رغم أن الشكل الخارجي للتطورات المتعلقة بميليشيات الحشد الشعبي في العراق، توحي بوجود انقسام بين فصائله إلا أن مراقبين يرون أن ما يحدث هو شكل من أشكال إعادة ترتيب الأوراق بما يتناسب مع المرحلة المقبلة، وأن إغلاق بعض المقرات وحل بعض التشكيلات إنما هو في حقيقته، ليس أكثر من إنهاء وجود تشكيلات لا تأثير حقيقي لها على الأرض، وذلك لصالح المزيد من تثبيت فصائل الحشد الفاعلة داخل المجتمع وداخل المؤسسات العراقية، بحسب المحلل السياسي كاظم الدليمي.
وفي هذا السياق انتقد الباحث السياسي “مجاهد الطائي” في تغريدة له تحكم مليشيات الحشد الشعبي بالمنظومة الأمنية في العراق، وقال نقلا عن مصادر: علي الياسري أبلغ مقاتلي سرايا الخراساني قبل أيام بأن الفصيل تفكك، وأمرهم بترك المقرات وإن مصيرهم أصبح مرهون بيد هيئة الحشد” وأضاف معلقا: “فصائل تنشطر وأخرى تتفكك وفصائل أخرى تهدد وأخرى تتصارع؛ هذا كله ضمن (جهاز أمني) تابع للدولة كما يدعون، ويدعى الحشد الشعبي”.
متابعون يرون أن ما تذهب إليه القوى المسيطرة على ميليشيات الحشد، التي باتت اللاعب الحقيقي، وربما الوحيد على الارض العراقية، فضلا عن دورها كذراع عسكري ضارب بيد إيران، إنما تسعى لإذابة الحشد، إعلاميا، فقط ليبقى في حقيقته الدولة الحقيقية الحاكمة في العراق، والتي لن يستطيع، حتى الآن على الأقل، الفعل السياسي للكاظمي من تحجيمها. فهذا الأمر يسهل مهمة الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن في إعادة التواصل الأمريكي الإيراني الى السكة التي وضعها سلفه الديمقراطي باراك أوباما الذي توصل للاتفاق النووي مع إيران قبل أن يأتي ترامب ويلغيه.
مساومات..
لا يستبعد الصحفي العراقي مهدي الجفال أن تكون، الحالة الاعلامية المكثفة والمتعمدة، حول انشقاقات الحشد، سوى رسالة إيرانية لواشنطن مفادها أننا نسيطر على العراق وأننا قادرون على ضبط إيقاع ميليشيات الحشد كما نود، وهنا يتساءل الجفال مستغربا، لماذا يصر الحشد على الإعلان عن حل هذا الفصيل أو ذاك، وهو قادر على فعل ذلك من دون هذا التحشيد الاعلامي. ويذهب الجفال إلى ربط الملف الاقتصادي الساخن في العراق، برسائل إيران عن الحشد، فالرئيس الأمريكي المنتخب أمامه في العراق ملف اقتصادي ساخن، يرتبط بقصص الفساد المتورط فيها الحشد الشعبي نفسه، والذي قد يقود بحسب مجلة فورين بوليسي الأمريكية إلى حرب أهلية.
التقرير المطول لفورين بوليس أفاد بأن أزمة العراق الجديدة هي آخر ما يحتاجه الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن ، مضيفاً لسوء الحظ ، قد تكون هذه أول مشكلة في السياسة الخارجية على أن يواجهها.
وذكرت المجلة في تقريرها أن “العراق يتجه إلى الانهيار المالي، وفي حالته الهشة الحالية، من المرجح أن يؤدي هذا الانهيار إلى انهيار نظامه السياسي المتهالك، مما قد يؤدي بعد ذلك إلى إشعال جولة أخرى من الحرب الأهلية”.
وتابع التقرير ، على مدى العقدين الماضيين، خلق الفساد مشكلة ذات وجهين للعراق، الأول هو إن الحكومات العراقية الضعيفة والمتواطئة والشمولية تعني أن كل حزب سياسي كبير سيدير وزارة واحدة أو أكثر، ليس لصالح البلاد ولكن كشبكات محسوبية ضخمة، آلات فساد تمتص عائدات النفط من الخزانة وتمررها إلى جمهورها في شكل وظائف وعقود وامتيازات أخرى. فيما المشكلة الثانية وهي انتشار الكسب غير المشروع أدى إلى خنق ما كان يملكه القطاع الخاص الصغير في العراق من قبل ، مما يعني أنه لا يوجد الكثير من البدائل لوظائف القطاع العام، الامر الذي دفع المواطنين الى الاعتماد على الحكومة بشكل كبير في كسب عيشهم، سواء بالوظائف أو المعاشات.
