وصل الشاب السوري ياسر الأحمد (26 عاماً) إلى قبرص الأوروبية قبل نحو خمسة أشهر، ورغم أنّ الظروف هنا تبدو “غير مشجعة” له ولغيره من طالبي اللجوء مقارنة بدول أوروبا الغنية، إلّا أنّ الجزيرة السياحية قد تكون على موعد قريب مع استقبال المزيد من موجات اللاجئين السوريين، الفارين هذه المرة من جحيم الفقر والبطالة وانعدام سبل العيش، بعد أن كان الدافع سابقاً الهروب من الموت الذي حلّ ضيفاً ثقيلاً على البلاد منذ بدء الصراع الدموي هناك عام 2011.
يقول الأحمد لمركز أبحاث مينا “قبرص ليست أفضل خيار للاجئين، وذلك يبدو منطقياً بالنظر إلى صِغر الجزيرة وإمكانياتها الاقتصادية المحدودة، رغم ذلك فهي أفضل بمئات المرات من البقاء في تركيا أو العودة إلى سوريا التي تعيش وضعاً اقتصادياً كارثياً”.
واضطر الشاب لمغادرة تركيا التي مكث فيها لأربع سنوات، تحت وطأة ارتفاع الأسعار وتكاليف المعيشة، وتنامي العنصرية والاستغلال الذي تعرض له من قبل أرباب العمل. وقال “اقترضت مبلغاً من المال (2000 يورو) لأتمكن من القدوم إلى قبرص عبر رحلة محفوفة بالمخاطر في حين كانت التكلفة ضُعفي أو ثلاثة أضعاف المبلغ لو أردت الذهاب إلى ألمانيا أو هولندا. قَدِمت إلى هنا لأعمل، والدتي وأشقائي الصِغار مقيمون في جرابلس منذ أن نزحنا من ريف دمشق، وهم بحاجة إلى حوالي 200 يورو شهرياً لسد أجار المنزل وتأمين المستلزمات الأساسية، سأعمل جاهداً كي أرسل هذا المبلغ بانتظام”.
وعن سبب عدم عودته إلى سوريا بعد المصاعب التي تعرض لها في تركيا، يرى الأحمد أن خيار الهجرة بات الأمل الوحيد لمعظم السوريين الحالمين بالحصول على حياة مستقرة ومستقبل آمن، ويضيف “لو عدت إلى سوريا فإنّ أجرة عملي اليومي في البناء – في حال توفّر العمل- لم تكن لتكفي إلا لشراء الخبز وبعض الخضار.. من لم يمت بالقصف والقنابل في سوريا يموت من الجوع اليوم”.
انهيار اقتصادي
يمكن ملاحظة الانهيار الاقتصادي والتدهور المعيشي الذي تحدث عنه الشاب السوري من خلال ازدياد حدة المظاهر الاحتجاجية منذ مطلع العام الجاري في مختلف المناطق السورية، التي باتت مقسمة عملياً بين ثلاث قوى تفرض سيطرتها العسكرية والأمنية، وأيضاً “رؤيتها” الاقتصادية. فبينما كان ياسر يقصّ علينا حكايته، كانت حناجر مئات المتظاهرين في مدينة السويداء الخاضعة لسيطرة الحكومة السورية تعيد إحياء هتاف “الشعب يريد اسقاط النظام”، في جولة جديدة من التظاهرات التي تندد بتدهور الأوضاع المعيشية و “تخلّي الدولة عن مسؤولياتها”، وسط عجز تام للحكومة عن تأمين احتياجات الأهالي من مواد التدفئة والكهرباء وبقية الخدمات والسلع الأساسية.
الأمر ذاته ينطبق على بقية مناطق النفوذ في سوريا باختلاف الطرف الذي يلومه المحتجون. ففي شمال شرق البلاد تكاد المظاهرات لا تتوقف ضد “الإدارة الذاتية” وذراعها العسكرية “قوات سوريا الديمقراطية” المعروفة اختصاراً بـ “قسد”، إما للاحتجاج على سوء الوضع المعيشي وغياب الخدمات واستشراء الفساد أو للتعبير عن الرفض والوقوف ضد الانتهاكات من تجنيد إجباري واعتقالات. وهو ما دفع “الإدارة الذاتية”، مطلع مارس من العام الجاري، إلى استحداث “قوات لمكافحة الشغب” في مناطق سيطرتها.
أمّا شمال وشمال غرب سوريا الخاضع لسيطرة تركيا وفصائل المعارضة، فالاحتجاجات تكون غالباً للتنديد بالوضع الأمني المتردي، أو للمطالبة بتخفيض سعر الكهرباء وزيادة رواتب المعلمين.
عوامل استمرار الهجرة
وتعاني سوريا من أزمة اقتصادية حادة منذ سنوات بفعل الحرب الطاحنة التي مرّت بها، تشمل الوقود والطاقة والخبز إضافة إلى انهيار الليرة مما عاد بآثار كارثية على كل مفاصل الحياة فيها وجعل منها حياة متاحة بشق الأنفس.
