عندما تدرس تجربة وتاريخ حركة الإخوان المسلمين السورية منذ لحظة تأسيسها حتى الآن، ستتوقف دون شك؛ عند ذلك التحول الذي لازم تاريخها من كونها بدأت كحركة سياسية تؤمن بالديمقراطية، وتصل مجلس الشعب؛ وتقبل بالآخر في فترتي الخمسينات والستينات من القرن الماضي، إلى حركة جهادية الطابع من جهة، وطائفية عمقاً وسطحاً وممارسةً من جهة أخرى خلال فترة ثمانيات القرن الماضي على يد ما عرف بالطليعة المقاتلة.
ورغم أن البعض يرفض اعتبار الطليعة جزءاً أو تطوراً ضمن إطار الإخوان مصراً على اعتبارها مجرّد انشقاق منها، فإن الأمر لا يتغير هنا كثيراً على اعتبار أن دراسة هذا الانشقاق تصب في ذات المحور الذي ننوي دراسته في هذه الورقة عبر طرح السؤال نفسه بطريقة أخرى في هذه الحالة، ليصبح:
كيف خرجت حركة جهادية سلفية من إطار الإخوان المسلمين التي بدأت كحركة دعوية سياسية؟
ننوه بدايةً أن الخلاف بين الإخوان والطليعة لم يكن خلافاً عقائدياً حول السلاح أو العنف، فالاثنان متفقان على استخدامه، إنما كان الخلاف حول مدى نجاح هذا الخيار وليس رفضاً له بالمطلق، بما يعني أن “جهادية” الطليعة المقاتلة في سورية؛ كانت جزءاً أصيلاً من الإيديولوجية الرسمية للإخوان، وإن كانت “الطليعة” أخذت بها لاحقاً باتجاهات بعيدة، ولعل مشاركة الإخوان أنفسهم في نشاطات الطليعة؛ تثبت أنهم راهنوا عليها في فترة من الفترات.
دروع الثورة؛ دليل؟
لعل ما يشير إلى أن ثمة صواب يجانب هذه الرؤية، هو عودة التنظيم الرئيسي للإخوان المسلمين مرة أخرى إلى حمل السلاح في سورية بعد انطلاقة ثورة عام ٢٠١١ عن طريق التشكيلات العسكرية التي حملت اسم “دروع الثورة” وكانت تتبع له بشكل مباشر، بالإضافة إلى إعادة تشكل “الطليعة المقاتلة” في سورية من جديد على يد من بقي منها، وذلك على الرغم من أن الإخوان المسلمين خلال التسعينات والعشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين؛ قد أقدموا على الاعتراف بالديمقراطية؛ والالتزام بالتغيير السلمي للأنظمة القائمة؛ ونبذ العنف؛ وهو ما لم يلتزموا به أبداً كما بينت مجريات الثورة السورية.
الانتقال من الإيمان بالعملية الديمقراطية ضمن حدود العملية البرلمانية القائمة إلى تبني العنف؛ هي حصيلة مشوار سياسي طويل، ليس في مسار الإخوان فقط كما سنتحدث لاحقاً، بل في إطار كامل المنظومة السياسية القائمة في ذلك الوقت، مشوار سياسي يمكن أن نختزله في حالة الإخوان المسلمين بشخصيتين رئيسيتين في مسار الإخوان، أولهما المرشد الأول للإخوان المسلمين في سورية ونقصد “مصطفى السباعي”، والثاني هو مؤسس الجهادية السورية في سورية ونعني “مروان حديد” المؤسس للطليعة المقاتلة في سورية.
فما هي الأسباب الموضوعية لهذا التحول؟
مصطفى السباعي ومروان حديد
قبل البدء في دراسة هذا التحول العميق في المسار الإخواني السوري والذي مثله الانتقال من فكر مصطفى السباعي الوسطي إلى فكر مروان حديد الجهادي والإقصائي، لا بد من التعريف أولاً بشيء من أفكار الرجلين ومحطات من تاريخهما السياسي لمعرفة مدى هذا التحول الذي حصل، وفي أي مجال حصل ومن ثم نعود لدراسة أسباب هذه التحولات.
