نحن نعيش في عالم تهيمن عليه المفاهيم التي يفرضها الفهم الأنجلوساكسوني للعالم، حيث ان أهم مؤشر على ذلك هو الأسماء التي تعطى للمناطق الجغرافية، فعلى سبيل المثال في حين أن المنطقة التي نسميها الآن الشرق الأوسط هي الغرب الأدنى للهند، وإن المنطقة التي تسمى الشرق الأقصى قد تسمى الشرق الأدنى لباكستان. لكن تسمية هذه المناطق نشأت خلال فترة باكس بريتانيكا للإمبراطورية البريطانية وأصبحت شائعة في ظل الهيمنة الأنجلوساكسونية للعلاقات الدولية.
ومع ذلك يمر العالم الآن بتحول كبير، فبينما نشهد فجر آسيا وصعود الصين، قد تتغير نظرتنا إلى الجغرافيا. وقد يؤدي هذا النموذج الجديد المتمحور حول شرق آسيا إلى تسمية المنطقة التي نسميها الشرق الأوسط اليوم بالغرب الأوسط في المستقبل القريب.
أصبحت علامات هذا النظام العالمي الجديد أكثر وضوحاً مع وساطة الصين الناجحة في استعادة العلاقات الدبلوماسية بين المملكة العربية السعودية وإيران. حيث كانت المشاكل بين الدولتين مصدراً للتوتر في الشرق الأوسط لسنوات عديدة. وبفضل الصين يبدو أن المشاكل بين البلدين تقترب من الحل. وأخيراً اجتمع وزيرا خارجية الدولتين في بكين، وبدأ عهد جديد تماما للشرق الأوسط مع إعادة العلاقات الدبلوماسية. دعونا نلقي نظرة على الأسباب الرئيسية للمشاكل بين الدولتين.
مصادر الصراع
تعد المملكة العربية السعودية وإيران قوتين رئيسيتين في الشرق الأوسط، مع تاريخ طويل من التنافس السياسي والاقتصادي والديني ويكمن وراء هذه الاختلافات مزيج معقد من العوامل، بما في ذلك المصالح الإيديولوجية والجيوسياسية والاقتصادية.
تشمل مجالات الصراع الرئيسية بين المملكة العربية السعودية وإيران ما يلي.
النفوذ والقوة الإقليمية: المملكة العربية السعودية وإيران هما القوتان الرئيسيتان في الشرق الأوسط وتتنافسان مع بعضهما البعض على النفوذ والقوة الإقليمية، وقد نتجت عن هذه المنافسة الصراعات والحروب بالوكالة في اليمن وسوريا والعراق.
الانقسام الطائفي: المملكة العربية السعودية دولة سنية في الغالب، في حين أن إيران دولة ذات أغلبية شيعية. وقد ساعد هذا الانقسام الديني في تأجيج التنافس بين الاثنين، حيث يتهم كل منهما الآخر بتهديد طائفتيهما.
المصالح الاقتصادية: تعد كل من المملكة العربية السعودية وإيران من الدول الرئيسية المنتجة للنفط، فهم يتنافسون من أجل السيطرة على أسواق النفط، وكانت هذه المنافسة مصدراً للتوتر الاقتصادي بين البلدين.
الأيديولوجية السياسية: إيران جمهورية إسلامية ذات ثيوقراطية شيعية، في حين أن المملكة العربية السعودية ملكية سنية محافظة. وقد ساهمت هذه الاختلافات في الأيديولوجية السياسية في التنافس بين البلدين.
السياسة الخارجية: لدى المملكة العربية السعودية وإيران أولويات ونهج مختلفين للسياسة الخارجية. في حين أن إيران لديها سياسة خارجية أكثر استقلالية وينظر إليها على أنها قوة إقليمية، فإن المملكة العربية السعودية متحالفة بشكل وثيق مع الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى. وقد أدت هذه الخلافات إلى صراعات وتوترات بين البلدين.
