ذكرت في مقالتي السابقة أنني سأتناول ثلاث مشاكل أساسية تكمن وراء منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وبدأت بمعالجة الجهل أولاً. الجهل هو الأول بين متساوين، والفقر هو الثاني. وكما ذكرت في مقالتي السابقة، فإن هذه المشاكل الأساسية الثلاث، مثل الأورام السرطانية لا تهدد منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا فحسب، بل جميع البلدان والمجتمعات في العالم. ومما لا شك فيه أن هذه المشاكل الثلاث مترابطة ترابطا وثيقاً، ويكاد يكون من المستحيل إيجاد حلول تعالج واحدة منها فقط.
يمكن تعريف الفقر على أنه مشكلة عالمية تؤثر على اقتصادات الدول وسياستها واستقرارها الاجتماعي، ويمكن أن يكون الفقر مصدراً للاضطرابات الاجتماعية والسياسية، ويقوض الديمقراطية والحكم الرشيد، ويؤدي إلى تفاقم أوجه عدم المساواة داخل البلدان وفيما بينها.
وعلاوة على ذلك، لا يقتصر الفقر على بلد واحد أو منطقة واحدة، بل هو ظاهرة عالمية تؤثر على ملايين الناس في جميع أنحاء العالم. ويتطلب التصدي للفقر نهجاً منسقاً وتعاونياً يشمل الحكومات والمجتمع المدني والقطاع الخاص، داخل البلدان وفيما بينها على حد سواء.
كثيراً ما ينظر إلى الفقر من منظور العلاقات الدولية، ولا سيما في المناطق التي يتركز فيها الفقر وتندر فيها الموارد على أنه محرك للصراع وعدم الاستقرار. ويمكن لمكافحة الفقر أن تساعد على الحد من خطر نشوب الصراعات وتعزيز الاستقرار والرخاء في الأجل الطويل داخل البلدان وفيما بينها على حد سواء.
وللمنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة والبنك الدولي دور هام تؤديه في الكفاح العالمي ضد الفقر من خلال تقديم المساعدة الإنمائية، وتعزيز النمو الاقتصادي الشامل، ودعم نظم الحماية الاجتماعية. ويمكن للمجتمع الدولي من خلال هذه الجهود أن يعمل معاً للقضاء على الفقر وتعزيز التنمية المستدامة والشاملة. وهذا من شأنه أن يقلل من خطر الصراع ويعزز السلام والاستقرار على المدى الطويل.
يعد الفقر أحد أكثر التحديات إلحاحاً التي تواجه منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وله آثار بعيدة المدى وعميقة. والفقر في جوهره إنكار لكرامة الإنسان، مع ما قد يترتب على ذلك من عواقب وخيمة على الفرد والأسرة والمجتمع. و يتسم الفقر في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بعدم الحصول على الضروريات الأساسية مثل الغذاء والماء والرعاية الصحية والتعليم. وقد يؤدي ذلك إلى دورة من الحرمان والإقصاء تحد من فرص التنمية الشخصية والاجتماعية وتديم عدم المساواة الاجتماعية.
وبالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يكون الفقر مصدراً للقلاقل الاجتماعية والسياسية ولعدم الاستقرار والصراع. وبما أن الأشخاص الذين يعيشون في فقر غالباً ما يتم تهميشهم واستبعادهم من العملية السياسية، فإن ذلك يمكن أن يقوض أيضاً الديمقراطية والحكم الرشيد. وهذا يمكن أن يؤدي إلى تفاقم التحديات التي تواجه المنطقة من خلال إدامة دورة الفقر وعدم الاستقرار السياسي.
وبالنسبة للنساء والفتيات اللاتي يواجهن حواجز إضافية أمام التعليم والعمل، فإن آثار الفقر عليهم حادة بشكل خاص. وينطوي ذلك على إمكانية إدامة أوجه عدم المساواة بين الجنسين والحد من فرص التنمية الشخصية والاجتماعية، مما يؤدي إلى تفاقم التحديات التي تواجهها المنطقة.
