في أول زيارة خارجية له منذ تفشي فيروس كورونا، وصل البابا فرنسيس إلى العراق قادما من روما، حاملا رسالة تضامن إلى إحدى أكثر المجموعات المسيحية تجذرا في التاريخ في المنطقة والتي عانت ظلما جراء التطورات السياسية التي شهدها العراق خلال العقدين الماضيين.
الزيارة غير المسبوقة، تأتي في وقت يشهد العراق ارتفاعاً كبيراً في أعداد الإصابات بفيروس كورونا، فيما تفرض السلطات إغلاقاً تاماً في البلاد التي تشهد توترات أمنية وتصعيد، بعد سلسلة من الهجمات الصاروخية، استهدفت السفارة الأمريكية وقاعدة “عين الأسد” العسكرية التي تستضيف قوات واشنطن.
يرى محللون أن الزيارة غير المسبوقة تمثل “رسالة تضامن” مع المسيحيين والإزيديين في العراق، فيما يقول آخرون أنها “رسالة مصالحة” مع الطوائف والأديان الأخرى، ومحاولة لتبديد مخاوف المسيحيين من هاجس التغيير الديموغرافي الذي يقلقهم منذ سنوات، لتعزيز آمال اللاجئين في بعث حوار جاد بشأن التسامح والتعايش بين مختلف الطوائف والأديان، أهم الشروط الأساسية لعودة اللاجئين في المنافي إلى ديارهم.
رسائل سياسية لأجل العراق
يرى المحلل السياسي “توفيق الراوي” أن زيارة بابا الفاتيكان إلى العراق زيارة مهمة لتعزز الحوار والمشتركات بين الأديان، إذ ستترك انطباعات وآثارا إيجابية على البلد كله، من خلال تأثيرها على بعض الدول والقرارات، كما تحمل رسائل ودلالات كثيرة ومهمة، منها أن العراق ما زال يمثل أهمية إقليمية ودولية في العالم من حيث عمقه التاريخي ومستقبله الواعد، معتبرا أنها فرصة لترميم العلاقة بين الأديان، وإعادة حقوق وأملاك المهجرين من المسيحيين في العراق، وعودتهم إلى مناطقهم ومنازلهم التي هجروا منها، وممارسة حياتهم الطبيعية من خلال بدعم دولي، يترافق بفتح آفاق الاستثمار والإعمار وإعادة البناء وكسب ثقة العالم في البلد الذي يعاني الحرب منذ قرابة الـ18 عاما.
ويصر “الراوي” في حديثه عن دلالات الزيارة، على التأكيد أنها تحمل الصفة المعنوية في شكلها للعراقيين خاصة المسيحيين منهم، لكن دلالاتها الخارجية كبيرة، تتمثل في اهتمام شخصية عالمية بارزة مثل بابا الفاتيكان بالعراق، خاصة أنها تعد أول زيارة تاريخية له إلى البلد، ما يؤكد أن العراق في دائرة اهتمام المجتمع الدولي، كما أن أهم أهداف الزيارة تتمثل في مطالبة جميع الفاعلين في المشهد العراقي بضرورة الحفاظ على ما تبقى من المسيحيين بالعراق.
يشار الى أن سفارة الولايات المتحدة الأمريكية في بغداد، هنأت يوم السبت، الحكومة والشعب في العراق بمناسبة الزيارة “التاريخية” التي بدأها بابا الفاتيكان، مشيرة الى أن السفير “تولر” تشرف بأن يكون من بين أولئك الذين رحبوا بقداسة البابا فرانسيس في حفل الاستقبال الرئاسي”، ومؤكدة أن هذه الزيارة التاريخية سوف تسلط الضوء على أهمية العراق بوصفه مسقط رأس النبي “إبراهيم”، وعلى القلوب المرحبة للشعب العراقي.