ولد مصطفى السباعي لعائلة دينية تقليدية في حمص، ودرس الشريعة في القاهرة وهناك تعرف على حسن البنا وتأثر به ثم عاد إلى سورية وساهم في تأسيس جماعة الإخوان المسلمين السورية وكان أول مرشد عام لها.
وقد نجح السباعي خلال قيادته الحركة في إبعادها نسبياً عن مناخات التشدد المصري الذي عرفته جماعة الإخوان المصرية، مع الحفاظ على استقلال شبه كامل في السياسة الداخلية والنهج العام، نظراً لإدراك السباعي لمدى اختلاف النسيج السوري اجتماعياً ودينياً عن النسيج المصري، ففي سورية طالما كانت المكونات والتنوع الديني جزءاً من تاريخ البلاد؛ في حين إن أمرا كهذا يغيب عن الحالة المصرية.
إضافة إلى ذلك، إن المسار السياسي للسباعي كان دوماً مساراً وسطياً واعتدالياً في السياسة، سواء في التحالفات السياسية أو الآراء الفكرية والمواقف التي اتخذتها الجماعة، ففي موقف الجماعة من الدولة والعملية الديمقراطية والقضية الفلسطينية والوحدة العربية، طالما كان الموقف ميالاً بالعموم للوسطية السباعية للتلاقي مع باقي الأطياف السياسية؛ وليس للصدام معها وفرض رأيها، حتى لو كان ذلك ضد مواقف الجماعة الأم، فمثلاً في الموقف من الوحدة السورية المصرية، كان الموقف مؤيداً رغم التباسه، وأيضاً رغم أن نظام عبد الناصر هو من أعدم سيد قطب الذي يعتبر منظر السلفية الجهادية في كتابه “معالم في الطريق”.
ولعلنا نستدل على هذه الوسطية السباعية إن صح التعبير من خلال مواقفه من الاشتراكية والإصلاح الزراعي والملكيات الخاصة، فهو في كتابه “اشتراكية الإسلام” يشرعن الاشتراكية إسلامياً، ويعتبر الإسلام اشتراكياً في أصله ويوافق على الإصلاح الزراعي إلا أنه بنفس الوقت طالما وقف في مجلس الشعب السوري ضد تأميم الملكيات الخاصة، مبتعدا عن الجذرية التي طالما عُرفت بها الأحزاب الراديكالية التي بدأت تظهر على الساحة أيضاً في نفس الفترة.
ومن المواقف التي ميّزت السباعي هو موقفه من دستور١٩٥٠ الذي أراد بداية أن يجعل من الإسلام ديناً للدولة السورية، إلا أن اعتراض الكتل البرلمانية دفعه لأن يقود هو نفسه الدفاع عن التعديل الذي اقترحه حين استبدل بأن دين رئيس الدولة الإسلام والشريعة أحد مصادر التشريع.
وقد دافع عن هذا التشريع معتبراً إياه بأنه يمثل الإسلام. وهنا نجد رغم أن السباعي في عمقه يتمنى كل التمني لو تمكن الدستور الأول من النجاح إلا أنه لم يفرضه، بل تنازل وتراجع لصالح التوافق السياسي، بما يعني أنه رغم أن الحركة في عمقها هي حركة دينية تسعى لأن تجعل من الدولة الإسلامية أمراً واقعاً إلا أنها لا تسعى لفرض ذلك فرضاً، بل تعمل على إيجاد مداخل أخرى له، ضمن العملية السياسية بعيداً عن العنف.
أما فيما يخص مروان حديد، فإن الرجل ولد في مدينة حماة لعائلة اشتراكية الإيديولوجية، حيث كان عضواً في الحزب الاشتراكي لأكرم الحوراني وعين مسؤولاً ماليا للحزب في مدرسته ابن رشد. ومن ثم تحول لاحقاً إلى حركة الإخوان المسلمين.
