الملخص التنفيذي:
إلغاء الآخر، والثقافة الطائفية؛ من أهم عوامر تدمير أي دولة ومجتمع؛ مهما كان متماسكاً، وبما أننا ندعو لتشكيل سوريا المستقبل كبلد؛ المواطنة عنوانها؛ والإنسانية سلوكها؛ والعدالة والمساواة ميزان تقيِّمها الوطني؛ لا بد أن نقدم خارطة طريق للخروج من نفق الطائفية؛ إذ إن المجتمعات الغربية على تنوع أعراقها وأديانها تخلصت من الطائفية؛ فنهضت وتحضرت، في حين لانزال نخوض في وحل الثقافة الطائفية. تحاول هذه الورقة تقديم خارطة طريق للخلاص من الطائفية؛ من خلال المحاور التالية.
المحاور:
- المدخل
- سُبل حداثية للخلاص من الطائفية!
- السبيل الأول: الإنسانية!
- السبيل الثاني: الانتقال من الجماعة إلى المجتمع!
- السبيل الثالث: ثقافة المجتمع المدني ومؤسساته
- السبيل الرابع: لا امتياز ولا استثناء لمكوّن على آخر!
- السبيل الخامس: الإيمان بتيار النقاط البيضاء؟
- السبيل السادس: منهج تربوي حديث؟
- السبيل السابع: اللاهوت السوري؟
- التوصية
المدخل:
دائمًا الأزمات الكبرى التي تعصف بالمجتمعات؛ تُخْرِج ما كان موجودًا خلف الكواليس الاجتماعية؛ لتضعها على طاولة البحث والدراسة؛ لتقوم النخب الوطنية المتخصصة بتشريحها؛ ودراستها؛ ووضع العلاج المناسب لها.
ومن أهم تلك المشاكل التي عصفت بالمجتمع السوري خلال الانتفاضة السورية ـــ أو سمها ما شئت ـــ ثقافة الطائفية وسلوكها الإلغائي تجاه الآخر، ولا يمكن أن نمارس دور النعامة لنقول: إن الخطاب الطائفي وُلِدَ مع اندلاع الثورة. فهذا ليس صحيحًا؛ ولكن هذا الخطاب تفاقم وتورم بعد أن تحولت الانتفاضة إلى حالة متعسكرة، وصلت إلى حد الحرب الأهلية ــ كما في توصيف الأمم المتحدة ــ فكان الخطاب الطائفي من كل الأطراف المتصارعة نوعًا من أنواع الدعوة للتكوُّر الطائفي؛ لكون كل فريق ادعى أنه سيُسْتَأصل صفريًا من قبل الطرف الآخر، فنجح الخطاب الطائفي عند ثلة لا بأس بها من الأطراف كافة؛ لتتشكل ثقافةٌ طائفية عند غالبية الأطراف المتصارعة؛ وليتكون سلوك طائفي وصل حتى التوحش؛ ساهمت الأشرطة المصورة في تعذيب المنتفضين بطريقة طائفية؛ التي سُربت عن عمد في تأجيج الخطاب ثم السلوك الطائفي.
وبما أننا ندعو لتشكيل سوريا المستقبل؛ كبلد المواطنة عنوانها؛ والإنسانية سلوكها؛ والعدالة والمساواة ميزان تقيِّمها الوطني؛ لا بد أن نقدم خارطة طريق للخروج من نفق الطائفية؛ الذي دفع بأصوات تعلو قائلة إننا وصلنا إلى نقطة اللاعودة طائفيًا، ورغم إن هذه النقطة ليست إلا دعوة لليأس؛ وبالتالي دمار سوريا؛ وفناء مجتمعاتها؛ فإننا نجد كتيار تنويري أنه بالإمكان تجاوز نفق الطائفية؛ والعبور من سلوكها اللا إنساني واللا وطني؛ ولكن هذا يحتاج إلى عمل دؤوب تقوم به النخب المثقفة؛ لترسم خارطة العبور نحو وطن المواطنة؛ ويعمل سياسيو الوطن على تحويلها إلى استراتيجية عمل من خلال قوانين تُسَنُّ؛ حتى يطمئن كل مكون ويهجر تخوفه من الآخر، ليعيش الجميع بسلام وأمان متجاوزين ثقافة الطائفية وسلوكها.
وصايا حداثية للخلاص من الطائفية!
هناك عدة وصايا نحاول تقديمها في هذه الورقة؛ لعل صانع القرار في سوريا المستقبل؛ يعمل إلى تحويلها كسياسة مجتمع؛ واستراتيجية يجب الوصول إليها؛ وتشمل:
السبيل الأول: الإنسانية!