وفي تعليقه على دلالات الزيارة داخليا، يعتبر “الراوي”، أنها تحمل رسائل اطمئنان إلى المكون المسيحي في العراق، أنه محط اهتمام الكنيسة العالمية والحبر الأعظم، وأن هناك مساع حقيقية لتحقيق الاستقرار في المناطق التي يقطنها، بعد الأضرار التي لحقت بهم على مستوى الأفراد والمجتمع.
يشار الى أن أعداد المسيحيين في العراق، تراجعت بعد عام 2003 إلى أقل من ثلثي عددهم الحقيقي، الذي كان يقترب من مليوني مواطن عراقي، ولم تهتم الحكومات المتعاقبة بمعاناتهم من خلال تعويضهم، وبحسب مصادر غير رسمية فإن هناك طوائف مسيحية قديمة عديدة يتراوح عدد أفرادها حاليا بين 200 ألف و300 ألف، بعد أن كان يقدر بنحو 1.5 مليون قبل الغزو الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003.
بالرغم من إدراكه لقيمة الزيارة، إلا أن “الراوي” لا يستبعد أن تفقدها الحكومة العراقية، حيث يرى أن العقلية السياسية العراقية الحالية غير مؤهلة لاستثمار هذه الزيارة على المستويين السياسي والاقتصادي، عبر إيصال رسالة عميقة عن معاناة العراق، وجعل هذه الشخصية تسهم في حل جزء من مشاكل البلاد بسبب عدم وجود وحدة في القرار السياسي للبلاد نتيجة تباين المواقف من قبل الزعامات السياسية.
رسالة إلى قم..
الرسالة الأهم التي حملتها زيارة البابا إلى بغدد تتمثل في إعادة الأهمية لمرجعية النجف الشيعية مقابل شيعة الحشد وسلطة قم، إذ تتزامن الزيارة بحسب الصحفية كلادس صعب “مع احتدام المواقف المتبادلة بين إيران والولايات المتحدة التي اجمعت التسريبات على أن الضربة العسكرية الأمريكية قادمة لا محالة بعد الاستفزازات العسكرية التي قامت بها إيران عبر أدواتها في العراق كوسيلة ضغط للعودة إلى الاتفاق النووي الذي خرج منه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب”.
تبديد مخاوف المسيحيين من التغيير الديموغرافي
أصوات عراقية طالبت بتدخل البابا لوقف التغيير الديمغرافي الممنهج، على يد المجاميع المسلحة، ومعتبرين زيارته آخر فرصة لإنقاذ وجود المكون المسيحي الذي بات على وشك الانتهاء في العراق بشكل عام، ومناطق نينوى بشكل خاص.
مطران كنيسة الكلدان الكاثوليك، “بشارة وردة”، أكد خلال لقاء صحفي، أن وجود خمسة فصائل مسلحة مختلفة في منطقة نينوى يولد لدى المواطن المسيحي انطباعاً بعدم الأمان، وأنه في حال نشوب أي خلاف بين هذه الفصائل ذاتها سيتحول إلى نزاع مسلح يحرق مناطق وجود المسيحيين في المنطقة، موضحا أن هذا الوجود يعطي انطباعاً باللادولة، فالميليشيات هي العقدة الدائمة في العملية السياسية في أي مكان بالعالم.
وبحسب “وردة”، فإن المكون الشبكي الذي يضم معظم هذه المجاميع يسعى بكل الأشكال إلى التوسع على حساب الوجود المسيحي بطرق قانونية وغير قانونية، موضحاً أن هناك عملية تغيير ديمغرافي ممنهجة تبدأ من شراء منازل المسيحيين بأسعار مضاعفة وتوزيع الأراضي في المنطقة على المكونات الأخرى، وصولاً إلى استهداف المسيحيين لدفعهم إلى الهجرة ومغادرة المنطقة.
المحامية والناشطة الحقوقية “أمل عمران” ترى أن مخاوف المسيحيين التغيير الديمغرافي محقة، مشيرة الى أن تمركز فصائل الحشد الشعبي في منطقة سهل نينوى هدفه إكمال خطة السيطرة على ما يسمون “الهلال” الذي تروم إيران وحلفاؤها تأمينه لضمان استمرار الطريق من إيران إلى سوريا عبوراً بنينوى.