كما أنه تطوع للقتال في صفوف المقاومة في الأردن، ودرس في مصر، وفيها تعرّف على تلامذة حسن البنا وعلى رأسهم سيد قطب! الذي كان أول تحوّل في صفوف الإخوان، وخصوصا كتابه الأخير “معالم في الطريق”، والذي جاء إعدامه بعد ذلك ليجذّر هذا الخيار.
استمد قطب بدوره أفكاره الأخيرة من أبي الأعلى المودودي في الهند، وخاصة مفهومه الحاكمية لله القائل بأن لا حكم إلا لله وأن الله وحده؛ يوكل من يحكم باسمه، مكفراً بذلك ليس الحكومات غير المتدينة فحسب، بل أيضاً كل التيارات الإسلامية التي لا تنهج نهجه.
ومن هذا الإطار الفكري استمد قطب مفاهيمه عن عصرنا الذي أطلق عليه “جاهلية القرن العشرين” مطالباً بالعودة إلى الحكم الإسلامي الصرف؛ عبر ثنائيات حادة وجذرية وحاسمة، حيث جاء في كتابه “معالم في الطريق”: “لا ينبغي أن تقوم في نفوس أصحاب الدعوة إلى الله تلك الشكوك السطحية في حقيقة الجاهلية وحقيقة الإسلام، وفي صفة دار الحـرب ودار الإسـلام، إذ لا إسلام في أرض لا يحكمها الإسلام، ولا تقوم فيها شريعته، ولا دار إسلام إلا التي يهيمن عليها الإسلام بمنهجه وقانونه، وليس وراء الإيمان إلا الكفر، وليس دون الإسلام إلا الجاهلية وليس بعد الحق إلا الـضلال”.
وبهذا كان سيد قطب أول من يتجرأ على النص كما يقول رضوان زيادة، ليعيد تفسيره بغير المتعارف عليه، وليبدأ بعده كثيرون من السلفية الجهادية؛ ليتجرؤوا على التفسير المتطرف ويقدموا “فهماً” للنص القرآني، وهذا ما فتح الباب لآخرين أولوا النص باتجاه تبرير العنف الجهادي، ومنهم كان مروان حديد الذي بعد تأثره بأفكار قطب عاد إلى حماة، وبدأ ممارسة نشاطه الدعوي.
وهنا ليس غريبا إذا عرفنا أن مروان حديد عاد من مصر عام ١٩٦٤ واندلعت الصدامات الأولى بين البعث والإخوان في نفس العام، فيما بات يعرف أحداث جامع السلطان التي بدأت حين أقدم أحد طلاب الإخوان بالكتابة على السبورة “ومن لم يحكم بما أنزل الله هم الكافرون” ليعترض طلاب أخرون، وتبدأ مشادة انتهت إلى تدخل قوات الأمن التي اعتقلت الطالب الإسلامي، أدى ذلك إلى اعتصام أصدقائه الذين انضم إليهم حديد، وتطور الأمر إلى إضراب في المدينة؛ والاعتصام في جامع السلطان؛ الذي قصفته القوات الحكومية! واعتقلت حديد وأنصاره! وحكمت عليه بالإعدام! قبل أن يخرج بوساطة من علماء المدينة، وعلى رأسهم الشيخ “محمد الحامد” المقرّب من الإخوان، وبعضهم يعتبره الأب الروحي للإخوان في حماة.
بعد خروج مروان من السجن انضم للمقاومة الفلسطينية، وبدأ بنفس الوقت إعداد كوادره وتنظيمه، الذي أُطلق عليه لاحقاً اسم “الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين في سورية” مطالباً إزاحة البعث عن السلطة، لتبدأ منذ تلك اللحظة لغة إقصائية جديدة؛ وتيار جديد كان عرابه الروحي سعيد حوا في كتابه “جند الله” بأجزائه الثلاثة؛ وحركية مروان حديد الذي اعتقل عام ١٩٧٥ ثم مات في المعتقل عام ١٩٧٦.
