمهورية التركية الحديثة هو كمال أتاتورك، الذي لم تتملكه يوماً الطموحات التوسعية للسلطنة العثمانية، وقد رأى في ذلك سبباً في انهيارها، فقد تجاوزت في سبيل التوسع طاقاتها، لقد أراد تركيا “محايدة” ومكتفية ذاتياً. وكان مبدأ سياسته الخارجية: “سلام في الوطن، سلام في العالم”. خلال الحرب الباردة توجهت تركيا غرباً وفي العام 1952 أصبحت عضواً في الناتو، تعمقت الروابط مع أوروبا مع رغبة في الانضمام للاتحاد الأوروبي.
في العام 2009 صاغ وزير الخارجية أحمد داوود أوغلو عقيدته الدبلوماسية الجديدة “صفر مشاكل” مع الجوار، والصفر هنا لا تعني عدم التدخل في دول الجوار بل تعني التدخل كأخ أكبر للحفاظ على التوازن والنظام الإقليميين وبالتالي الـ “صفر مشاكل”، هكذا أرادوا أن ينظر لدورهم. وهذا ما أرادوا تحقيقه مع بداية الربيع العربي، لكن هذه الاستراتيجية لم تكلل بالنجاح، وفشلت المساعي التركية في قيادة حكومات عربية موالية منضوية تحت راية الإخوان المسلمين.
اليوم، لم تعد تركيا تعتمد على قوتها الناعمة، بل تعتمد على طائراتها من دون طيار وسفنها الحربية، وكلما ابتعدت قضية الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي ازدادت طموحات الهيمنة على الشرق الأوسط، ولموائمة رغبة الهيمنة ثمة عقيدة استراتيجية جديدة “وحيداً ضد الجميع”. وفي ذلك قراءة سياسية لأسطورة تأسيس الجمهورية، حيث كان على الحركة الوطنية بقيادة أتاتورك أن تقاتل من أجل استقلال البلاد القوى الغربية بعد حرب خاسرة وانهيار الإمبراطورية العثمانية.
مع محاولة الانقلاب ضد أردوغان في 2016 وتضامن الاتحاد الأوروبي الحذر كما يراه أروغان، ازدادت عزلة الطرفين. في ذلك الوقت، وجد أردوغان حلفاء جدد بين القوميين اليمينيين واليسار في صفوف الجيش وفي السياسة. لديهم عقيدة عسكرية تسمى “البيت الأزرق”، والتي تمثل مطالب الدولة في البحر الأبيض المتوسط. وفقًا للباحث السياسي إلهان أوزغل، تستند هذه السياسة الخارجية على ثلاثة عناصر أساسية: العسكرة، “الدفاع الوطني العابر للحدود” والتي تتضمن استخدام المرتزقة العرب من الإسلاميين وثالثاً تطوير صناعة الأسلحة. كما تشمل الانتشار طويل الأمد للجنود في الخارج، وهكذا يتم الدفاع عن أمن تركيا في الصومال أيضاً.
رسخت هذا التصورات قناعة منتقدي التوجهات الغربية “الأوراسيين” من سياسيين، ضباط ونخب مثقفة بضرورة الالتفات شرقاً حيث يجب على تركيا أن تقترب أكثر من روسيا والصين وإيران، بالنسبة لهم، أوروبا هي العدو، ازداد تأثير هؤلاء بعد الانقلاب الفاشل، ومع اقتراب أردوغان من اليمين القومي. تنسيق تركيا مع روسيا ضد الغرب يمثل أساساً في تصوراتهم، فالأوراسيون الروس والأتراك يجتمعون بصورة منتظمة.
على الجانب الآخر، ترى أوروبا أن تركيا هذه لم تعد ذلك المرشح المؤهل والجدير بالانضمام، لا يمكن لبلد أن يتوقع قبول انضمامه للاتحاد بعد إثارة كل هذه الشكوك، ولكن أردوغان على درجة كافية من الذكاء ليعلم أن استكمال مفاوضات الضم ماهي إلا لضمان البقاء في حلف الناتو، هي شعرة معاوية التي تؤمن لأردوغان وزناً أكبر في مفاوضاته مع روسيا وإيران، وقد استنكفت ألمانيا بالفعل عن إرسال التحذيرات الفاترة لتركيا، وعن إسداء النصح عبر خارجيتها، والتي لم تعد تؤخذ على محمل الجد.
كل هذا دفع أصواتاً أوروبية لمطالبة الاتحاد بدور عسكري أكبر في المنطقة ومنهم – نتالي توتشي- مستشارة ممثل الخارجية الأوروبية جوزيب بوريل، والتي أوصت بمشاركة أكبر مع قوات حفظ السلام الأممية العاملة في ليبيا، مهمة قد تناسب من عليه تعلم “لغة القوة” كما جاء في توصية الوزير بوريل للاتحاد الأوروبي.