قد تزعج الاحصاءات حول خلفيات الأطفال الصغار في فرنسا اليمين المتطرف في البلاد، لكن لايمكنه فعل أي شي حيال ذلك الأمر بعدما أظهرت دراسة كشفت نتائجها مؤخرا بأن 40% من أطفال فرنسا دون الرابعة من العمر يتحدرون من أصول مهاجرة.
وقد لا يكون هذا الأمر غريبا لمن يشاهد فرنسا سواء على أرض الواقع حيث اليد العاملة وفي داخل الدوائر الحكومية وفي كل مكان تجد فرنسيين من أصول أفريقية أو مغاربية وغيرهم، أو عبر المنتخبات الوطنية لاسيما كرة القدم التي فازت بها فرنسا في النسخة الأخيرة حيث معظم لاعبيها من أصول مهاجرة حتى كاد أن يكون جميع أفراد المنتخب من المهاجرين.
في ضاحية ساندوني شمال شرق العاصمة باريس، تكاد تشعر أنك تسير في إحدى شوارع العاصمة الجزائرية، مع غياب شبه تام لأي تواجد فرنسي وكثافة جزائرية من حيث السكان والمحال التجارية وحتى ثقافة المكان.
وفي حي “سان تيتيان” جنوب مدينة روان عاصمة النورماندي في شمال فرنسا، تشعر أنك في أحدى أحياء الرباط أو الدار البيضاء، وليس المحال والوجوه المغاربية الطاغية على المكان يعطيك هذا الانطباع، بل حتى الزي سواء للرجال والنساء.
تغيير عميق في عدد سكان فرنسا
مع هذا العدد الكبير من الأطفال الصغار من أصول مهاجرة والذين سيكونون في غضون عقدين في سوق العمل، فإنه في حال استمر هذا الوضع سيقترب عدد الشبان من الفرنسيين الأصليين مع الشبان من ذوي الأصول المهاجرة، إلا أن المؤشرات تتجه إلى أن المرأة الفرنسية خصوبتها في تراجع، مقابل خصوبة عالية بالنسبة للمهاجرات وهو ما قد يرفع هذه النسبة خلال السنوات القادمة وبالتالي تجاوز أبناء أو أحفاء المهاجرين لعدد الفرنسين الأصليين.
وفي الوقت الذي ترتفع فيها نسبة الشيخوخة كما هول الحال بالنسبة لمعظم دول القارة العجوز، فإن الوضع في فرنسا يتجه نحو تغيير ديموغرافي خلال النصف الثاني من القرن الحالي. أي خلال جيل واحد (الجيل يقدر بنحو 33 عاما).
يؤكد هذا وزير الدولة الفرنسي السابق “بيار لولوش” الذي صرح الأسبوع الماضي بالقول إن “هناك تغييرا عميقا في عدد سكان هذا البلد وفي عدد طلاب المدارس، لأن غالبية هؤلاء السكان ينحدرون من أفريقيا السوداء والمغرب العربي”، حسب وصفه.
وأضاف بأن 4 من بين 10 أطفال في فرنسا بين 0 و4 سنوات ينحدرون من أصول مهاجرة، مشيرا إلى أن هذه الأرقام تستند إلى آخر تعداد سكاني للبلاد والذي يعود لنحو عامين.
وتساءلت صحيفة “لوفيغارو” عن التصريح الصادر عن الوزير بالقول: “من أين يأتي هذا الرقم الذي يبدو مرتفعا للغاية؟”.
لكن هذه الأرقام تؤكدها الكاتبة “ماوري بيرفينكيير” في تقرير للوفيغارو، نشرته قبل أيام، مشيرة إلى أنه وفقا للدراسة، فإن 39.4% من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 0 و4 سنوات لديهم صلة بالهجرة على مدى 3 أجيال.
وأوضحت الكاتبة بأن 0.8% منهم مهاجرون، أي ولدوا في الخارج، و13.3% والديهم من المهاجرين (من الجيل الثاني)، و11.3% أحد والديهما مهاجر (الجيل الثاني)، 1.8% لديهم 4 أجداد مهاجرين (الجيل الثالث)؛ و12.2% لهم جد واحد مهاجر على الأقل (الجيل الثالث).
أما أصول هؤلاء الأطفال، فهي أفريقية في الغالب، منهم 10.9%من المغرب الكبير و5.6%من بقية أفريقيا، مقابل 1.3% من إسبانيا وإيطاليا والبرتغال.
المغرب العربي أولا
تشير صحيفة ليوفيغارو في تقريرها إلى أن أحفاد الجيل الثالث من المهاجرين يمثلون 13.9% من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 0 و4 سنوات، منهم 5.3% من المغرب العربي و1.5% من بقية أفريقيا، مقابل 4.5% من إسبانيا أو إيطاليا أو البرتغال.