وكما أنه كان للسباعي دور بارز في دستور ١٩٥٠، فإن كلاً من مروان حديد وسعيد حوى لعبا دوراً بارزاً في الاحتجاجات ضد دستور ١٩٧٣ الذي أقره حافظ الأسد، مع فارق أن السباعي كان هو من قاد عملية التراجع والتوافق مع الكتل الأخرى على التعديلات، في حين أن حوا وحديد عملا على التحريض الشارع ضد الدستور وعملا على محاولة إيجاد تكتل كبير من رجال الدين ضد الدستور؛ كما تحدث سعيد حوى في شهادته، الأمر الذي أجبر حافظ الأسد على التراجع ولكن دون أن يتوافق الطرفين، لأسباب كثيرة تشكل بمجملها التحولات العميقة التي تفسر هذا الانتقال من “اشتراكية” مصطفى السباعي إلى “طليعة” مروان حديد الجهادية.
فما هي أسباب التحول؟
أولاً: دور البيئة التربوية في حياة كل منهما؟
رغم أن الأشخاص والأفراد مها بلغوا من قوة وشأن، لا يمكن أن يلعبوا دوراً استثنائياً في التاريخ من خارج ما تسمح به الظروف التاريخية نفسها، فإن صفاتهم وشخصياتهم تلعب دوراً محدداً بهذا القدر أو ذاك.
ومن هنا، فإن الفارق بين السباعي وحديد شاسع وكبير، سواء من جهة الطبائع الشخصية التي تجعل من الأول ميالاً للحوار وعدم التصادم مع الآخرين، ومن الثاني إشكالياً وحاداً، أو من جهة السياق العائلي الاجتماعي الذي نشأ به كلٌ منهما، وهو السياق الذي يفسر شخصية كلاً منهما في نهاية المطاف.
وهنا نلاحظ أن السباعي نشأ عملياً داخل السلك الديني التقليدي، حيث “نشأ في أسرة معروفة بالعلم منذ مئات السنين، وكان والده وأجداده يتولون الخطابة في جوامع مدينة حمص، وقد تأثر بأبيه الشيخ حسني السباعي الذي كانت له علوم معروفة في الدين”، وتابع دراسته في الأزهر كما حال أغلب طلبة العلم الديني في تلك المرحلة، ثم عاد وانخرط في إطار نفس البيئة التي يعرفها ويعرف حدودها بالفطرة والتربية والثقافة الدينية، ولهذا كانت سياسته حين تشكلت جماعة الإخوان لا تشذ عن السياسة الدينية منذ عصر الجمعيات إبان الاحتلال العثماني ثم الفرنسي ثم عهد الاستقلال الأول باعتبار أن الجمعيات الدينية تعتبر الجذر الأساسي الذي خرجت منه جماعة الإخوان المسلمين.
أما مروان حديد، فإنه على خلاف ذلك، نشأ في بيئة ذات طابع “اشتراكي” ثوري حيث كان ثلاثة من أخوته أعضاء في الحزب الاشتراكي لأكرم الحوراني وهو كذلك قبل انضمامه للإخوان، أي أنه نشأ في مناخ قومي لكن هذا المناخ ظل في العمق الاجتماعي محكوما بالبيئة الدينية نفسها.
وهنا، فإن عودة حديد إلى الإخوان المسلمين، هي عودة إلى الجذر الأساس، ولكن بعد عملية انشقاق سياسية على مستوى السطح لا العمق، ومن المعروف أن كل انشقاق كما يخبرنا علم النفس، يحمل في طياته بذور التشدد لإثبات الذات والولاء، وهذا ما كان في حالة حديد. ولكن رغم ذلك، فإن هذا الفارق بين شخصيتي الرجلين، لا يفسر الكثير من التحولات الحاصلة، والتي نسعى لفهمها في هذه الورقة، وإن كانت تلعب دوراً ما، إلا أن الأسباب الأكثر تأثيراً تكمن في مكان أخر وهو ما سنتابع البحث به.
ثانياً: عصر السباعي وعصر حديد؟
عاصر السباعي مرحلة التحرر من الاستعمار وبناء الدولة الوطنية التي اتخذ رجالها من الديمقراطية البرلمانية نظاماً سياسياً للدولة، حيث كانت العملية الديمقراطية قادرة على احتواء كافة الخلافات السياسية، وهو ما سمح للسباعي بحل مسألة دستور عام ١٩٥٠ ضمن البرلمان نفسه.