أعظم ما في القرآن الكريم أنه بدأ باسم الله (بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ) وانتهى باسم الإنسان (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) فإنْ يكن المبتدأ اسم الله والمنتهى الإنسان؛ تكن شريعة الدين الحنيف ـــ وليس الدين الموازي ــ كلها في خدمة المجتمع أي الإنسان، وكل ما هو ضد الإنسانية فرسالات السماء بريئة منه؛ وهو منحول عليها.
إننا نعاني من خواء إنساني! ساعد كثيرًا الخطاب والسلوك الطائفي بالتمدد اجتماعيًا، ولقد تنازعت البشرية منذ بدء الخليقة ثقافتان الثقافة الإبليسية والثقافة الإنسانية، الثقافة الإبليسية تقوم على العنصرية الطائفية أو القومية (أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ) والثقافة الإنسانية في الدين الحنيف قامت على (كلكم لآدم؛ كلكم أخوة) ([1]) وما لم تتخلص مجتمعاتنا من الصراع الطائفي والمكوناتي القائم على الثقافة الإبليسية (نحن خير من الآخرين) فلن تقوم لنا قائمة.
إن المجتمعات الغربية على تنوع أعراقها وأديانها تخلصت منها؛ فنهضت وتحضرت، في حين لانزال نخوض في وحل الثقافة الإبليسية ونعتقد أننا أفضل من الآخرين؛ لتغدو كل مجموعة أو طائفة؛ تعتقد أنها الفرقة الناجية والطائفة المنصورة. وإذا بقينا متمسكين بالثقافة الإبليسية؛ فكلنا خاسرون.
فالخيرية تتمثل فيك وفي أي طائفة بمقدار ما تقدمه من نفع وخير لأبناء المجتمع كلهم، لذلك جاء قوله تعالى في سورة الحجرات نافيًا الثقافة الإبليسية: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ”
يتحدث المفكر المغاربي “المهدي المنجرة” عن أسس بناء النهضة فيقول: “عندما أراد الصينيون القدامى أن يعيشوا في أمان، بنوا سور الصين العظيم، واعتقدوا بأنه لا يوجد من يستطيع تسلقه لشدة علوه. ولكن! خلال المائة سنة الأولى بعد بناء السور تعرضت الصين للغزو ثلاث مرات! وفي كل مرة لم تكن جحافل العدو البرية في حاجة إلى اختراق السور أو تسلقه! بل كانوا في كل مرة يدفعون للحارس الرشوة ثم يدخلون عبر الباب. لقد انشغل الصينيون ببناء السور ونسوا بناء الحارس”!
فبناء الإنسان يأتي قبل بناء كل شيء، فالتنمية تبدأ بالإنسان وللإنسان ومن أجله.
السبيل الثاني: الانتقال من الجماعة إلى المجتمع!
رغم أن الدول الحديثة قطعت شوطًا طويلًا في انتقالها من الجماعات إلى المجتمع؛ بعد أن تعلمت من الدرس؛ ولكن يبدو أننا لم نتعظ من دروس التاريخ ولا عِبر الأمم الأخرى، فها هي أوروبا التي يموت أبناؤنا في قوارب الموت من أجل الصول لها؛ ليعيشوا بأمانها؛ لم تصل إلى ما هي عليه من تطور وتقدم ونهضة إلا بعد أن وعت أنّ الإنسانية سبيل النهضة؛ وأنّ المجتمع أهم من الجماعة.
وأطول معركة في التاريخ كانت المعارك الطائفية في أوروبا، فحرب الثمانين عامًا كانت بينَ إسبانْيا وهولنْدا، حتى جاءت اتفاقية “ويستڤاليا” وهي أولَ اتفاقيّة دبلوماسيّة في العصر الحديث؛ أرست نظامًا جديدًا يقوم على المجتمع لا على الجماعة الطائفية أو العرقية، وأنهت معها حرب الثلاثين عامًا بعد مفاوضات في كلٍّ منْ مدينتي “أوسنابروك” (Osnabrück) التي باتت تلقبُ بمدينةِ السلامِ منْ بعدُ، و”مونسترَ” (Münster) وتمَّ التوقيعُ عليهِما في 15 مايو/أيار لعام 1648م و24 أكتوبر/تشرينَ الأولِ 1648م.
إنّ التطور الحقيقي إنسانيًا واجتماعيًا هو الانتقال من الجماعة إلى المجتمع؛ أي الانتقال من الولاء والبراء الطائفي؛ إلى الولاء والبراء الإنساني والمواطِني، وبهذا تتشكل الدولة الحديثة، فالمجتمع فيها مرجعه الدستور، وشرعته القانون المنبثق عنه، ولا شيء يعلو على دستورها وقانونها، ومن يقدم طائفته على ذلك؛ فهو ما يزال يمارس ثقافة الجماعة؛ ويرفض ثقافة المجتمع.