ويرى خبير اقتصادي فضل عدم الكشف عن اسمه أنّ الاقتصاد السوري يسير من سيء إلى أسوأ، وأرجع ذلك إلى سيطرة روسيا وإيران على الجزء الأكبر من الاستثمارات السيادية (النفط والغاز، الفوسفات، والكهرباء) وتفشّي الفساد، وإلى غياب الحل السياسي، واستمرار العقوبات الأمريكية والأوروبية على النظام السوري، ومعارضتها لأي تقارب اقتصادي وسياسي مع النظام السوري.
وأضاف في حديث عبر الهاتف مع مركز أبحاث مينا من مكان إقامته في دمشق “ليس أدل من الأوضاع الكارثية التي يعاني منها السوريون اليوم انقطاع الكهرباء لأكثر من 20 ساعة في اليوم، والطوابير على الخبز والمحروقات، إضافة إلى الازدحام على مراكز إصدار وثائق السفر للهجرة هرباً من الواقع المعيشي”.
وإلى جانب الأسباب الاقتصادية والمعيشية، يضطر آلاف الشبان في مناطق سيطرة النظام إلى الهجرة بعد بلوغهم سن 18 أو بعد انتهاء دراستهم الجامعية تفاديا للخدمة الإلزامية التي باتت كابوساً يؤرق كاهلهم، بسبب ما تنطوي عليه من خطر الموت في المعارك، أو إمكانية الاحتفاظ بهم لسنوات طويلة.
الأمر ذاته ينطبق على شمال شرق سوريا، حيث أدت سياسة التجنيد الإلزامي التي تتبعها قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، إلى فرار مئات الشبان من مناطقها سواء نحو شمال العراق أو باتجاه أوروبا، في حين يضطر البعض إلى ترك أعمالهم والاعتكاف في منازلهم تجنباً للاعتقال من دوريات الشرطة العسكرية، وهو ما يفاقم من أوضاعهم المعيشية. وفي هذا السياق، قال “قاسم ح”، وهو عامل في ورشة لإصلاح السيارات بمدينة الرقة، إنه لم يذهب للعمل منذ أسبوعين خشية اعتقاله من قبل دوريات “قسد”، الأمر الذي يفاقم من وضعه الاقتصادي المتدهور أصلاً بسبب ضعف الحركة في السوق وتحوّل السيارات إلى رفاهية وحلم لغالبية السوريين. وأشار إلى أن العديد من الأشخاص ممن يعرفهم جرى سوقهم للتجنيد الإلزامي خاصة بعد التهديدات التركية باجتياح المنطقة، وهو لا يريد الالتحاق بالتجنيد كونه المعيل الوحيد لأسرته، كما أنه لا يريد أن يكون مقاتلاً مع أي طرف، ما يجعله أمام خيارين لا ثالث لهما، إما التوجه إلى شمال العراق أو إلى مناطق المعارضة ومنها نحو تركيا.
أما ضمن مناطق المعارضة السورية، فإنها وعلى الرغم من الهدوء النسبي الذي تعيشه جبهات القتال منذ نحو 3 أعوام، وعدم اتّباع الفصائل المسيطرة لسياسة “التجنيد الإجباري”، إلا أنها تتشابه مع بقية المناطق السورية من حيث ارتفاع الأسعار وانتشار الفقر والبطالة لدى غالبية الـ 5 ملايين شخص المقيمين فيها، ونصفهم تقريباً هُجروا من مختلف المحافظات السورية على يد روسيا والنظام.
يرى الممرض حسام المسالمة، المهجر من ريف درعا، ويقيم في الباب بريف حلب، أن “بقاءه وأسرته في المنطقة هو إجراء مؤقت، وأنّ الهجرة باتت بمنزلة طوق نجاة للسوريين”، ويشير إلى أنه كان حتى وقت قريب يستبعد الهجرة، إلا أنّ عوامل وأسباب عديدة دفعته لإعادة حساباته بهذا الخصوص؛ “الوضع في الشمال السوري رهن بالتفاهمات الإقليمية والدولية، هذه التفاهمات قد تتغير في أي وقت، ومما زاد الإصرار لديّ، التصريحات التركية الأخيرة حول التقارب مع النظام، وإمكانية تسليمه المنطقة، أخشى على حياتي لكوني مطلوباً له، وفقدت شقيقين على يديه، لذا أرى أنّ الهجرة أفضل بالنسبة لي ولمستقبل أطفالي”.
الفقر والبطالة
لإدارك مدى تأثير العامل الاقتصادي في قرار الهجرة لدى الشباب السوري لابد من فهم واقعهم المعيشي اليوم، والمدخل إلى ذلك هو الإضاءة على مؤشرات الفقر والبطالة، الدخل والإنفاق.
