في ظل التضييق الذي تعاني منه جماعة الإخوان المسلمين في معاقلها الأوروبية التقليدية؛ فرنسا وبريطانيا وألمانيا غرب القارة العجوز، لوحظ أخيرًا تصاعد لنشاط جماعة الإخوان في شرقي أوروبا خاصةً دول البلقان، مثل ألبانيا والبوسنة والهرسك ورومانيا، مستفيدة من الهشاشة الاقتصادية والأمنية في هذه المنطقة، ومن العلاقات القوية التي تربط تركيا ومسلمي هذه الدول.
ورغم أنّ الوجود الإخواني يتسم في هذه المنطقة بالمحدودية والندرة من جهة، ويكتنفه الغموض واللبس من جهة أخرى، إلا أنّ من شأن هذا الحضور أن يتعزّز في أي وقت تبعاً للظروف الأمنية والسياسية المتعلقة بالجماعة في معاقلها الأساسية، وهو ما يحاول مرصد مينا التنويه إليه في سلسلة تقارير تتناول واقع الجماعة الراهن في دول البلقان.
محطتنا في هذا التقرير هي بولندا، الدولة الأوروبية التي برزت بشكل لافت خلال الحرب الروسية على أوكرانيا وباتت تتحمل نيابة عن أوروبا العبء الإنساني والاقتصادي الأكبر للحرب، كذلك أصبحت حائط الصد الأول للناتو في مواجهة روسيا، وهو ما من شأنه أن يعزّز مكانتها في خطط الإخوان المستقبلية، وفق ما يرى مراقبون.
الوجود الإسلامي في بولندا..
لا توجد إحصائيات دقيقة عن عدد المسلمين في بولندا، لأن الحكومة لا تستلزم في الإحصائيات ديانات سكانها، إلا أنّ تقديرات محلية تشير إلى وجود نحو 25 ألف مسلم يتوزعون بين تتار “الليبكا” والمهاجرين الوافدين من فلسطين وسوريا والشيشان، والعراق وطاجيكستان وبنغلاديش.
في حين ترى تقديرات معهد “بروكنجز” الأمريكي أن عدد المسلمين في بولندا قرابة الخمسين ألف، أي ما يعادل نحو 0.13 في المئة من عدد سكان بولندا البالغ 38 مليون نسمة. ويدين نحو 90% من البولنديين بالكاثوليكية، على خلاف الشعوب الأخرى في شرق أوروبا، والتي تدين بالمذهب الأرثوذكسي.
وتضم بولندا واحدة من أقدم المجتمعات الإسلامية الموجودة في أوروبا؛ تتار “الليبكا”، الذين عاشوا منذ القرن الـ 14 في المناطق الحدودية بين ما تعرف حاليا ببولندا وليتوانيا وبيلاروسيا، وهم يتمركزن اليوم بشكل أساسي في بياليستوك، القريبة من ليتوانيا، وفي بلدتي بوهونيكى وكروسزينيان في بياليستوك، بينما يتواجد المسلمون من القوميات والأعراق الأخرى بمعظمهم في العاصمة وارسو.
واستقطبت بولندا منذ مطلع الألفية عددا من الطلاب العرب نتيجة انخفاض تكاليف الدراسة بها مقارنة بدول أوروبية أخرى، كذلك كانت وجهة جاذبة لعدد من رجال الأعمال الراغبين في بدء مشاريع استثمارية لا تتطلب رأس مال كبير.
ووفقًا لموقع Halalfood.pl، الذي يحتوي على قائمة “بالطعام الحلال” في بولندا، يوجد 19 مطعمًا في البلاد مناسب للمسلمين، 18 منهم في وارسو. كما أنهم يدرجون ستة متاجر للأطعمة، ومؤسستين، واثنين من موردي المواد الغذائية، وكلها في وارسو.
أما موقع Halal Trip، وهو منصة إرشادية للمسافرين المسلمين، فهو يسرد تسعة مواقع فقط متوفرة في بولندا. وهذا يشمل المراكز الإسلامية في كراكوف وفروتسواف ووارسو وبوزنان وبياليستوك ولوبلين وكاتوفيتشي والمساجد في غدانسك ووارسو. يُذكر أن المواقع في وارسو هي الأكبر والأكثر حداثة مقارنة بالأماكن الأخرى في جميع أنحاء البلاد.
انتشار الإسلاموية في بولندا
حتى الثمانينيات من القرن الماضي، كان التتار البولنديون عمليًا هم الجالية المسلمة السنية الوحيدة في بولندا. كان – ولايزال- يمثلهم “الاتحاد الديني الإسلامي البولندي” (MZR) الذي تأسس عام 1925، وهو أقدم منظمة إسلامية في بولندا.
بعد سقوط الشيوعية في بولندا عام 1989، وقبلها بقليل، تسللت الإسلاموية بوجهيها السلفي والإخواني إلى البلاد التي أصبحت أكثر انفتاحاً. فنجح التيار الراديكالي السلفي في تصدير مبادئه وأفكاره إلى الداخل البولندي انطلاقاً من ألمانيا، بينما نجحت العناصر المحسوبة على جماعة الإخوان في إنشاء 3 تنظيمات هي: “جمعية الطلاب المسلمين (SSM)عام 1986، و”الجمعية الإسلامية للتربية والثقافة” (MSKK) عام 1996، وأخيراً «الرابطة الإسلامية البولندية» عام 2001، التي تعد اليوم الذراع الرئيسية للإخوان هناك، وهو ما أكدته وكالة الأمن الداخلي البولندي (ABW) ؛ حيث تشغل «الرابطة الإسلامية» عضوية “مجلس مسلمي أوروبا” (“اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا” FIOE سابقاً).