ولكوننا لم ندرك أن الدولة الحديثة هي تطور من الجماعة إلى المجتمع؛ ما نزال نقدس الطائفية؛ ونجلُّ العشائرية والقبلية! ونلوذ بالحزبية! وهذه وسائل للتراحم لا تتفاخر ولا لبناء مجتمع. ولهذا ستبقى في أخلاقنا مظاهر الإكراه والتكفير والاتهامات باقية؛ كعقبة في انتاج المجتمع. إن ثقافة الولاء للجماعة/الطائفة؛ يهدم الدولة والمجتمع؛ والولاء والبراء الطائفي أحد أخطر الجرائم المسكوت عنها في المجتمع السوري.
السبيل الثالث: ثقافة المجتمع المدني ومؤسساته
لا يمكن أن تمر الوصيتان السابقتان؛ وتتجذر في المجتمع؛ إن لم نؤمن بثقافة المجتمع المدني ومؤسساته؛ لأن ثقافته وبرامج عمله قادرة على دمج أبناء الطوائف في ورشات عمل مختلفة؛ يهجرون فيها ولاءهم الطائفي باتجاه ولاء وطني إنساني يجمعهم بينهم لحل مشاكلهم.
وتستطيع ثقافة المجتمع المدني أن تُذيب الفوارق والمشاحنات الطائفية؛ عندما توضع مناهج حديثة ذات سياسة إنسانية مواطِنِية، لقد راقب “الكسيس توكفيل” المجتمع الأمريكي أثناء الحرب الأهلية؛ فوجد أن الهموم المعاشية ومستقبل الأطفال؛ وتأسيس مجتمعات مدنية بعيدًا عن الحرب وولاءات كل تجمع عرقي أو ديني هو السبيل؛ فنشأت فكرة المجتمع المدني؛ وأسست لمجتمع أمريكي؛ استطاع فيما بعد أن يكون أرض الأحلام لكل المضطهدين بالعالم؛ وليكون المجتمع الأمريكي بعد أن تخلص من ثقافة الحرب، الدولة الأولى عالميًا بلا منافس في المجالات كلها. وأرّخ كل ذلك في كتابه “الديمقراطية في أمريكا”. نشره عام ١٨٣٥؛ حيث قام بوصف الأمريكيين وهم يتجمعون لإنشاء مؤسسات مجتمع مدني تحفظ هوية بلادهم الأصلية، وسجل إعجابه بهذا النوع من العمل المدني؛ ودعا الديمقراطية الأوروبية الوليدة لتتعلم قواعد هذا العلم؛ ومنه نشأت فكرة المجتمع المدني. ([2])
ورغم نتوءات العنصرية البيضاء ضد الملَوّنين؛ التي مازالت حتى يومنا هذا؛ ولكن المجتمع الأمريكي المتأسس من خلال منظمات المجتمع المدني؛ تجاوز بقوانينه وشرعته الطائفية الدينية والعرقية؛ ونهض بقوة.
وولّدت ثقافةُ المجتمع المدني وسيادة القانون فكرًا حرًا نهض بأمريكا؛ وهذا ما نادى به فيلسوف التنوير الأمريكي “توماس بين” عند كتابة دستور أمريكا قائلًا: عندما تطرق النهضة باب أمة من الأمم؛ تسأل: أهنا فكر حر؟ فإن وجدته دخلت. وإلا ستمضي.
ولابد ونحن نتكلم عن مؤسسات المجتمع المدني أن نطالب بإدراج المؤسسات الدينية؛ ضمن صلاحياته؛ وتكون غير تابعة للنظام الحاكم، حتى لا يستخدمها طائفيًا في صراعاته السياسية من جهة؛ ولا يعمل على لعبة التناحر فيما بينها؛ كما تفعل الأنظمة الحاكمة في شرقنا البائس، وبالتالي تتكون مؤسسة دينية من المراجع الدينية المختلفة لكل الطوائف؛ تعمل على نبذ السلوك الطائفي؛ لتجرَّمه السلطة التشريعية بعقوبات صارمة، وتتوقف نغمة التكفير والتفسيق والهرطقة من طائفة ضد طائفة أخرى، فالخلق كلهم عيال الله؛ أقرب إليه أنفعهم لعيالهم. والطريق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق.
السبيل الرابع: لا امتياز ولا استثناء لمكوّن على آخر!