وفي حين أن عدد المهاجرين، بالمعنى الدقيق للكلمة، من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 0-4 سنوات قليل جدا (على عكس أبناء أو أحفاد المهاجرين)، فإن العدد أكثر من ذلك بكثير بالنسبة للأشخاص في سن الثلاثينيات والخمسينيات.
وحسب الدراسة “ولد الجيل الثاني من أحفاد الذين تقل أعمارهم عن 18 عاما في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، في حين أن أولئك الذين تزيد أعمارهم على 60 عاما هم أطفال فترة الستينيات وما قبلها، في وقت كان المهاجرون يمثلون 6% من السكان الفرنسيين”.
الخصوبة لصالح المهاجرين
تؤكد الكاتبة “بيرفينكيير” بأن هذه النسبة الأكبر من المهاجرين وذريتهم تفسر جزئيا بارتفاع معدل الخصوبة.
وتشير وفقا لبيانات معهد الإحصاء الفرنسي إلى أنه بلغ إجمالي معدل الخصوبة عام 2016 (أي عدد الأطفال الذين يمكن للمرأة إنجابهم) للمهاجرين 2.72 طفل لكل امرأة مقابل 1.79 طفل لكل امرأة من غير المهاجرين، بفارق 0.93 طفل لكل امرأة”.
وكان المؤشر الإجمالي لخصوبة النساء، سواء مهاجرات أم لا، هو في حدود 1.91 طفل لكل امرأة. ومن دون المهاجرين، كان مستوى الخصوبة في فرنسا عام 2016 أقل، بنسبة 0.12 طفل لكل امرأة.
ومع ذلك، وفقا لدراسة أجريت عام 2010، فإن معدل خصوبة النساء المنحدرات من أصول مهاجرة وغير المنحدرات من المهاجرين متشابه (حوالي 1.85 طفل لكل امرأة).
وباختصار، فإن نحو 40% من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 0 و4 سنوات لديهم صلة بالهجرة على مدى ثلاثة أجيال.
ثلث السكان دون سن الـ 60 من أصول مهاجرة
مما يؤكد على أن فرنسا تتجه نحو تغيير ديموغرافي خلال جيل واحد فقط، هو ما كشفته نتائج مسح قام به المعهد الوطني الفرنسي للإحصاء والدراسات الاقتصادية والمعهد الوطني للدراسات الديموغرافية.
المسح الذي شمل عينة تزيد عن 26 ألف شخص، أكد بأن حوالي ثلث السكان الفرنسيين الذين تقل أعمارهم عن 60 عاما من أصول مهاجرة. وهو مسح أجرى بين 2019 و2020، ونشرت نتائجه في يوليو/ تموز الماضي.
وأوضحت النتائج أن 32% من الذين تقل أعمارهم عن 60 عاما ينحدرون من أصول مهاجرة على مدى 3 أجيال، 9% منهم مهاجرون (أي 5.8 ملايين شخص) و13% أبناء مهاجرين و10%أحفاد مهاجرين.
كذلك، بينت نتائج المسح أن نصف أحفاد الجيل الثالث لديهم جد مهاجر واحد فقط، في حين أن الارتباط بالهجرة يتلاشى عبر الأجيال.
وفقا لاستنتاجات المسح، يؤدي هذا المزيج المتزايد إلى تعزيز اختلاط السكان من الجيل الثاني.
ومن بين الاستنتاجات البارزة، لاحظ المسح أنه في العائلات التي يكون فيها كلا الوالدين مهاجرين، يكون الأطفال أكثر تأهيلا على المستوى الدراسي من والديهم، وربما من بقية الفرنسيين.
وفي حين أن 5% من الآباء المهاجرين حاصلون على دبلوم التعليم العالي، فإن 33% من أبنائهم المولودين في فرنسا حاصلون على شهادة جامعية، وترتفع هذه النسبة بين السكان غير المهاجرين من 20% إلى 43%.
الاتجاه نحو التغيير الديموغرافي لا يختصر على فرنسا فحسب، بل يشمل العديد من الدول الأوروبية لكن الوضع في فرنسا يبدو بأ أكثر وضوحا.
ومع تراجع مستمر في معدل الخصوبة واستمرار عزوف الأوروبيين عن الإنجاب، فإن دولا مثل ألمانيا وإيطاليا قد تشهد سيناريو مماثل لكن ليس في غضون جيل واحد.
هذا الاستنتاج يستند إلى أن القارة العجوز تواجه تحديا يتمثل في أنها تشيخ بالفعل، في وقت يتزايد فيه الفرق بين قمة الهرم وقاعدته، والمهاجرون وأبناءهم وحدهم من يعمل على تقريب الفرق، لكن هذا التقريب سيكون على حساب التغيير الديموغرافي لتلك الدول.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مركز أبحاث ودراسات مينا.