على وقع موجة الاحتجاجات الشعبية التي تشهدها مناطق واسعة من إيران إثر وفاة الشابة الكردية مهسا أميني منتصف شهر سبتمبر الماضي، أعلنت طهران عبر ذراعها الضاربة، “الحرس الثوري”، في الـرابع والعشرين من الشهر ذاته، عن إطلاقه عملية عسكرية داخل أراضي إقليم كردستان العراق حملت اسم “القصف والحريق” من أجل “حماية أمن الحدود الإيرانية”.
ورغم أنّ العملية تقتصر حتى اليوم على القصف المدفعي والصاروخي وغارات من الطيران المسيّر على من تصفها طهران بـ “الجماعات الإرهابية”، إلا أنّها طرحت تساؤلات حول الرسائل والدلالات في ظل الأزمة العاصفة التي يعيشها النظام الإيراني، كما أنها أثارت علامات استفهام بشأن اتساع خريطة الانتشار المسلح للجماعات الكردية الإيرانية والتركية المعارضة داخل كردستان العراق، والموجودة في إطار الأمر الواقع المفروض على حكومة أربيل المحلية وكذلك على بغداد، منذ سنوات طويلة، هذا على الرغم من محاولات أربيل “اللافتة” في اعتماد مقاربات “عقلانية” في تعاملها مع تلك الجماعات من جانب، ومع الحكومتين التركية والإيرانية من جانب آخر.
الحيثيات..
للأسبوع الثالث على التوالي، يواصل “الحرس الثوري الإيراني” هجماته على مواقع للمسلحين الأكراد المعارضين لطهران داخل الحدود العراقية من جانب إقليم كردستان ضمن ما سُمي عملية “القصف والحريق” التي جاءت بموازاة هجمات تركية مماثلة، فيما أطلق نشطاء في الإقليم حملة للتضامن مع الاحتجاجات في المدن الإيرانية مطالبين حكومة أربيل بقطع علاقاتها مع طهران.
وتأتي العملية في وقت تتواصل الاحتجاجات في المدن الإيرانية، بخاصة الكردية منها منذ 16 سبتمبر الفائت على أثر وفاة الشابة مهسا أميني بعد ثلاثة أيام من توقيفها في طهران من قبل “شرطة الأخلاق” بتهمة خرقها القواعد الصارمة للباس المرأة في البلاد.
وسجل يوم الأربعاء 28 سبتمبر أعنف الهجمات الإيرانية في إقليم كردستان شمال العراق، حيث أدت ضربات صاروخية تبنّتها طهران، إلى مقتل 13 شخصا على الأقل وإصابة 58 آخرين بجروح، بينهم نساء وأطفال. واستهدفت الضربات مواقع لأحزاب كردية إيرانية معارضة تنتقد قمع المظاهرات في إيران، بحسب بيان لجهاز مكافحة الإرهاب في إقليم كردستان، مشيرا إلى “إطلاق أكثر من 70 صاروخا باليستيا وقاذفة طائرات بدون طيار من الأراضي الإيرانية على أربع مراحل”.
وتأتي هذه التطورات في ظل حالة من الجمود السياسي الذي طال أمده في العراق، وبقاء البلاد بلا حكومة مؤثرة قادرة على إدارة شؤون الدولة واستحقاقاتها، وسط تحذيرات من انعكاسات ذلك على الملف الأمني الهش في العراق عموماً.
وتَحُول الخلافات الحاصلة حالياً بين التيار الصدري (شيعي) وتحالف الإطار التنسيقي (شيعي مقرب من إيران) دون تشكيل حكومة عراقية جديدة منذ إجراء الانتخابات التشريعية الأخيرة في العاشر من أكتوبر/ تشرين الأول 2021، الأمر الذي أدخل البلاد في مأزق سياسي شامل تُتّهم إيران بالتسبُّب به.
ويستضيف إقليم كردستان العراق الغني بالثروات الباطنية مجموعات معارضة كردية إيرانية، تعارض تاريخيا النظام السياسي في طهران، إلا أن أنشطتها تراجعت في السنوات الأخيرة.
من هي الجماعات المستهدفة؟
وبعد أن كانت إيران هي الوجهة الأولى لشخصيات عراقية كردية بارزة، خاصة من أسرة البارزاني، إثر خلافها مع نظام صدام حسين، تحوّل شمال العراق في السنوات الأخيرة إلى مأوى لجماعات كردية إيرانية وتركية معارضة، وبالتالي صار الإقليم الذي تبلغ مساحته ما يقارب (40,000) كم²، باستثناء (المناطق المتنازع عليها)، هدفا لصواريخ الحرس الثوري ومسيّرات الجيش التركي، ناهيك عن التوغل البري المحدود حتى اليوم.
