تظهر المؤشرات المتتابعة تحركًا عربيًا لاستنقاذ العراق من براثن المستنقع الإيراني الذي وقعت فيه بغداد بعد الغزو الأمريكي الذي جعل البوابة الشرقية للبلاد العربية (العراق) مدخلًا لنفوذ الولي الفقيه ومقدمة للسيطرة الشيعية الفارسية المتسترة بالثوب الديني والطائفي والحاملة لحقد ورغبة إيرانية طائفية قومية في تدمير سلم واستقرار تلك البلدان.
ويمكن القول إن مهمة اقتلاع إيران من العمق العراقي؛ باتت أصعب بكثير وذات تعقيدات متزايدة.. إلا أن ترك العراق بدون أي دعم عربي أو مفاتيح عربية لسياسته يجعله عرضة للسقوط بمشاريع إقليميّة أخرى كالانحياز لطهران (الواقع فعليًّا) أو الاصطفاف مع المشروع التركي مثلًا.. وهي أبعاد يبدو أنها حكمت توجهات صانع السياسة العربي في المرحلة السابقة فوجدنا لقاءات مسؤولين خليجين وسعوديين مع ساسة عراقيين وأصحاب نفوذ.. مع بلورة اصطفاف جديد مثلته لقاءات أردنية عراقية مصريّة توجتها قمة لزعماء الدول الثلاث بعد قمة ثلاثية عراقية أردنية مصرية عقدت في العاصمة الأردنية عمان، في الـ 25 من أغسطس آب الماضي، حيث لم تكن تلك القمة الأولى من نوعها حيث جاءت بعد قمتي القاهرة في مارس آذار 2019، ونيويورك في سبتمبر أيلول من نفس العام، على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة.
استولى البعد الاقتصادي، على الحصة الأكبر من مباحثات القمة الثلاثية.. مع ما تعانيه الدول الثلاث من أزمات اقتصادية متراكمة، وبقي الجانب السياسي، في نطاق التعبير عن مواقف مشتركة بالملفات الإقليمية، مثل التدخلات الإيرانية والتركيّة في ملفات العراق وسوريا وليبيا (هو الأقل اهتمامًا)، حيث لم يُعبَّر عنه في البيانات المشتركة بشكل واضح وصريح.
ورغم مخرجات القمة التي ركزت على الجوانب الاقتصادية والتي تمثلت بمشارع واتفاقيات مهمة ينتظر استئناف مباحثاتها والبدء بتنفيذها.. وهو الأمر المرتبط بأهم عضويين في الاصطفاف الجديد (مصر والعراق) كون الأردن تعتبر عقدة نقل وطريقًا واصلًا بينهما..
ثم جاءت زيارة وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين للقاهرة، في الـ 12 من أكتوبر تشرين الأول الماضي، ثم عُقد اجتماع آلية التنسيق الثلاثي لوزراء خارجية مصر والأردن والعراق، يوم الـ 13 من ذات الشهر.
استئناف الزيارات
قام رئيس الحكومة المصريّة مصطفى مدبولي، يوم السبت الماضي، بزيارة رسمية إلى بغداد على رأس وفد وزاري كبير ليرأس الجانب المصري في اجتماعات اللجنة العليا العراقية – المصرية للتعاون المشترك. (في مستهل زيارة تعد الأولى لرئيس الحكومة المصرية منذ الغزو الأميركي للعراق 2003، إن لم تكن الأولى منذ الغزو العراقي للكويت 1991)
بدورها، ذكرت مصادر في الحكومة العراقية لوكالة الأنباء الألمانية، أن “رئيس الوزراء سيجري سلسلة لقاءات مع الرئيس العراقي برهم صالح ورئيس الوزراء مصطفى الكاظمي ورئيس البرلمان محمد الحلبوسي، كما سيرأس وفد بلاده إلى اجتماعات اللجنة العليا للتعاون المشترك على مستوى رئيسي وزراء العراق ومصر”.
وقبل الزيارة بيوم؛ أنهى وفد من الخبراء في كلا البلدين سلسلة اجتماعات للتهيئة لعقد اجتماعات اللجنة العليا العراقية – المصرية المشتركة وإبرام سلسلة اتفاقيات وَمذكرات تفاهم بين البلدين.
نتائج الزيارة
حملت تشكيلة الوفد المصري رسالة واضحة عن الأهمية التي تحملها القاهرة للتعاون مع بغداد؛ حيث رافق مدبولي وفد رفيع المستوى ضم وزراء الكهرباء، والبترول، والقوى العاملة، والتعاون الدولي، والصحة، والإسكان، والنقل، والطيران المدني، والتجارة والصناعة، والرئيس التنفيذي لهيئة الاستثمار، أي فريق يشكل الجزء الأكبر من تشكيلة الحكومة المصرية، بما يؤكد الأهمية التي توليها مصر لهذه الزيارة وصولاً لمرحلة الشراكة الاستراتيجية.
