ما تزال تونس تعيش حالة من الانسداد السياسي على خلفية التنافر والخلافات بين ممثلي الرئاسات الثلاث، في وقت تزيد فيه تداعيات الأزمة الوبائية في بلد يعاني من انهيار اقتصادي واجتماعي خطير خلال السنوات الأخيرة، بعد فشل معظم المبادرات التي أطلقتها جهات مؤثرة في المشهد السياسي، وعلى رأسها مبادرة الحوار الوطني التي دعا إليها الاتحاد العام التونسي للشغل.
يبدو أن المشهد العام في تونس سيبقى مفتوحا على جميع المآلات، ولاسيما على وقع التصعيد الحاصل بين مكونات منظومة الحكم، مع تمسك الرئيس “قيس سعيد” بتنظيم حوار وطني يفضي إلى تغيير النظام السياسي وتنقيح دستور 1959 ورحيل حكومة “هشام المشيشي”، الأمر الذي فتح الباب أمام خيار تنظيم انتخابات رئاسية وتشريعية مبكرة لحلحة الأزمة السياسية الخانقة التي تمر بها البلاد.
وكان الاتحاد العام التونسي للشغل، قد دعا على لسان أمينه العام “نورالدين الطبوبي”، الرئيس “سعيد” إلى المضي في مبادرة الحوار الوطني ولعب دوره في إنهاء الأزمة الحالية، أو إعادة الأمانة للشعب وتنظيم انتخابات رئاسية وتشريعية مبكرة.
إرهاصات الانسداد السياسي وضيق أفق الحلول، جعل حركة النهضة تسعى لتوجيه الأزمة نحو مخارج تعتبرها ممكنة لتجاوز حالة العطالة المؤسساتية من خلال الدفع نحو تشكيل حكومة سياسية وهي الخطوة التي اعتبرها البعض بحثا عن إجهاض الحوار.
لقاءات تبشر بالانفراج..
في خطوة بدت مؤشرا نحو حلحلة الأزمة السياسية في البلاد، التقى الرئيس التونسي “قيس سعيد”، يوم الخميس الماضي، رئيس البرلمان “راشد الغنوشي”، بعد قطيعة استمرت عدة أشهر وصلت فيها الأزمة إلى مرحلة حرجة، حيث اعتبر الناطق الرسمي باسم حركة النهضة “فتحي العيادي”، أن اللقاء كان إيجابيا.
وأكد النائب في البرلمان عن حزب التيار الديمقراطي “الأسعد الحجلاوي”، أن “اللقاء بين رئيسي الدولة والبرلمان ضروري وواجب عليهما من أجل خدمة البلاد والعباد، مشيرا إلى أن الصراع المستمر بين السلط داخل الدولة بما يعطل مصالحها ويهز أركانها، أمر غير عادي، مشددا على ضرورة أن البدء بمناخ من الثقة والابتعاد عن منطق المناورة وتحايل كل طرف على الآخر، لإنجاح الخطوة التي قد تكون الأولى على طريق الحلحلة.
ويرى “الحجلاوي”، انه يجب مناقشة وتقييم الحكومة الحالية، التي يبدو أن فشلها ظاهر للعيان، ثم الاتفاق على حكومة إنقاذ وطني يشارك فيها الجميع وفق برنامج واضح المعالم، والاتجاه داخل البرلمان إلى استكمال المحكمة الدستورية وتعديل القانون الانتخابي
كذلك أشار إلى أنه يتعين على جميع الأطراف الالتزام ببقاء هذه الحكومة الجديدة حتى استكمال ما تم الاتفاق عليه، وحينها يتم التقييم أو الذهاب لانتخابات مبكرة وفق القانون الانتخابي الجديد.
لقاء متأخر ومراوغة..
بدوره، يرى المحلل السياسي “خالد خلف الله”، أن اللقاء جاء متأخرا حوالي ثمانية أشهر عن بداية الأزمة السياسية، مشيرا إلى أن هذا التأخير لم يكن له داع، باعتبار أن البلاد تعيش في حالة عطالة تقريبا على المستوى السياسي والعلاقة بين مؤسسات الدولة، وهناك أزمة اقتصادية واجتماعية وصحية.
وبحسب “خلف الله”، فإن الحال الذي وصلت إليه البلاد نتيجة الأزمات كانت تتطلب الحوار بين الأطراف الفاعلة منذ البداية، وتأخر تجاوب سعيّد مع دعوات الحوار بثمانية أشهر يُعتبر مؤشرا سلبيا في المطلق.
ويضيف المحلل التونس: “هذا الاستعداد وإن جاء متأخرا إلا أنه يدل على أن رئاسة الجمهورية انتبهت إلى أهمية الحوار، لكنها لن تقبل بتنازلات كإجراءات انتخابات مبكرة.
يشار إلى أن “سعيد” أعلن الثلاثاء الماضي، موافقته على الإشراف على حوار وطني للخروج من الأزمة الراهنة، لكنه بالمقابل وضع شروطا لهذا الحوار، أبرزها أن يكون محوره تعديل الدستور، عبر تغيير النظام السياسي، وتنقيح النظام الانتخابي.