إجمالاً، تأسست بيئة الإخوان في بولندا في أواخر تسعينيات القرن الماضي وأوائل الألفية الجديدة، على يد مجموعة من الطلاب القادمين من الشرق الأوسط، خاصة من الفلسطينيين.
الأسباب الدقيقة لإنشاء منظمات إسلامية منفصلة غير واضحة. يقول بعض الباحثين إن ذلك كان بسبب الاختلافات في فهم وطريقة ممارسة التتار والمهاجرين من الشرق الأوسط للإسلام. يشير آخرون إلى أن العضوية في “الاتحاد الديني الإسلامي البولندي” (MZR) كانت مقتصرة على المواطنين البولنديين وحدهم. قد تكون قضية أخرى هي حقيقة أن MZR لم يُسمح لها بقبول التمويل الأجنبي بموجب قانون عام 1936 الذي ينظم علاقاتها مع الدولة.
واقع الإخوان اليوم
يمثل الجماعة في بولندا “الرابطة الإسلامية” التي تأسست في ابريل 2001 بمبادرة من المسلمين الأجانب والمتحولين إلى الإسلام، وسجلت رسميا في يناير 2004 في “إدارة الأديان والأقليات القومية” بوزارة الداخلية. وتعتبر بـ”رابطة الطلاب المسلمين”؛ وهي تنظيم شبابي للطلبة الإخوان نشأ في بولندا أوائل التسعينيات، هي النواة التي تشكلت من خلالها “الرابطة الإسلامية”.
خلال سنوات نشاطها، أنشأت الرابطة الإسلامية فروعًا في جميع المدن الرئيسية، بما في ذلك وارسو، لودز، كراكوف، كاتوفيتشي، بوزنان، ولوبلين. وفي عام 2010، بدأت الرابطة في بناء أكبر مسجد في البلاد، “المركز الثقافي الإسلامي” في منطقة ويلانوما في وارسو. في هذا المشروع، قررت الرابطة الإسلامية الاعتماد على المانحين الأجانب بدلاً من التمويل الحكومي. المال جاء حينها من جهات سعودية وقطرية وفق العديد من المراجع، الأمر الذي أثار انتقادات واسعة في الشارع البولندي.
شغل الداعية الفلسطيني المحسوب على حركة “فتح”، نضال أبو طبق، منصب “مفتي الرابطة” حتى وفاته أواخر العام 2020 متأثرا بإصابته بفيروس كورونا. بينما يترأس الرابطة منذ سنوات طويلة سامر إسماعيل، وهو طبيب أطفال فلسطيني جاء من الكويت إلى بولندا للدراسة عام 1986، يشغل أيضاً منصب رئيس قسم الأطفال في مستشفى بوفيات.
وتتشابه طرق تحرك شبكة الإخوان في بولندا مع باقي الدول الأوروبية، حيث تعمل «الرابطة الإسلامية البولندية» على استغلال المساجد والمراكز الثقافية لنشر أيديولوجيتها المتطرفة، لكن تحاول عدم لفت الأنظار إليها، من خلال خلق صورة مزيفة لها عبر المشاركة في منتديات حوار الأديان والتكامل الإسلامي في أوروبا.
كما تسعى الرابطة الإسلامية إلى احتكار تمثيل المسلمين أمام السلطات، الأمر الذي أحدث شرخاً عظيماً في صفوف المسلمين، ما بين مسلمين تترين ومسلمين مهاجرين؛ فالتَّتَريون لا يؤمنون بكتابات سيد قطب وغيره من أقطار الفكر الإسلاموي، كما ينتمي جزء مهم من التَّتَريين إلى المذاهب والفرق الشيعية كـ«مذهب الإسماعيلية»، عكس المسلمين المهاجرين الذين ينتمي أغلبهم إلى المذهب السني.
ختاماً يمكن القول إنه وعلى الرغم من أنّ الوجود الإخواني في بولندا لايزال “حديث العهد” ومحدود التأثير مقارنة بدول غرب أوروبا، إلا أن الإمعان يظهر أن الوضع الحالي هو مجرد اختلاف مراحل، فمنظمات الجماعة ببولندا لا تزال في مرحلة “تأسيس الأرضية” التي تجاوزتها في الدول الأوروبية منذ عقود، وفق مراقبين.
كما أنّ ما يعتبره محللون “وجودا محدودا” للجماعة في بولندا اليوم سيتحول في سنوات قليلة إلى شبكة واسعة وقيادات يصعب التعامل معها ومكافحتها مثل ما حدث في دول أوروبا الغربية، خاصة إذا أخذنا بالاعتبار الأهمية المتزايدة لمنطقة البلقان في طريق الهجرة غير الشرعية التي يسلكها مهاجرون غالبيتهم من المسلمين.
مراجع:
- Out of the Spotlight: The Case of Poland – European Eye on Radicalization
- The Muslim Community in Poland Today | Article | Culture.pl
- https://www.katowice.eu/petycje/petycje/Petycja%2014.2016.pdf
- المرجع: بولندا.. البوابة الشرقية للجماعات الراديكالية في أوروبا
- “العين الإخبارية” تفتح ملف الإخوان بأوروبا الشرقية.. بولندا في “خطر”
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مركز أبحاث ودراسات مينا.