احتوى مشروع الدستور الجزائري في نسخته الأخيرة المعدلة على بنود مثيرة للجدل في طيات مواده، كان على رأسها مسألة تعتبر تغييرًا أمنيًا في العقيدة العسكرية للجيش الجزائري عبر السماح للجيش والقطع العسكرية بالمشاركة في عمليات عسكرية خارج الحدود للمرة الأولى في تاريخ البلاد.
إشكالية الدستور القديم
تشير نسخ الدساتير السابقة بصراحة ووضوح، أن الدولـة علـى احترافية الجيش الوطني الشعبي وعلى عصرنته بـالـصورة الـتي تجـعله يمـتلك القـدرات المطلوبة لـلحفاظ على الاسـتقلال الوطني والـدفاع عن السيادة الـوطنية ووحدة الـبلاد وحرمتها الترابية بالإضافة لحماية مجالها البري والجوي والبحري.
ونصّت المادتين 28 و29 على ما يلي: تنتظم الطّاقة الدّفاعيّة للأمّة ودعمها وتطويرها حول الجيش الوطنيّ الشّعبيّ.. وتتمثّل المهمّة الدّائمة لـلجيش الوطنيّ الشّعبيّ في المحافظة على الاسـتقلال الوطني والدّفاع عن السّيادة الوطنيّة. كما يضطلع الجيش بالدّفاع عن وحدة البلاد وسلامـتها الـتّرابيّة وحماية مجالها الـبرّيّ والجوّي ومـختلف مناطق أملاكها البحريّة… لكن المـادّة 29 أشارت علانية إلى أن: الجزائر تمتنع عن اللّجوء إلى الحـرب من أجل المـسـاس بالسّـيادة المشروعـة للـشّعوب الأخرى وحرّيّتها.. حيث تبذل جهدها لتسوية الخلافات الدّوليّة بالوسائل السّلميّة.
وعلى الرغم من ذريعة عدم دستورية المشاركات العسكرية خارج البلاد في العهود السابقة إلا أن الجيش الجزائري سبق أن شارك في مهمات قتالية خارج البلاد، كحرب 1967 وحرب الاستنزاف وحرب 1973، بالإضافة لأعمال غير قتالية في الصحراء الغربية لنجدة لاجئي جبهة البوليساريو وتموينهم..
عملية إجلاء السفير
كذلك شارك في نشر قوات الاتحاد الإفريقي في الصومال والمساهمة في بعثة حفظ السلام الأممية في كمبوديا وعملية إجلاء السفير الجزائري في ليبيا “عبد الحميد بوزاهر” بعد إنقاذه مع عائلته من عملية اختطاف كانت وشيكة، ما يلغي تمامًا حجة الحظر الدستوري.
في الدستور الجديد يذكر البند الـ 31 بأنه “يمكن للجزائر في إطار احترام مبادئ وأهداف الأمم المتحدة، الاتحاد الأفريقي، وجامعة الدول العربية، أن تشارك في حفظ السلم، بعد مصادقة البرلمان بأغلبية ثلثي أعضاء كل غرفة من غرفتيّ البرلمان”.
لكن إضافة مبرر آخر في نفس السياق يسمح بـ” مشاركة الجزائر في المنطقة على استعادة السلم في إطار الاتفاقيات الثنائية مع الدول المعنية”، في إشارة لإمكانية خروج الجيش في إطار اتفاق مع إحدى حكومات المنطقة، يفتح الباب أمام “المغامرة” بالمؤسسة في صراعات تعرضها للمخاطر، وفق رأي المعارضين.
بين التأييد والمعارضة
تذرع مؤيدو رفع الحظر الدستوري، بالتهديد الذي يحوم حول المصالح الجزائرية في المنطقة، مع تدهور الأوضاع الأمنية والعسكرية على الحدود الجنوبية والجنوبية الشرقية، حيث بقيت حادثة “تيغنتورين”، التي استهدفت محطة غازية كبرى في جنوب البلاد سنة 2013 من طرف جماعة إرهابية، باقية في الذاكرة الجمعية لا سيما بعد أن ثبت أن منفذيها كانوا يتحركون عبر الشريط الحدودي الجنوبي والشرقي.
المعارضون لذلك التغيير في العقيدة العسكرية الجزائرية، يتخوفون من تحول جيش البلاد لأداة تنفيذ مخططات آخرين بالإضافة للغرق في مستنقعات الحروب الإقليمية المعقدة والغير محسومة العواقب.
ويرى الرافضون أن رفع الحظر بمثابة مقدمة لتوظيف الجيش الجزائري، (يصنف من أكبر وأقوى الجيوش بالمنطقة)، في صراعات تخدم القوى النافذة في المنطقة، وأن الخطر لا يكمن في مهام حفظ الأمن والسلم في بؤر التوتر، بقدر ما يكمن في المستنقعات المستعصية التي قد يسحب الجيش الجزائري إليها، كالحرب على الإرهاب والجريمة المنظمة والصراعات الداخلية.