تُجمع الأرقام الصادرة عن منظمات الأمم المتحدة ووكالاتها الرئيسية بأنّ نسبة انتشار الفقر في سوريا تزيد اليوم على 90 بالمئة، أما ما يخص البطالة فلا يوجد أرقام رسمية لها، ولكن حسب البنك الدولي فإن نسبة البطالة في سوريا وصلت إلى 9%، بينما في الحقيقة فإن الأرقام أكبر من ذلك بكثير.
ففي شمال غرب سوريا تؤكد منظمة “منسقو استجابة سوريا”، في تقرير صادر منتصف نوفمبر الفائت، أن نسبة البطالة في الشمال السوري وصلت إلى 85 في المئة بين السكان المدنيين هذا العام، وهي نسبة غير مسبوقة في المنطقة. وأوضحت أن من أهم أسباب البطالة، غياب فرص العمل، وعدم وجود الخبرة الكافية وضعف التدريب والكفاءات الوطنية وعدم توافر الخبرات العملية لمعظم الخريجين، ونقص المتابعة والدعم من أماكن تخرجهم.
وانتقالا إلى مناطق سيطرة نظام الأسد، فإنه لا يبدو الحال أفضل من الشمال السوري، إلا أن النظام يتحدث عن نسب لا تتجاوز الـ 30 في المئة، وهو ما يقابل بتشكيك من قبل أوساط محلية ودولية.
وكانت الحكومة السورية قد بدأت تدريجيا برفع الدعم عن بعض المواد، منذ منتصف العام الماضي، عندما توالت قرارات رفع أسعار مختلف السلع والخدمات، حتى وصلت إلى قرار إلغاء الدعم الذي صدر في مطلع فبراير الماضي والذي أدى إلى إفقار شريحة واسعة من السوريين.
أما في مناطق سيطرة الإدارة الذاتية شمال شرق سوريا، فتقدر نسبة البطالة وفق احصائيات هيئة الشؤون الاجتماعية والعمل في “الإدارة” بحوالي 25%، إلا أنّ خبراء يرجحون أنّ النسبة تتجاوز الـ 80 في المئة.
فجوة هائلة بين الدخل والإنفاق
بالنسبة لمستوى الدخل فهو مختلف نسبياً بين كل منطقة من مناطق الحكم في سوريا، إذ إنه في مناطق النظام السوري يعد الأسوأ على الإطلاق، فمتوسط رواتب موظفي القطاع العام 130 ألف ليرة (حوالي 21 دولار أمريكي حسب سعر الصرف في السوق السوداء مطلع ديسمبر الجاري) فقط لا غير، أما في مناطق الإدارة الذاتية شمال شرق سوريا، فهو يعتبر أفضل من هذا بكثير حيث راتب موظفي الإدارة الذاتية الآن (بعد زيادة بحوالي 40 بالمئة نص عليها قرار في 30 أكتوبر الفائت) حوالي 370 ألف ليرة سورية أي حوالي الـ70 دولار أميركي، وذلك باستثناء رواتب قوى الأمن الداخلي (الأسايش) والعاملين في الجناح العسكري (قسد) إذ يتقاضون أجوراً أعلى.
الأجور في مناطق المعارضة السورية تكون بالليرة التركية، وهي العملة المعتمدة في المنطقة منذ عام 2019، وتتراوح بين 1500-2500 ليرة تركية (80 – 134 دولار) لموظفي الدوائر “الحكومية” بعد زيادة أُقرّت مطلع ديسمبر الجاري، في حين تصل رواتب الأطباء إلى حوالي 8500 ليرة تركية (460 دولار أمريكي)، والعمال المياومين إلى حوالي 750 ليرة تركية (40 دولار) وهي تتفاوت باختلاف المهنة. أما رواتب القطاع الخاص فالوضع مختلف إذ إن الرواتب تكون أفضل كثيرًا في مناطق الإدارة الذاتية والمعارضة السورية وقد تتجاوز الـ 1000 دولار، ولكنها تبقى في مناطق النظام السوري لا تزيد عن الـ 200 دولار.
وأمام هذه الأرقام، تشير تقديرات اقتصادية إلى أنّ كلفة معيشة الأسرة السورية اليوم تقدّر بنحو مليون و700 ألف شهرياً (حوالي 285 دولار أمريكي)، بكفاف ومن دون رفاهية.
ويشير الخبير الاقتصادي في حديثه مع مرصد مينا إلى أنّ التحويلات المالية لسوريي الخارج أصبحت طوق نجاة لمن تبقى داخل سوريا في مواجهة الأزمات المعيشية وموجات الغلاء المتصاعدة. ومع انعدام الحلول والانفراجات في الأفق، يبقى الباب مفتوحاً على مصراعيه أمام مزيد من الهجرة في المدى القريب..
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مركز أبحاث ودراسات مينا.