انخرطت المملكة العربية السعودية وإيران في سلسلة من الصراعات والحروب بالوكالة في جميع أنحاء الشرق الأوسط على مدى العقود العديدة الماضية. كان التنافس على النفوذ والقوة الإقليميين مصدراً رئيسيا للصراع. حيث تسعى المملكة العربية السعودية باحتياطياتها النفطية الهائلة وموقعها الاستراتيجي في المنطقة إلى تحقيق موقعها المهيمن في المنطقة. سعت إيران من ناحية أخرى إلى تحدي هيمنة المملكة العربية السعودية وترسيخ نفسها كقوة إقليمية.
كان الصراع السعودي الإيراني حاداً بشكل خاص في اليمن وسوريا والعراق. ففي اليمن يقاتل التحالف الذي تقوده السعودية المتمردين الحوثيين المدعومين من إيران. وقد أدى الصراع إلى أزمة إنسانية وقتل آلاف الأشخاص وشرد الملايين. وفي سوريا كانت إيران مؤيدة لحكومة الرئيس بشار الأسد، في حين كانت المملكة العربية السعودية داعمة لقوات المعارضة. وفي العراق اتهمت إيران بدعم الميليشيات الشيعية التي استهدفت المجتمعات السنية.
انخرطت المملكة العربية السعودية وإيران في حرب كلامية ودعاية بالإضافة إلى هذه الصراعات الإقليمية. واتهم البلدان بعضهما البعض بأنهما راعيان للإرهاب ومزعزعان استقرار المنطقة، كما اتخذ التنافس أبعادا طائفية، حيث اتهم كل منهما الآخر بتهديد طوائفه.
كانت هناك بعض الخطوات المبدئية نحو المصالحة في السنوات الأخيرة قبل الوساطة الصينية. حيث أجرت المملكة العربية السعودية وإيران محادثات في بغداد في عام 2019. وناقش الجانبان القضايا ذات الاهتمام المشترك بما في ذلك الأوضاع في العراق واليمن. وينظر إلى هذه المحادثات على أنها خطوة إيجابية في تخفيف حدة التوتر بين البلدين.
علاقات الدولتين مع الصين
تتمتع المملكة العربية السعودية وإيران بعلاقات مهمة مع الصين، التي برزت كلاعب اقتصادي وسياسي رئيسي في الشرق الأوسط في السنوات الأخيرة. ومع ذلك فإن علاقتهم مع الصين تختلف بعدة طرق.
كانت للمملكة العربية السعودية علاقات اقتصادية وثيقة مع الصين لا سيما في قطاع الطاقة، فالصين هي أكبر مستورد للنفط السعودي واستثمرت بكثافة في البنية التحتية للطاقة في المملكة العربية السعودية. سعت المملكة العربية السعودية في السنوات الأخيرة إلى تعميق علاقاتها السياسية والعسكرية مع الصين لتقليل اعتمادها جزئياً على الولايات المتحدة. وفي عام 2017 وقعت المملكة العربية السعودية والصين مذكرة تفاهم للتعاون الاستراتيجي والتي تضمنت اتفاقيات في مجالات الطاقة والتجارة والاستثمار. كما انضمت المملكة العربية السعودية إلى مبادرة الحزام والطريق الصينية، وهي مشروع ضخم لتطوير البنية التحتية يهدف إلى ربط الصين بالأسواق في جميع أنحاء العالم.
كما تتمتع إيران بعلاقات اقتصادية مهمة مع الصين وخاصة مع قطاع الطاقة. والصين هي أكبر شريك تجاري لإيران وكانت مشترياً رئيسيا للنفط الإيراني على الرغم من العقوبات الأمريكية. سعت إيران إلى تعميق علاقاتها الاقتصادية مع الصين في السنوات الأخيرة، لا سيما في ضوء عزلتها المتزايدة عن الولايات المتحدة وأوروبا. وقعت الصين وإيران في عام 2021 اتفاقية تعاون استراتيجي مدتها 25 عاماً تضمنت اتفاقيات بشأن الطاقة والبنية التحتية والتجارة. وينظر إلى الاتفاق على أنه دفعة كبيرة للاقتصاد الإيراني وإشارة إلى نفوذ الصين المتزايد في المنطقة.