هذا وتعتبر قوننة المهام الجديدة للجيش، واحدة من المحاور الأساسية في برنامج الرئيس الإصلاحي (الذي وعد به في حملته الانتخابية)، حيث يراهن تبون على تزكية شعبية للدستور بعد مروره الشكلي على غرفتي البرلمان في الأيام الماضية، حيث حاز على تصويت الأغلبية النيابية ولم تمتنع عن التصويت إلا كتل صغيرة لأحزاب معارضة كجبهة القوى الاشتراكية والتجمع من أجل الديمقراطية العلمانيين، والأحزاب الإخوانية وبعض النواب المستقلين.
ميزات منتظرة
يمكن تصنيف التدخل العسكري أن يقدم عدّة خدمات هامة للجزائر، منها فرض الجزائر كرقم صعب لا يمكن تجاوزه بحكم تواجده على الأرض في أي تسوية سياسية قد لا تخدم المصالح الجزائرية. لكن مداخلة وزير العدل الجزائري، أمام غرفة البرلمان الثانية حول دور ومهام الجيش الجزائري، بموجب الدستور الجديد للبلاد، توحي أن السلطة ما تزال غير مطمئنة للخيار الجديد.
حيث صرح وزير العدل “بلقاسم زغماتي”، أمام نواب مجلس الأمة، على هامش عرض التعديل الدستوري الجديد، قبل الاستفتاء الشعبي في مطلع نوفمبر تشرين الثاني المقبل، بأن “رفع الحظر عن مشاركة الجيش في عمليات بالخارج، لا يعني المشاركة في حروب، وإنما التدخل لحفظ السلم بعد انتهائها”.
كما أشار وزير العدل في شرحه أنه “سابقًا طلب من الجزائر المشاركة في حروب بمنطقة ما، ورفضنا وبقينا أوفياء لهذا المبدأ”.. وإن لم يسمّها فإن الإشارات تتوجه إلى طلبات أميركية وفرنسية لدخول الجيش الجزائري في الحرب على الإرهاب بمنطقة الساحل الصحراوي، خاصة بعد سقوط حكومة “باماكو” العام 2012 تحت ضربات التنظيمات الجهادية.
موقف القيادات العسكرية
لا يمكن القول إن مرور هكذا تعديل دون موافقة ضمنية أو تحريض من قبل جنرالات الجيش والدولة العسكرية العميقة. إذ أعلنت قيادة الجيش في فترة سابقة عن دعمها وتأييدها للتحول الجديد في مهام الجيش، فقد ابدى رئيس الأركان الجنرال سعيد شنقريحة، عن انسجام الرؤية داخل أركان النظام حول التوجه المستحدث للمؤسسة العسكرية، كرد ضمني على القائلين بإمكانية إثارة القرار لخلافات بين الفاعلين في مؤسسات الدولة.
كما أكدت القيادة العليا للجيش الوطني الشعبي، أن مشاركة جيشها خارج الحدود لا يعني بتاتا الدخول في تكتلات عسكرية موجهة ضد دول بعينها، أو استغلاله من الدول العظمى لسحق الشعوب الضعيفة أو تحوله إلى “دركي المنطقة”، وإنما هو استعداد دائم للدفاع عن السيادة الوطنية ومصالح الجزائر في ظل الظروف الإقليمية الراهنة والمستجدات الطارئة.
بين العقيدة والدساتير
في حين، أشار مقال مفصل جاء في العدد الأخير لمجلة الجيش “أن المتمعن في المادتين، حتى وإن لم يكن من أهل الاختصاص يفهم دون لبس أو غموض أن مشاركة الجيش الجزائري تتم في إطار منظمات دولية وإقليمية، إلى جانب اشتراط مصادقة البرلمان الجزائري بأغلبية الثلثين، إلى جانب هذا فإن العقيدة العسكرية من خلال دساتير الجمهورية، لم تتغير ولم تكن هناك مادة أو بند يمنع مشاركة الجيش في عمليات حفظ الأمن وإحلال السلام في العالم، فالجزائر لم تدخر جهدا من أجل الاستجابة لدعوات المجموعة الدولية المتمثلة في منظمة الأمم المتحدة ومختلف المنظمات الإقليمية”.
يذكر أن القائد السابق للجيش، الفريق أحمد قايد صالح، أعلن في 26 مارس / آذار الماضي، أن “العقيدة العسكرية هي في عمومها نتاج لعمق فكري وثقافي وحضاري تتوارثه الأجيال جيلًا بعد جيل، تستمد مبادئها من الإرث التاريخي والنضالي للأمة، وكفاحها المستميت ضد الاستعمار، ومن قيمها الدينية والمعنوية، ومن المثل العليا للدولة وتشريعاتها”.
وأوضح في كلمة له خلال ملتقى حول العقيدة العسكرية للجيش الجزائري، أنها (العقيدة العسكرية) “تتم مراجعتها وتحيينها كلما تطلب الأمر ذلك، لتتكيف مع متغيرات المعطيات الجيوسياسية، وهي بذلك تمثل أسس سياسة الدفاع الوطني، ومرتكزًا رئيسيًا لصياغة الاستراتيجية العسكرية”.