ولا يزال الفقر يمثل مشكلة خطيرة في المنطقة. اليمن وسوريا ومصر هي البلدان الثلاثة الأكثر تضرراً.
اليمن: تعد اليمن واحدة من أفقر البلدان في العالم مع ما يقدر بنحو 80٪ من السكان يعيشون تحت خط الفقر. وقد خلق الصراع المستمر أزمة إنسانية حيث يحتاج ما يقدر بنحو 24 مليون شخص إلى المساعدة الإنسانية، مما أدى إلى تفاقم الفقر والنزوح.
سوريا: تسبب الصراع في سوريا في ارتفاع معدلات الفقر، حيث يعيش ما يقدر بنحو 80٪ من السكان تحت خط الفقر. وكان الصراع سبباً رئيسياً للنزوح وتعطيل النشاط الاقتصادي مما أدى إلى تفاقم الفقر والتفاوتات الاجتماعية.
مصر: لا يزال الفقر في مصر يمثل تحدياً كبيراً على الرغم من النمو الاقتصادي الأخير، حيث يعيش ما يقدر بنحو 32.5 في المائة من السكان تحت خط الفقر. وهو منتشر بشكل خاص في المناطق الريفية وبين السكان المهمشين مثل النساء والأطفال وكبار السن.
تمتلك العديد من البلدان في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ثروات وموارد كبيرة، بما في ذلك منتجو النفط مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر. وهذا يخلق معضلة ويسلط الضوء على التناقض الصارخ بين الأغنياء والفقراء في المنطقة.
ومن شأن تركيز الثروة في أيدي نخبة صغيرة أن يؤدي إلى تفاقم التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية، والحد من فرص التنمية الشخصية والاجتماعية، وإدامة الفقر والاستبعاد، كما يمكن أن يثير الاستياء والقلاقل الاجتماعية لأن أولئك الذين يعيشون في فقر يشعرون بأنهم متخلفون عن الركب ومهمشون.
وعلاوة على ذلك، في حين أن ثروة الموارد الطبيعية يمكن أن تكون مصدراً هاماً للإيرادات بالنسبة للحكومات فإنها يمكن أيضاً أن تخلق الاعتماد على صناعة واحدة، مما يحد من التنويع الاقتصادي ويترك البلدان عرضة للتقلبات في أسعار السلع الأساسية.
ومفتاح معالجة هذه المعضلة هو تعزيز النمو الاقتصادي الشامل والحد من عدم المساواة، سواء داخل بلدان المنطقة أو فيما بينها. ويستلزم ذلك تعزيز التنويع الاقتصادي والاستثمار في أنظمة التعليم والرعاية الصحية وغيرها من أنظمة الحماية الاجتماعية لتمكين الجميع من الحصول على الخدمات الأساسية وفرص التنمية الشخصية والمجتمعية.
ومن المهم أيضاً تعزيز الحكم الرشيد بما في ذلك الشفافية والمساءلة، لضمان استخدام الموارد بفعالية وكفاءة لدعم التنمية والحد من الفقر. ويستلزم ذلك تعزيز الممارسات الديمقراطية، والنهوض بسيادة القانون، ومكافحة الفساد للتأكد من أن جميع الناس لديهم صوت في العملية السياسية وأن الموارد موزعة بشكل عادل وفعال.
من المعقول التشكيك في جدوى الحلول للتحديات التي تواجه منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ومع ذلك من المهم ملاحظة أن تقدماً قد أحرز في عدد من المجالات في السنوات الأخيرة، وهناك عدة أمثلة لفرادى البلدان في المنطقة التي أحرزت تقدماً كبيراً في الحد من الفقر وتعزيز التنمية.
على سبيل المثال تم القيام باستثمارات كبيرة في البنية التحتية والتعليم والرعاية الصحية ففي الإمارات العربية المتحدة، مما أدى إلى تحسينات كبيرة في مؤشرات التنمية البشرية. و في المغرب نفذت الحكومة برامج الحماية الاجتماعية والإعانات المستهدفة لدعم الفئات السكانية الأكثر ضعفاً.