ومع ذلك، فإن علاقة الصين مع المملكة العربية السعودية وإيران معقدة بسبب عدة عوامل. حيث إن أحد التحديات الرئيسية هو تحقيق التوازن في علاقاتهما مع كلا البلدين اللذين غالباً ما يكونان في صراع. سعت الصين إلى الحفاظ على علاقات جيدة مع كل من المملكة العربية السعودية وإيران من خلال البقاء على الحياد بشأن صراعاتهما الإقليمية. ومع ذلك أصبح هذا الأمر صعباً بشكل متزايد في السنوات الأخيرة مع تصاعد التوترات بين البلدين.
التحدي الآخر الذي يواجه الصين هو تحقيق التوازن بين مصالحها الاقتصادية والأولويات السياسية والاستراتيجية. كانت الصين حريصة على عدم الانحياز إلى أي طرف في الصراعات بين المملكة العربية السعودية وإيران، ويرجع ذلك إلى أنها لا تريد تعريض مصالحها الاقتصادية في أي من البلدين للخطر. ومع هذا فقد أدى ذلك إلى انتقادات من كلا الجانبين، حيث اتهم كل منهما الصين بتفضيل الآخر.
وكما يمكن أن نرى، فإن هذه الصعوبات بين الدولتين الأكثر أهمية في منطقة ذات أهمية استراتيجية للصين خلقت تحديات لأهداف الصين في الأجلين المتوسط والطويل. في الواقع لن يكون من الخطأ أن نزعم أن مصالح الصين هي السبب في جهودها لاستعادة العلاقات بين الدولتين. والعامل الاخر هو الموقع الجغرافي ودور هذين البلدين في مبادرة الحزام والطريق، وهي المبادرة الدولية الرئيسية للصين.
تعد كل من المملكة العربية السعودية وإيران شريكين مهمين في مبادرة الحزام والطريق الصينية (BRI)، وهو مشروع ضخم لتطوير البنية التحتية يهدف إلى ربط الصين بالأسواق في جميع أنحاء العالم. ومع ذلك فإن أدوارهم في هذه المبادرة تختلف بعدة طرق.
كانت المملكة العربية السعودية شريكاً رئيسياً لمبادرة الحزام والطريق منذ إنشائها في عام 2013. وقد حددت الصين المملكة العربية السعودية كمركز حاسم للمبادرة نظراً لموقعها الاستراتيجي بين أوروبا وآسيا وأفريقيا ومكانتها كأكبر مصدر للنفط في العالم. استثمرت الصين بكثافة في البنية التحتية للطاقة في المملكة العربية السعودية، بما في ذلك بناء مصافي النفط ومصانع البتروكيماويات، كما انضمت المملكة العربية السعودية إلى مبادرة الحزام والطريق لتنويع اقتصادها وتقليل اعتمادها على صادرات النفط.
وبشكل عام لعبت كل من المملكة العربية السعودية وإيران أدواراً مهمة في مبادرة الطريق، مما يعكس مواقعهما الاستراتيجية ومواردهما الطبيعية الهامة. وعلى الرغم من أن علاقة الصين مع إيران قد تعقدت بسبب العقوبات الأمريكية، إلا أنها استمرت في البحث عن فرص للتعاون الاقتصادي مع كلا البلدين كجزء من جهودها الأوسع لتوسيع نفوذها العالمي.
نجاح الصين: العواقب المحتملة
لا شك أن نجاح الصين في إقامة هذه العلاقة المهمة والمستعصية يعد إنجازاً مهماً، وبهذه الطريقة أثبتت الصين قدرتها على لعب دور مهم في حل المشاكل الدولية. ومن المحتمل أن تلعب الصين دوراَ نشطاَ في محاولة حل الأزمة الأوكرانية في الأيام والأسابيع المقبلة. ومما لا شك فيه أن كل هذه التطورات سيكون لها تأثير سلبي على الدور المهيمن للولايات المتحدة في المنطقة، حيث أصبحت يد الصين أقوى من أي وقت مضى في منافسة القوى العظمى بين الولايات المتحدة والصين. لطالما كانت منطقة الشرق الأوسط (أو الغرب الأوسط) تمتلك القوة وتتمتع بميزة في تاريخ العالم في قلب السياسة العالمية، وستظهر السنوات القادمة بشكل أكثر وضوحاً إلى أي جانب هي الأفضلية.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مركز أبحاث ودراسات مينا.