وتنتشر في جبال كردستان العراقية، وخاصة ضمن مناطق جومان، وسيدكان، وسوران، وسيد صادق، وخليفان، وبالكايتي، عدة جماعات كردية إيرانية ذات طابع قومي وعلماني، أهمها الحزب الديموقراطي الكردستاني الإيراني» (حدكا) الذي تأسس في عام 1945، ويعتبر من أقدم الأحزاب الكردية المعارضة للحكم المركزي في إيران، ويتزعمه اليوم مصطفى هجري الذي يتخذ من إقليم كردستان العراق مقراً له. وهناك “الحزب الديمقراطي الكردستاني” (حدك) الذي انشق قبل سنوات عن الحزب الأم (حدكا) ويتزعمه خالد عزيزي ويتخذ من شمال العراق مقراً له أيضاً. كما يوجد حزب “كومله” اليساري بزعامة عبد الله مهتدي. ومنظمة “خبات” القومية الكردية التي ترفع شعار الحكم الذاتي لأكراد إيران ويتزعمها بابا شيخ حسني. هذا بالإضافة إلى كوادر وقيادات الحزب الشيوعي الكردي الإيراني، الذي يدعو إلى “إيران فيدرالية علمانية تعددية ديمقراطية”، وبطبيعة الحال يقف ضد نظام ولاية الفقيه، وله حضور مهم في مناطق غرب إيران ضمن محافظة كردستان إيران الحدودية مع العراق. كذلك، يبرز حزب “الحياة الحرة” (بيجاك)، كقوة عسكرية فاعلة منذ 2004، وينشط في مناطق حدودية عراقية عدة مجاورة لإيران وتركيا ضمن مثلث سلسلة جبال قنديل، ويعرف بقربه الفكري من حزب العمال الكردستاني المعارض لأنقرة، ويتبنى أفكار زعيم هذا الحزب عبد الله أوجلان.
ومنذ فبراير عام 2017 تأسس مكتب “مركز تعاون الأحزاب الكردستانية الإيرانية” تتعاون من خلاله المنظمات الكردية الإيرانية الرئيسية، لكنها على عكس حزب العمال الكردستاني التركي، لم تُنشِئ قاعدة عمليات عسكرية مسلحة واضحة لها داخل إقليم كردستان العراق، بل إنّ وجودها يتمثل أكثر في مقرات إيواء لعائلات كوادر هذه المنظمات والمعارضين الملاحقين من قبل أجهزة المخابرات الإيرانية. وهو ما يعزوه مراقبون إلى احترام رغبة قيادة إقليم كردستان وتجنيبها مشاكل مع إيران.
وفي هذا الإطار، اعتبر مسؤول كردي في مدينة كوكوك، أنه ورغم اتساع الوجود الكردي الإيراني والتركي المعارض داخل إقليم كردستان، إلّا أنّه تواجدٌ “منضبط” رغم “تباين التوجهات الفكرية لهذه الجماعات”، مشيراً في حديث هاتفي مع “مرصد مينا”، بأن محافظات إقليم كردستان العراق باتت “مأوى وقاعدة عمليات للكثير من عناصر هذه الجماعات وأفراد عائلاتهم أو محطة انتقال لأكراد مضطهدين أو ملاحقين يحاولون الهجرة من إيران نحو أوروبا”. وتحدث المسؤول الذي فضّل عدم الكشف عن اسمه عن اتباع أربيل “سياسة عقلانية” عبر خلق توازن بين مصالح وأمن واستقرار الإقليم من جهة، وعلاقتها مع طهران وأنقرة من جهة أخرى، مشيراً في الوقت ذاته إلى الدور المحوري لأربيل في ضمان أمن واستقرار المنطقة عبر علاقاتها “المتزنة” مع الأطراف سابقة الذكر. ومع استبعاد المسؤول ذاته أن تتحوّل العمليات الإيرانية والتركية الحالية ضد تلك الجماعات إلى اجتياح عسكري أوسع، رأى أن “ضعف بغداد والفراغ الحكومي يُشجع كلاً من أنقرة وطهران على استعراض قوتيهما في جبال كردستان العراق لاعتبارات قد تكون داخلية خاصة بكل منهما، كالاستحقاقات الانتخابية أو الاحتجاجات والمظاهرات”.