في حين أن الأمر كان مختلفاً في عصر حديد، حيث كانت معالم الدكتاتورية قد ترسخت منذ عام ١٩٥٨، أي عام الوحدة، التي كان أثرُها على عائلة حديد واضحاً أيضاً من خلال فصل وتسريح أخيه الضابط في الجيش في عهد عبد الناصر.
لتبدأ الدكتاتورية تتشكل رويداً رويداً حتى عجزت الديمقراطية عن الدفاع عن نفسها بعد رحيل عبد الناصر، فلم يعد هناك برلمان قادر على إدارة الصرعات السياسية ضمن مؤسسات الدولة، هو ما جعل حديد وحوا يلجأن للشارع، أي أن تحولاتهما هي رد فعل على الاستبداد في عنفه المباشر ضد الشعب، حيث “أسهمت أجواء شبه الديمقراطية التي سادت سنوات الخمسينيات، إضافة إلى المد القومي العربي بخلق بيئة اجتماعية/فكرية مناسبة لبروز التيار الإخواني “الشعبوي- اشتراكي” للسباعي.
لكن بعد انقلاب 1963، سوف يسهم النظام العسكري ذو النهج اليساري الراديكالي في سنوات الستينيات بظهور التيار الجهادي. حيث ستخرج مجموعات مهمشة بالنسبة لمؤسسة الدولة، تعبر عن نفسها باستخدام لغة دينية احتجاًجاً على الدولة “العلمانية/الحديثة” وعلى نخبها العسكرية والتكنوقراطية والرأسمالية الدولتية الحاكمة”، الأمر الذي يجعلنا نقول مع عبد الرحمن الحاج أنه „وفـي حيـن أن السياسـة أسـاس تنظيمـات الإسلام السياســي فــإن العنــف المســلح هــو أســاس الســلفية الجهاديــة، وهــو عنــف يتطــور ويتصاعــد ويتعمــم مــع تصاعــد العنــف المضــاد وانســداد أفــق التغييــر”.
ثالثاً: التحول من الحياة الديمقراطية إلى الاستبداد؟
في نقطة متفرعة من المسار السابق، يمكن أن نلحظ أن وصول البعث إلى السلطة وتعمق الاستبداد وتأميم الفساد بعد عمليات التأميم التي طالت الرأسمالية السورية وإعادة هندسة الحقل الديني؛ بما يتناسب مع مصالح السلطة الجديدة، وزيادة عدد سكان سورية… كل ذلك أدى إلى حدوث تغيرات عميقة في بنية الاقتصاد السوري ورأس ماله من جهة، وفي بنية الاجتماع السوري أيضاً من جهة أخرى، الأمر الذي أدى لخسارة كثير من الطبقات والفئات لرأسمالها السياسي والمالي، مُشَكِلَةً معارضة بوجه طبقة التجار الجدد؛ ورأسمالية الدولة؛ التي سيطر عليها العسكر ذوي الخلفية الطائفية، مما جعل النزاع الطبقي بين الأعلى والأدنى والصراع بين البرجوازية التقليدية وبرجوازية الدولة، يتمازج مع الصراع السني العلوي! الذي بدأ يطل برأسه منذ وصول حافظ الأسد إلى السلطة، وهو الأمر الذي توسع لاحقاً بعد وصول الخميني إلى السلطة في إيران، وأيضاً تعزز فكرياً وإيديولوجياً من خلال كتب سعيد حوى و”الفورة التنظيرية” إن صح التعبير، والتي فتح بابها سيد قطب في تفسير النص ثوريًا؛ كما تحدثنا أعلاه.
رابعاً: التحول الإسلاموي نحو العنف؟
هناك تفسير للسلفية الجهادية يقول: إن السـلفية الجهاديـة تبـدو كمـا لـو أنهـا رد علـى فشـل الإسلام السياسي”.