نتيجة لذلك ، أصبحت الحكومة الآن أكبر رب عمل إلى حد بعيد، وتعتمد نسبة كبيرة من السكان على الدولة لكسب عيشها – إما بشكل مباشر من خلال الرواتب والمعاشات التقاعدية، أو بشكل غير مباشر من خلال العقود أو توفير السلع والخدمات لمن هم في كشوف المرتبات الحكومية. حتى الشركات الصغيرة في العراق تعتمد في النهاية على الحكومة لأن الكثير من عملائها – وخاصة في المدن الكبرى – هم أنفسهم يتلقون رواتبهم من قبل الحكومة، بطريقة أو بأخرى. علاوة على ذلك ، لا تزال الحكومة العراقية تقدم “سلة غذاء” شهرية عبر نظام التوزيع العام، والتي تظل عنصرًا مهمًا في الحياة اليومية للطبقة العاملة والفقراء العراقيين.
المجلة الأمريكية، تضيف ليس من المستغرب أن تكون هناك زيادة بمقدار ثلاثة أضعاف في عدد العاملين في القطاع العام منذ عام 2004، وتدفع الحكومة رواتب تزيد بنسبة 400٪ عما كانت عليه قبل 15 عامًا. وهكذا أصبحت الحكومة وعائداتها النفطية المحرك الرئيسي للاقتصاد العراقي والمزود للشعب العراقي.
ويتابع التقرير، النتيجة أن بغداد تحتاج إلى 5 مليارات دولار شهريًا لدفع الرواتب المباشرة والمعاشات التقاعدية، بالإضافة إلى ملياري دولار أخرى لتغطية الخدمات الأساسية وتكاليف التشغيل، والتي يشكل الكثير منها أشكالًا غير مباشرة من الدعم للسكان، ومع ذلك، منذ بداية وباء كورنا وانهيار أسعار النفط التي توفر حوالي 90 بالمئة من عائدات الحكومة تراوح الدخل الشهري للعراق بين 2.5 و 3.5 مليار دولار. وهذا يعني أن بغداد تعاني من عجز شهري يتراوح بين 3.5 و 4.5 مليار دولار.
ديون تتجاوز 80 مليار دولار
وفي تشرين الأول ، صرح وزير المالية العراقي علي علاوي في مقابلة تلفزيونية أن “احتياطيات البنك المركزي العراقي تبلغ 53 مليار دولار”. منذ ذلك الحين، أقر مجلس النواب قانون العجز في التمويل الذي مكّن الحكومة من اقتراض 10 مليارات دولار لدفع رواتب شهري أكتوبر ونوفمبر وديسمبر 2020. وبذلك يصل إجمالي ديون العراق إلى 80 مليار دولار، وفقًا للمصادر الحكومية ومقترحات الميزانية. وهذا ما أجبر البلاد على تخصيص أكثر من 12 مليار دولار من الميزانية السنوية للفوائد وسداد أصل هذه القروض – وكلها تزيد من تفاقم النقص في رأس المال الحكومي، ووفق ذلك، وبحلول صيف عام 2021 ، قد تكون احتياطيات العراق من العملة الصعبة منخفضة بشكل خطير.
فورين بوليسي أشارت إلى أنه ونظرًا لأن احتياطيات العراق من العملة آخذة في النضوب بالفعل، فإن الحكومة مجبرة على طباعة النقود لدفع ثمن القروض للحكومة التي تغطي الرواتب وتكاليف التشغيل، مما يعرضها لخطر التضخم المتفشي. وبسبب مخاطر التضخم غير المنضبط ، قد تضطر بغداد قريبًا إلى خفض قيمة الدينار بدلاً من ذلك، لكن هذا أيضًا ينطوي على مخاطر اقتصادية وسياسية كبيرة فتخفيض قيمة العملة بدون مصاحبة الإصلاحات الاقتصادية – التي ترفض القوى السياسية في العراق النظر فيها وأولها الحشد – سوف يشل الواردات ويقوض المدخرات ويزيد من المصاعب.
وعلاوة على ذلك، من المحتمل أن يتسبب تخفيض قيمة العملة في مزيد من التضخم أيضًا. فتبخر العملة الصعبة يعني أن العراق قريباً لن يكون قادراً على دفع ثمن واردات المواد الغذائية والسلع، لاسيما أنه مستورد صاف لكل شيء تقريباً باستثناء النفط. وإذا انخفضت تدفقات الأموال وانخفضت قيمة الدينار فستصبح السلع نادرة وسترتفع الأسعار.
يأمل بعض المسؤولين في الحكومة العراقية ببساطة أن تؤدي الزيادة المتوقعة في أسعار النفط هذا الربيع إلى إنقاذهم. ومع ذلك ، فإن معظم التوقعات تشير إلى ما لا يزيد عن 10 إلى 15 بالمئة من ارتفاع الأسعار، وفقًا للعديد من تجار النفط والمحللين – وهي نسبة ضئيلة للغاية للقضاء على أزمة العراق التي تلوح في الأفق. وحتى هذا قد يتلاشى إذا تسببت صادرات النفط العراقية والليبية والإيرانية الموسعة في أن يحذو السعوديون والروس حذوهم ويزيدون الإنتاج لحماية حصتهم في السوق.