وقال خلال اجتماعه بعدد من رؤساء الحكومات السابقين، إنّه “مستعد للحوار بشرط أن “لا يكون محاولة بائسة يائسة لإضفاء مشروعية كاذبة على الخونة واللصوص، بحسب تعبيره.
كما شدد على أن الحوار يجب أن يكون هدفه إرساء نظام سياسي جديد ودستور حقيقي، لأن الدستور الحالي قام على وضع الأقفال في كل مكان، ولا يمكن أن تسير المؤسسات بالأقفال وبالصفقات.
وبينما يرى مراقبون أن تصريحات “سعيد”، تشكل خطوة إيجابية في اتجاه حلحلة الأوضاع، يشيرون إلى مقترحاته تحمل شروطا شبه تعجيزية على اعتبار أن تغيير النظام السياسي الذي يقترحه ليس محل توافق بين كل مكونات الطيف السياسي.
وفي هذا السياق، يعتبر “خلف الله” أن هذه الشروط من شأنها أن تعيق إجراء هذا الحوار، وتعرقل التوصل إلى توافق بين الفرقاء في الحوار في حال تم تنظيمه، وستقف عائقا أمام موافقة الجميع بالتوجه إلى انتخابات مبكرة، ما يعني بحسب “خلف الله” أنها محاولة لكسب الوقت وتعقيد المشهد أكثر.
غياب الشروط المسبقة..
بعد ساعات من لقاء بين “سعيد” و”الغنوشي”، أصدرت حركة النهضة بيانا دعت فيه إلى التعاون بين جميع مؤسسات الدولة والأحزاب السياسية والمنظمات الوطنية، والجلوس إلى طاولة الحوار دون شروط مسبقة ودون إقصاء، معتبرة أنه لا سبيل لخروج البلاد من أزماتها المالية والاجتماعية والصحية إلا بحوار جاد ومسؤول ينسجم مع أولويات الشعب التونسي.
وفيما يعرض “سعيد” حوارا وطنيا بشروط بينها أن لا يشمل من يصفهم بالفاسدين، وأن يشارك فيه الشباب، تصر “النهضة” التي يمثلها 53 نائبا من مجموع 217 في البرلمان، على عدم وضع أي شروط مسبقة للحوار، أو إقصاء أي طرف منه.
يشار إلى أن حركة النهضة إلى جانب حزب قلب تونس وكتل برلمانية أخرى، تدعم الحكومة التي يقودها “المشيشي”، والذي كلفه “سعيد” بتشكيلها، قبل أن يدخلا في خلاف ما يزال قائما حتى الآن.
الأزمة السياسية، تفاقمت عقب رفض “سعيد” الموافقة على تعديل وزاري على حكومة المشيشي، حيث يمتنع عن دعوة الوزراء الجدد لأداء اليمين الدستورية أمامه، مبررا موقفه بأن التعديل الوزاري شابته خروقات، كما أنه يمتنع عن توقيع قانون المحكمة الدستورية الذي أقره البرلمان مؤخرا بأغلبية معززة.
ويرى مراقبون ومحللون أن السياسة التي تتبعها حركة النهضة، تهدف فقط للمماطلة وكسب الوقت معتبرين أن ذلك ليس من مصلحة التونسيين.
النائب عن حركة الشعب “حاتم البوبكري”، قال في تصريحات صحفية أنّه إذا أصرّت حركة النهضة على التمسك بالمشيشي، فإن عليها أن تشارك في الحكومة وتتحمّل مسؤولية نجاحها أو فشلها، مشيرًا إلى أنّ سياسة تدوير الزوايا وربح الوقت التي تنتهجها النهضة الآن، ليست في صالح تونس ولا التونسيين.
وبحسب “البوبكري” فإنّ حركة الشعب ترى أن الحلّ الأسلم هو الذهاب نحو حوار وطني، لكن بشرطين أساسيين أولهما رحيل حكومة المشيشي التي أثبتت فشلها وذلك لنزع السبب الأول للأزمة، ثم ضرورة أن يكون الحوار ذا مضمون مهم، ليخرج برؤية للإصلاح الاقتصادي والاجتماعي ويكون في شكل مصالحة بين الطبقة السياسية والشعب، مشددًا على أنّه إذا تواصلت الأزمة السياسيّة على ما هي عليه، فالحل الأنسب سيكون الذهاب إلى انتخابات مبكرة.
وتكشف مصادر مطلعة، أن حركة النهضة تراجعت عن موافقتها بشأن الانتخابات المبكرة الرئاسية والتشريعية، لأنها تيقنت أنها ستكون في مواجهة الشارع بهذا الإجراء.
يذكر أن الأمين العام لاتحاد الشغل في تونس “نور الدين الطبوبي”، كان أكد أن رئيس الجمهورية قيس سعيد أبلغه في اللقاء الأخير أنه يقبل بإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية مبكرة”، ويرغب في “استفتاء الشعب حول النظام السياسي برمته وإضفاء تعديلات على دستور 1959”.