وتمخض عن زيارة السبت المنصرم؛ توقيع البلدان على 15 اتفاقية ومذكرة تفاهم وبروتوكول تعاون بين البلدين شملت مجالات الكهرباء والغاز والطاقة المتجددة والصناعات الحربية والاتصالات والنقل والإعمار، فضلاً عن قطاعات أخرى.. في زيارة “مدبولي” التي رافقه فيها عدد من المسؤولين ورجال الأعمال إلى العراق، للمشاركة في أعمال اللجنة العليا المصرية العراقية المشتركة، (يديرها رئيسي وزراء البلدين)، وذلك بعد نحو ثلاثة أسابيع من زيارة وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين إلى القاهرة.
ويمكن القول – وفق مؤشرات عديدة – إلى رغبة مصرية بزيادة نفوذها وتواجدها في الاقتصاد العراقي عبر بوابة “إعادة الإعمار” وهذا ما يفسر الإعلان عن انشاء آلية النفط مقابل الإعمار”، بعد اتفاق مبدئي حملته الزيارة..
يذكر هنا أن مخرجات القمة الثلاثية حملت في طياتها بعدًا خاصًا بالطاقة والنفط.. حيث سيمد خط أنبوب نفطي من ميناء البصرة جنوب العراق وصولاً إلى ميناء العقبة في الأردن، ومن ثم إلى مصر، ليحصل الأردن بمقتضى ذلك على النفط العراقي بسعر أقل من سعر السوق الدولي، فضلاً عن رسوم العبور.. في حين تستفيد مصر من عملية تكرير جزء من النفط العراقي على أراضيها، ليستورد العراق الكهرباء من مصر، حيث يمكن لبغداد الاستفادة من الخبرات المصرية في عملية إعادة الإعمار.
تعزيز ودعم
استغل الكاظمي المؤتمر الصحفي المشترك مع نظيره المصري؛ ليعرب عن تطلع بغداد إلى زيادة التواصل والتنسيق بين المؤسسات التعليمية والثقافية والدينية والعمل معًا من خلال هذه المؤسسات، من أجل الوصول إلى الاهداف المشتركة في إشاعة الوسطية ومكافحة الإرهاب والتطرف..
حيث أشار الكاظمي إلى أن حكومته تولي أهمية قصوى للجنة العراقية المصرية الأردنية المشتركة، التي عقدت اجتماعها في عمان في أغسطس آب الماضي.. حيث قال إنه يتطلع إلى تطوير هذا التعاون الثلاثي في إطار مستدام من التكامل الاقتصادي والتعاون الاستراتيجي.
أما رئيس الحكومة المصرية فأوضح أن مستوى التعاون الثنائي بين الطرفين. شهد مناقشة استعداد مصر بكل خبراتها لتنفيذ عدد من المشاريع الكبرى في قطاعات البنية الأساسية والطاقة والكهرباء والبترول والغاز والإسكان والنقل لدعم العراق، ليشير إلى التوافق على سرعة تفعيل مجموعة من المشاريع الممكن تنفيذها من خلال الشركات المصرية، ضمن آلية “النفط مقابل الإعمار”، إذ تحدد الحكومة العراقية المشاريع وفقاً لأولوياتها.
ولفت مدبولي إلى أنه سيتم تفعيل شكل هذه الآلية التي أنشئت، بحيث تبدأ من خلالها الشراكة بين البلدين لتنفيذ المشاريع المختلفة سواء التنموية أو الاستثمارية.
كما ذكر مدبولي أنه تم التوافق بين الجانبين على قضية الأمن المائي للبلدين باعتبارهما دولتي مصب، والتأكيد أنها إحدى قضايا الأمن القومي المشتركة، كما تم التشديد على مصالح الدولتين في الحفاظ على حقوقهما المائية، باعتباره أمراً يمس الأمن القومي العربي.
القاهرة تنشد مشاركة واسعة في ملف الإعمار وبغداد تضبط توجهاتها
يرى بعض المراقبين أن رؤية الحكومة العراقية، تتجه حاليًا إلى إعادة ضبط علاقاتها في العنق العربي واستعادة توازنها في هذا المستوى.. حيث تعتبر العلاقة مع مصر مقدمة مهمة ومدخلًا فعالًا لهكذا توجه في ظل سعي مصري للمساهمة عبر شركاتها الخاصة والعامة في ملف إعادة إعمار العراق.