تعمل العديد من المنظمات والمبادرات بما في ذلك برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والبنك الدولي والمنظمات الإقليمية مثل جامعة الدول العربية، على تعزيز التنمية والحد من الفقر في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
وبينما يجب التصدي لتحديات مثل عدم الاستقرار السياسي والتقلب الاقتصادي والتوترات الاجتماعية، من المهم الاعتراف بأن التقدم ممكن وأن الحلول موجودة. وسيتطلب الأمر جهوداً متضافرة والتزاماً طويل الأجل من الحكومات والمجتمع المدني والقطاع الخاص داخل المنطقة وخارجها، للحد من الفقر وتعزيز التنمية المستدامة والشاملة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ولكن من الممكن دفع التغيير الإيجابي والحد من الفقر وعدم المساواة في المنطقة من خلال السياسات والاستثمارات الصحيحة.
فيما يلي بعض الأمثلة والحلول لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا:
تعزيز التنويع الاقتصادي: يعتمد العديد من بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على الموارد الطبيعية مثل النفط والغاز، مما قد يؤدي إلى تقلبات اقتصادية وفرص محدودة للعمل وريادة الأعمال. ويمكن للحكومات الوطنية أن تستثمر لتعزيز التنويع الاقتصادي، ومساعدة الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم، وتهيئة بيئة مواتية لتنمية القطاع الخاص. وقد يشمل ذلك تطوير البنية التحتية، وتشجيع الابتكار والتكنولوجيا، والاستثمار في التعليم والتدريب لبناء قوة عاملة مؤهلة.
تعتمد المملكة العربية السعودية على سبيل المثال بشكل كبير على صناعة النفط والغاز، والتي تمثل حوالي 50٪ من الناتج المحلي الإجمالي و 90٪ من عائدات التصدير. شرعت الحكومة السعودية في خطة طموحة للتنويع الاقتصادي تسمى رؤية 2030 ، والتي تهدف إلى تقليل اعتماد البلاد على النفط والغاز، وتشجيع تنمية القطاع الخاص، وخلق وظائف جديدة للمواطنين السعوديين. وتتضمن الخطة أيضاً مبادرات لتعزيز السياحة والطاقة المتجددة والخدمات اللوجستية، فضلا عن الاستثمار في التعليم وتنمية مهارات القوى العاملة.
الاستثمار في الحماية الاجتماعية: يمكن أن تساعد أنظمة الحماية الاجتماعية في الحد من الفقر وعدم المساواة من خلال توفير شبكة أمان للفئات الأكثر ضعفاً، من خلال التحويلات النقدية والمساعدات الغذائية والتأمين الصحي. ويمكن للحكومات الوطنية أن تستثمر لتعزيز أنظمة الحماية الاجتماعية، وتوجيه الموارد إلى المحتاجين، وضمان التخطيط الجيد لهذه البرامج وتنفيذها بفعالية.
تواجه البلاد أزمة اقتصادية ومالية على سبيل المثال في لبنان منذ عام 2019، و تفاقمت بسبب جائحة كوفيد-19 والانفجار في بيروت في أغسطس 2020. وقد أدى ذلك إلى تفشي الفقر وانعدام الأمن الغذائي، حيث يعيش ما يقدر بنحو 55٪ من السكان تحت خط الفقر. و أطلقت الحكومة اللبنانية والمنظمات الدولية برامج الحماية الاجتماعية مثل التحويلات النقدية والمساعدات الغذائية لدعم السكان الضعفاء. ومع ذلك هناك حاجة إلى مزيد من الاستثمار في الحماية الاجتماعية لتلبية الاحتياجات المتزايدة للسكان.
معالجة عدم المساواة بين الجنسين: يمثل عدم المساواة بين الجنسين تحدياً كبيراً في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ويمكن أن يساهم في انتشار الفقر والتهميش. وينبغي للحكومات الوطنية أن تستثمر في دعم الاستقلال الاقتصادي للمرأة، وتعزيز فرص الحصول على التعليم والرعاية الصحية، والقضاء على القوانين والأعراف الاجتماعية التمييزية. ويمكن أن يشمل ذلك وضع سياسات وبرامج تشجع ريادة الأعمال النسائية ومشاركتها في القوى العاملة، ودعم مشاركة المرأة في القيادة السياسية والاقتصادية، والاستثمار في تعليم الفتيات.