وبينما تنفي التنظيمات الإيرانية المعارضة في كردستان أي علاقة لهم بما يحدث من مظاهرات في إيران اليوم، ويكتفون بمباركتها وتأييدها، يعتبر الصحافي الكردي حميد كارزان أن “إيران تحاول تصدير أزمتها الداخلية، تحاول تصدير أزمتها السياسية، لا سيما وأن هناك معلومات تتحدث عن وضع صحي حرج للمرشد الأعلى علي خامنئي، ما يزلزل الوضع السياسي في إيران. لأنه لا توجد دولة واحدة فيها بل دويلات. الحرس الثوري هو دولة بحد ذاتها مع مرشد الجمهورية، الإصلاحيون، المحافظون..”
استنساخ للنموذج التركي؟
وبالتزامن مع الضربات الإيرانية، عادت القوات التركية لتشن هجمات جديدة على مواقع لمسلحين أكراد شمال العراق تقول أنقرة إنهم عناصر في حزب العمال الكردستاني المعارض الذي تخوض صراعاً معه منذ ثمانينيات القرن العشرين. وينفذ الجيش التركي عمليات عبر الحدود في المنطقة التي يديرها الأكراد شمال العراق منذ نحو ثلاثة عقود.
كما لم تتوقف تركيا عن استهداف قيادات وعناصر “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) في شمال سوريا وشمال شرقها وآخرين ممن تقول أنقرة إنهم يتبعون لـ”العمال الكردستاني” المصنف على قوائم الإرهاب. ولولا الرفض الأميركي من تمدد هذه الهجمات، فإن الميليشيات التابعة لإيران والقوات التركية، ما كانت لتوفر السعي للسيطرة على المناطق الخاضعة لإدارة الحكم الذاتي الكردية شمال سوريا.
وبينما يعتقد مراقبون أنّ من ضمن ما تحمله الضربات الإيرانية من رسائل ما يتعلق بالأزمة السياسية التي حالت حتى الآن دون تشكيل حكومة في بغداد. وتريد طهران من خلالها أن تزيد الضغط على القيادات الكردية لكيلا تخرج عن الطريق في دعمها لجماعات الإطار التنسيقي الموالية لها. تسعى طهران، وفق بعض القراءات، إلى استنساخ طريقة التعامل التركي مع حكومة كردستان العراق التي يقودها مسعود بارزاني، وتُتهم على الدوام بـ ” التواطؤ” مع أجهزة المخابرات التركية في تنسيق الهجمات ضد مقاتلي حزب العمال الكردستاني.
وفي هذا الإطار يعتقد الكاتب علي الصراف في مقال بصحيفة العرب اللندنية أنّ ضعف قيادة مسعود بارزاني هي السبب الرئيسي الذي يجعل الأكراد “ضحية للجميع”. فهو بحسب الكاتب يناور هنا ويناور هناك ظنا منه أنه يستطيع أن يحفظ أمن سلطته على كردستان العراق، ولكنه لم يفهم حتى الآن أنه يجب أن يدفع ثمنا لذلك، وهذا الثمن يشمل، بين الكثير ممّا يشمل، الانخراط بعمل مباشر في محاربة الأكراد الأتراك والإيرانيين والسوريين، سواء منهم الذين يتخذون من كردستان العراق ملاذا آمنا لهم، أو الذين يستفيدون من وجود سلطة كردية مستقلة في العراق لتعزيز تطلعاتهم السياسية في إيران وتركيا وسوريا.
ويبدو أنّ الاحتجاجات الحاصلة في معظم المدن الكردية في إيران، أعادت تذكير طهران بوجود معسكرات لمتدربين أكراد إيرانيين، وقيادات سياسية كردية إيرانية، كان يجب على سلطة بارزاني أن تقوم بملاحقتها وتسليمها إلى طهران.
ويرى الكاتب العراقي أنّ تواطؤ قيادة بارزاني مع جماعات الإطار التنسيقي كان هدفه استرضاء إيران. ولكنه لم يكن كافيا أيضا، فهو لم يحصل على ضمانات، بألاّ تتعرض كردستان العراق لهجمات إيرانية جديدة. مستدلاً على ذلك بأنّ طهران تعمّدت أن تجعل من ضرباتها الأخيرة أكثر شراسة وأقرب إلى قلب أربيل، من أجل أن توصل إلى قيادة بارزاني رسالة تطالبه باستمرار التحالف مع جماعات الإطار التنسيقي، وملاحقة كل الأكراد الإيرانيين الذين يجدون ملاذا آمنا في مناطق سلطته، وأن يتقدم بإشارات واضحة على استعداده للتعاون مع الحرس الثوري في أعمال الملاحقة، على غرار ما يفعل مع المخابرات التركية.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مركز أبحاث ودراسات مينا.