وهذا الكلام صحيح نسبياً، بحيث إن عجز الإسلام السياسي عن التأقلم مع مقتضيات العصر والدولة وانحيازه الدائم إلى القديم؛ ومحاولة إيجاد تلفيقات حداثوية؛ تثبت انتماؤه للعصر بدلاً من تبني نهجاً إصلاحياً حقيقياً، يجعل من الإسلام مجرد مرجع روحي للإنسان كما حصل في الأحزاب المسيحية في أوربا مثلا.. فساهم هذا، وتحت إطار التحولات السياسية وتجذر الاستبداد في تحوّل جماهير الإسلام السياسي نحو السلفية الجهادية. هذا في العموم، ولكن في التفاصيل السورية التي نحن بصدد درسها، يضاف إلى ذلك الانقسام الذي ضرب جماعة الإخوان المسلمين السورية بين تيار حلبي وتيار شامي؛ سمح للتيار الحموي بالاجتهاد وقلب الطاولة على الجميع من خلال أفكار مروان حديد وسعيد حوى، وهو الانقسام الذي أصاب كافة التيارات السياسية السورية عموماً، من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، بما يجعلنا نتحدث عن إطار محلي لهذا التحول أيضاً، وكان بدوره صدى لتحول إقليمي وعالمي بدأت تشهده المرحلة آنذاك.
خامساً: سوريا من الليبرالية إلى الاستبداودية
إذا كان السباعي كما تحدثنا أعلاه قد نشأ في مرحلة الليبرالية السورية؛ فإن حديد نشأ في مناخ استبدادوي ثوري. ولكن هذه الاستبدادوية هي نتيجة للكثير من العوامل التي ولدت بدورها راديكالية “ثوروية” على الطرف المضاد أيضاً.
منذ ستينات القرن الماضي، وكنتاج لسقوط فلسطين في يد إسرائيل؛ وفشل الوحدة السورية المصرية؛ وانطلاق المقاومة الفلسطينية؛ وانطلاق حركات التحرر الثورية داخلاً (اليمن الجنوبي، ظفار، الثورة الجزائرية)، حتى هزيمة ١٩٦٧؛ هذه كلها مجتمعة أدت إلى ولادة موجة من الراديكالية؛ بدأت تطالب بإحلال الشرعية الثورية محل الشرعية الدستورية، بعد أن حُمّلت الأخيرة ذنب كل ما سبق، إضافة إلى عجزها عن إيجاد حل للمسألة الاجتماعية الاقتصادية. وهكذا بدأ يتراجع الإيمان الشعبي بالعملية الديمقراطية؛ لصالح الإيمان بالثورة طريقاً وحيداً للتغيير، بما يعني ذلك أولوية السلاح على الحل الديمقراطي والانقلاب على الانتخابات.
هذا المناخ تأثر به عموماً كل حزب سياسي على طريقته ووفقاً لإيديولوجيته، وبناء على الموقف من ذلك شهدت كل الأحزاب انشقاقات انتهى بعضهاً إلى السلطة؟ وبعضها إلى العنف! وبعضها المنفى! ولم تكن حركة الإخوان بعيدة نهائياً عن هذه التحولات التي أدت ليحمل رفاق مروان حديد السلاح كنهج للجهادية السلفية في حين خرجت قيادات الإخوان بشقيها الحلبي والدمشقي إلى المنفى، وليبدأ الطرفان (الطليعة والإخوان) تبادل الاتهامات، إنما دون أن يتبرأ أي طرف من الأخر رسمياً! رغم التخوين الكبير الذي سمعناه من أطراف هنا وهناك.
إذن؛ هناك عوامل اجتماعية؛ وتغيرات تاريخية؛ وسياسات عالمية؛ ساهمت في أن يكون هناك مصطفى السباعي الذي يخضع للرأي الديمقراطي؛ وهناك مروان حديد ابن البيئة التاريخية الثورية؛ التي تميل للعنف كوسيلة أنجع في التغيير. يضاف إلى هذا الخلافات الإخوانية/الإخوانية التي سمحت لهذا التحول من الأسلوب الديمقراطي إلى الأسلوب العنفي.