أحرزت تونس على سبيل المثال تقدماً كبيراً في تعزيز المساواة بين الجنسين، حيث زادت مشاركة المرأة في القوى العاملة من 22 في المائة في عام 2000 إلى 26 في المائة في عام 2018. ومع ذلك لا يزال العنف والتمييز القائمان على نوع الجنس يشكلان تحديين رئيسيين. وقد اضطلعت الحكومة بعدد من السياسات والبرامج لدعم المساواة بين الجنسين، مثل سن قانون جديد بشأن العنف ضد المرأة، واستحداث آلية للميزنة الجنسانية، وإطلاق استراتيجية وطنية للمساواة بين الجنسين. ومع ذلك، هناك حاجة إلى مزيد من الاستثمار في تعليم المرأة وتنمية مهاراتها، فضلا عن اتخاذ تدابير للقضاء على الأعراف والقوالب النمطية الاجتماعية التمييزية.
تعزيز الحوكمة والمؤسسات: يمكن أن يؤدي ضعف الحوكمة والمؤسسات إلى الفساد، وعدم كفاءة الاقتصادات ومحدودية المساءلة مما يمكن أن يؤدي إلى تفاقم الفقر والإقصاء. ويمكن للحكومات أن تستثمر في تحسين الحكم والمؤسسات، وزيادة الشفافية والمساءلة، وتعزيز إشراك المواطنين ومشاركتهم. ويمكن أن يشمل ذلك صياغة سياسات لمكافحة الفساد، وتيسير البيانات المفتوحة والوصول إلى المعلومات، وبناء قدرات الموظفين العموميين ومنظمات المجتمع المدني.
وعلى سبيل المثال لا تزال التحديات المتعلقة بالفساد وضعف المؤسسات ومحدودية مشاركة المواطنين قائمة في مصر التي شهدت تغييرات سياسية واقتصادية كبيرة منذ ثورة 2011. وقد أطلقت الحكومة المصرية عدداً من المبادرات لمواجهة هذه التحديات، بما في ذلك إنشاء الأكاديمية الوطنية لمكافحة الفساد، وإدخال خدمات الحكومة الإلكترونية، واعتماد قانون جديد للاستثمار. ومع ذلك هناك حاجة إلى مزيد من الاستثمار لتعزيز سيادة القانون، وتعزيز الشفافية والمساءلة، وزيادة مشاركة المواطنين ومشاركتهم.
معالجة الصراع والهشاشة: يمثل الصراع والهشاشة تحديين رئيسيين في أجزاء كثيرة من منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ويمكن أن يؤديا إلى الفقر والإقصاء. وينبغي للحكومات أن تستثمر في تعزيز السلام والاستقرار ومعالجة الأسباب الجذرية للصراع ودعم السكان المتضررين من الصراع.
واجهت سوريا على سبيل المثال نزاعاً مطولاً منذ عام 2011، مما أدى إلى نزوح السكان على نطاق واسع، وتدمير البنية التحتية، وتفاقم الأزمة الإنسانية. ويقدم المجتمع الدولي دعما كبيراً لمعالجة الأزمة، بما في ذلك المساعدة الإنسانية والمساعدة الإنمائية ومبادرات بناء السلام. ومع ذلك هناك حاجة إلى استثمارات إضافية لتقديم المساعدة للاجئين والمجتمعات المضيفة، وتشجيع الحوار السياسي والمصالحة، ومعالجة الأسباب الكامنة وراء الصراع، مثل عدم المساواة والإقصاء.
هذه مجرد أمثلة قليلة على حلول محددة يمكن تخصيصها لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. والمفتاح هو وضع حلول محددة السياق، مع مراعاة التحديات والفرص الفريدة التي يواجهها كل بلد في المنطقة.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مركز أبحاث ودراسات مينا.