وتؤكد “عمران” أن حلفاء إيران من الفصائل المسلحة تستخدم جميع الوسائل لإتمام سيطرتها على هذه المناطق، وبشكل خاص قرقوش وبرطلة، مشيرة الى أنه إن لم يتدخل البابا لوقف هذا التغيير الديمغرافي الممنهج، فإن العراق سيكون أمام نهاية وجود المكون المسيحي خاصة في نينوى.
مصادر محلية في برطلة، قالت إن مواطني نينوى يواجهون توسعاً شرساً من قبل مكونات أخرى مدعومة من الميليشيات، فأصبحوا يستهدفونهم بشتى الطرق، تبدأ من إسكان أناس من خارج المنطقة يختلفون بالعادات والتقاليد، يزعجون سكان المنطقة من المسيحيين بتصرفاتهم الغربية مثل تربية المواشي داخل الأحياء السكنية والتحرش بالنساء المسيحيات دون مراعاة أي عادات وتقاليد وأصول للجيرة.
وتبدي المحامية “أمل عمران” أملها الكبير في أن يكون لزيارة البابا تأثير على تغيير الحال في المنطقة، ووقف عملية استهداف المسيحيين التي ستؤدي إلى إنهاء وجودهم إلى الأبد، مشيرة الى أن بعض المدن العراقية كانت تضم عائلات مسيحية، أصبحت اليوم تشهد غيابا تاما للوجود المسيحي.
عائلة مسيحية واحدة بالناصرية
اختار البابا “فرنسيس” زيارة مدينة أور، مسقط رأس النبي “إبراهيم” وفق الموروث المسيحي، ضمن محطات زيارته إلى العراق، لكنه لم يجد في محافظة ذي قار في جنوب العراق، التي مركزها الناصرية، إلا عائلة مسيحية واحدة.
“ماهر طوبيا”، أكد أن عائلته هي آخر العائلات المسيحية في المحافظة، مشيرا الى أنه قبل الحصار الاقتصادي على العراق في التسعينات، كانت الناصرية تضمّ ما بين عشرين إلى ثلاثين عائلة مسيحية، لكن اليوم لم تبق إلا عائلته وعائلة شقيقه. وقد تراجع عدد المسيحيين على مراحل لا سيما بعد الغزو الأميركي للعراق في عام 2003.
بحسب مصادر عدة بينها مؤسسة مسيحيو العراق ومؤسس معهد دراسات التنوع الديني، وتقرير وزارة الخارجية الأمريكية لعام 2019 بشأن الحريات الدينية في العراق، فإن هناك 14 طائفة مسيحية معترف بها رسميا في العراق، وتعيش الغالبية منهم في بغداد، ومحافظة نينوى بالشمال وإقليم كردستان الذي يتمتع بحكم ذاتي، ومن أبرز الطوائف المسيحية، الكلدان الذين يشكلون ما يصل إلى 80 بالمئة من الإجمالي، فيما يشكل السريان حوالي عشرة بالمئة من المسيحيين بالعراق. ومنهم كاثوليك، وهم الأغلبية، وأرثوذكس. وتضم بلدات قره قوش وبعشيقة وبرطلة في الشمال أكبر تجمع للسريان في البلاد.
كما يمثل الآشوريون، بمن فيهم الكاثوليك الآشوريون، حوالي خمسة بالمئة من مسيحيي العراق، وينحدر أغلبهم من إيران وتركيا، وفر كثيرون منهم إلى العراق في أعقاب أعمال قتل على يد الجيش العثماني خلال الحرب العالمية الأولى.
فيما يشكل الأرمن حوالي ثلاثة بالمئة من المسيحيين بالعراق، بعد الإبادة الجماعية للأرمن في الفترة من 1915-1923 على يد الدولة العثمانية، فر كثيرون منهم إلى العراق، وهم يتحدثون بالأرمينية. وتوجد 19 كنيسة أرمينية في العراق، ما بين أرثوذكسية وكاثوليكية.