وكانت وزارة الخارجية العراقية ذكرت في بيان يوم السبت الماضي، أن “زيارة الوفد المصري إلى بغداد، تأتي استكمالاً لجولة المباحثات المعمقة التي أجراها وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين في القاهرة”.
حيث أشار المتحدث باسم وزارة الخارجية العراقية أحمد الصحاف إلى أن “العراق حريص على إدامة هذه الجهود والعلاقات، وفق مصالح متساوية ومشتركة”.
أما إبراهيم المنشاوي، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة فأوضح – فيما نقلته اندبندنت عربية-، أنه ” لا شك أن تحسّن العلاقات بين القاهرة وبغداد وتضافرها يقوّيان الوقوف في مواجهة التحديات والمخاطر المشتركة بين البلدين، انطلاقًا من الإيمان بوحدة المصير والمصالح المشتركة، وعمق العلاقات التاريخية بين الشعبين”..
حيث أوضح المختص أن “ثوابت السياسة المصرية تجاه العراق ترتكز على ضرورة الحفاظ على وحدته وسيادته ورفض التدخلات الخارجية، أو الاعتداءات غير الشرعية داخل حدوده”.
وبحسب المنشاوي، يرتكز التحرك المصري باتجاه العراق على “آلية النفط مقابل الإعمار”، إذ تجد القاهرة في شركاتها العامة والخاصة قدرة على المنافسة والوجود بقوة في الاستثمار بالاقتصاد العراقي”.
يشار هنا أن من بين الاتفاقات ومذكرات التعاون التي وقّع عليها البلدان في الزيارة الأخيرة، مذكرة تفاهم بين وزارة البترول والثروة المعدنية المصرية ووزارة النفط العراقية، وأخرى في مجال الطرق والجسور، وقّع عليها عن الجانب المصري وزير النقل كامل الوزير، ووزيرة الإعمار والإسكان والأشغال العامة العراقية “نازنين محمد وسو”، فضلاً عن ثالثة متعلقة بالتعاون في مجال الإسكان والتشييد.
أبعاد اقتصادية
إن تنفيذ مشروع الربط الكهربائي؛ يعطي القاهرة سوقًا جديدًا لتصدير الكهرباء بعد أن حققت مصر الاكتفاء الذاتي من قطاع الكهرباء منذ عام 2015، وبلغ إنتاجها العام الماضي نحو 58 ألف ميغا واط، (يفوق استهلاكها بنحو 53 %، إلى جانب احتياطي يصل إلى 25 %)..
ومع ما تواجهه مصر من منافسة قوية في السوق الأفريقي للكهرباء، بعد مشروع سد النهضة الإثيوبي – أكبر مشروع للطاقة الكهرومائية في أفريقيا – ما يمنحها متنفسًا بديًلا يمثله السوق العراقي والأردني.
أما مشروع نقل النفط فيعطي القاهرة فرصة الحصول على نفط العراق بأسعار زهيدة، أما بالنسبة للأردن –ربما- لا يوجد تغيير ملموس في دعم الكهرباء في الأردن كما أن الخصومات التي يحصل عليها من استيراد النفط العراقي مستمرة قبل إنشاء مشروع الربط الكهربائي ولكن ربما ستكون هناك استفادة السياسية للأردن تكمن في استغلال موقعه الجغرافي الاستراتيجي ليكون بوصلة الربط الكهربائي في الجزيرة العربية بداية من الخليج الممتد إلى العراق نهاية بمصر، وهو ما يجعل له دورًا سياسيًا كبيرًا، إذ اتفقت القمة الثلاثية الأخيرة على دفع البلدان الثلاث لتعزيز دورهم الإقليمي في المنطقة، ونجاح مشاريع نقل النفط والربط الكهربائي من شأنه أن يضمن للعراق تحقيق الاكتفاء الذاتي من الكهرباء، إضافة إلى توفير مليارات الدولارات التي ضختها الحكومة سابقًا في القطاعِ دون جدوى. (ويسعى كل من العراق والأردن إلى ضم السعودية لمشاريع اقتصادية مستقبلية طويلة المدى تتعلق بالتكامل الكهربائي معها، إلى جانب الشبكة الممتدة من مصر، مع التطلع لربط تلك الدول بالشبكة الخليجية)
المتغير الأمريكي
ساهمت واشنطن بأدوار مهمة لعقد القمة الثلاثية وما تمخض عنها من تقارب مصري عراقي تريد منه الإدارة الأمريكية تعزيز البعد العربي في العراق لموازنة النفوذ الإيراني.. وعليه يكون هدف الولايات المتحدة من دفعها للتقارب والمشاريع المشتركة هو محاولة إحداث تغييرات جوهرية في أوزان الدول العربية وقيمتها الاستراتيجية على صعيد الأمن الإقليمي.. فما كان الأردن ومصر يقومان به تقليديًا بخصوص القضية الفلسطينية في المسكوت عنه في الاتفاق الجديد لم يعد قائمًا، في حين أن العراق الذي كان يمثل إحدى القوى الإقليمية البارزة، سواء في معادلة إيران أو الصراع العربي الإسرائيلي، لم يعد في المنظور الأميركي الجديد، إلا ساحة صراع على النفوذ بين الولايات المتحدة وإيران.
بين الاقتصاد والسياسة
مع تضافر المؤشرات حول سعي الدول الثلاث وخصوصًا مصر والعراق لتشكيل محور جديد.. يبدو أنه سيكون داعمًا لمجلس التعاون الخليجي وليس منافسًا له؛ بل يعتمد سياسة التكامل بينهما..
في حين يمكن قراءة بعض توجهات الكاظمي في تكوين نموذجٍ يشابه النموذج الأوروبي – قديمًا – في التكامل الإقليمي، الذي قام بدايةً على الجانب الاقتصادي في التعاون، ثم انتقل إلى الجانب السياسي وبذلك يسعى الكاظمي إلى مواجهة الأزمة الداخلية والاستقطاب العنيف في الداخل بين إيران والولايات المتحدة والقوى المؤيدة لهما نحو إيجاد “بدائل عربية” إقليمية، وهو خيار جيد بشرط أن يكون هنالك استعداد لكل من الأردن ومصر لتقديم هذا العمق الاستراتيجي.
أما القاهرة فلا تبدو معنيةً جديّاً بمحاولات استنهاض “المشرق العربي”، وإعادة تشكيل موازين القوى الإقليمية، وإنما تفكّر بدرجةٍ رئيسيةٍ بتحقيق مصالح ومنافع اقتصادية من العراق، فيما يتراجع الاهتمام المصري بالقضية الفلسطينية، وتطغى مسألة سد النهضة التي أخذت مساحةً واضحة في بيان القمة، أو الحالة الليبية والتنافس مع تركيا لدى السيسي، على أي ملفات إقليمية أخرى.
ويمكن القول إن عمّان عن إعادة تشكيل دور “دول الطوق”، بما يردّ الاعتبار للمكانة الاستراتيجية للمملكة ولدورها الإقليمي، ويحدّ من مسلسل التدهور والانهيار في الملف الفلسطيني.
“تصدير النفط” الغائب الحاضر
تبقى محاولة تطويق إيران – وفق بعض المراقبين – هي المؤشر الأبرز من التقارب المصري العراقي – والأردني بينهما – حيث يعتبر سحب بطاقة التهديد الإيرانية بغلق مضيق هرمز؛ المحرك الفعال للتكامل الاقتصادي المنشود بين العراق ومصر عبر الأردن.. عبر نقل النفط العراقي وبعده النفط السعودي إلى البحر الأحمر عبر ميناء العقبة بالنسبة للعراق، وميناء ينبع بالنسبة للنفط السعودي لاحقًا، والاستغناء عن المرور بالخليج العربي.
وترجح تحليلات أخرى – تقرأ البعد الغربي والأمريكي المهتم بالأمن الإسرائيلي- زج العراق في عملية تطبيع تدريجية مع “إسرائيل”، تبدأ المرحلة الأولى منها بالدخول في هذا الثلاثي لدولتين معترفتين بإسرائيل وعقد اتفاقات نفطية وتوحيد لشبكة كهرباء دولية تكون “إسرائيل” جزءا منها، ثم تكون طرفًا مباشرًا في تصدير النفط العراقي عن طريق الأردن ومينائه في العقبة المقابل لميناء إيلات الإسرائيلي وخزانات النفط الضخمة في إسرائيل، ليتحول هذا التطبيع الأولي وغير المعلن بمرور الوقت والتعامل الاقتصادي إلى تطبيع كامل واعتراف علني من قبل نظام الحكم في العراق ليتم طرح مشروع “السلام الإقليمي” الأميركي المنتظر بعد تبديل أدوار اللاعبين المحليين.
وهنا يجب عدم إهمال الرغبة المصرية المحتملة في الاستناد إلى التقارب مع العراق – وجزئيًا مع الأردن – لتوثيق العلاقات والمصالح المشتركة.. على أنها سعي من النظام المصري لتبديل تحالفاته الاستراتيجية الخارجية (وهي مناورة تكتيكية لا تتعارض مع التقاطعات والأبعاد الخاصة في التقارب الأخير)