الدولة الحديثة ليست هويتها دينية ولا طائفية، فالهوية في دولة ما؛ تتجلى فيها سمات تميزها عن سواها، وينتمي أبناء الوطن كلهم إليها، ويعتزون بها، ولها عناصر تحددها كالموقع الجغرافي، والتاريخ المشترك، والعملة المشتركة، والعَلَم، والحقوق ذاتها، والواجبات عينها، مما يجعل الجميع خاضعين لقانونها العام؛ ومدافعين عن أرضها، ولو تشتت هذا السمات ستنهار الوحدة الوطنية، ونغدو شعوبًا لا شعبًا واحدًا. نعم؛ إنّ الدراسات السوسيولوجيا تؤكد أن لكل جماعة هوية توضحها خصائص تاريخية واجتماعية ودينية تعبر عنهم؛ ولكن في الدولة المؤلف شعبها من مكونات متعددة؛ عندما نجعل لها هوية ترمز لمكون واحد من مجموع المكونات؛ لتميزه دستوريًا على الآخرين، هنا تصبح هوية الدولة حالة استعلائية لهذا المكون على الآخرين، وبالتالي تتهافت كل مقولات المواطنة؛ ويضعف الانتماء الوطني، وهذه عقبة تعرقل تحقيق المشروع الوطني، واستقرار الدولة. ([3])
إنّ الطائفية تأدلجت خلال القرن الماضي بعد قوننة نظام الملل العثماني؛ ثم ساهم الاستعمار الفرنسي في حدِّتها عندما حاول تقسيم سورية على أساس طائفي؛ ثم تمت أدلجتها بطريقة خبيثة، حتى توالد منها العمى الطائفي المؤدلج؛ فالطائفية كما أسلفنا لا مانع منها كوسيلة للتراحم والتواصل؛ ولكنها ممنوعة حينما تغدو وسيلة للتناحر والتفاخر؛ وشرارة الحرب الأهلية، وعندما تتأدلج الطائفة لا تعود للحقيقة اهمية إلا بمقدار ما تخدم الهدف الأيديولوجي؛ لذلك نجد المؤدلجين طائفيًا بمذهب ما؛ لا يستخدمون النص الديني لمصلحة الإنسان المُكرم إلهيًا؛ إنما يستخدم الإنسان لمصلحة الأدلجة الطائفية.
السبيل الخامس: الإيمان بتيار النقاط البيضاء؟
إن كل خلافاتنا الطائفية؛ لو أعملنا فيها مبضع البحث والتشريح التاريخي؛ سنجد أنها ذات أصول سياسية؛ لخلافات حول السلطة ليس إلا؛ استطاع الخبثاء أن يجعلوا لها أصولًا دينية؛ ليجمّعوا حولهم حاملًا اجتماعيًا؛ يدعمهم باسم الانتماء الطائفي ليصلوا إلى السلطة، وكان هذا الباعث للطائفية في تاريخ الإسلام الذي بدأ بخلاف علي ومعاوية؛ واستمرت الانشقاقات الطائفية وتشكلاتها؛ وجاء القرن الرابع الهجري المشكل لتلك الانحيازات الطائفية؛ الذي كان الاستبداد العباسي سبب رئيس فيه!
ويبدو أنّ التعصب الطائفي عند المتنطعين أيديولوجيًا تجاه الآخر المختلف عنهم في تدينهم، أكبر عقبة أمامنا في بناء دولة المواطنة. ولا بد من إحياء فكرة تيار النقاط البيضاء، وهذه الفكرة التي نؤمن بها كتيار تنويري تقوم على الاعتقاد أنه لا يوجد مذهب ديني أو طائفة ما، تمتلك الصواب المطلق. وبالوقت نفسه لا نعتقد أن هناك مذهبًا دينيًا أو طائفة ما على خطئ مطلق، إنما هناك نقاط بيضاء عند هذا المكون أو ذاك؛ تكثر أو تقل عند المذاهب والفرق كلها، لو جمعها الحكماء الوطنيون الغيورون على سورية؛ فإنها ستؤسس تيار النقاط البيضاء، علنا نخرج من هذا الجُب التناحري المستمر منذ أكثر من ألف سنة.
القرآن الكريم في دعوته لأهل الكتاب دعا لمثل هذا التيار بقوله (تعالوا إلى كلمة سواء) ونلاحظ دقة الخطاب القرآني إذ لم يقل تعالوا إلى كلمتنا؛ إنما إلى كلمة سواء؛ أي ما هو متفق عليه بجوهر رسالات السماء؛ وهذا يعني النقاط البيضاء الإيمانية الموجودة في الرسالات السماوية كلها.
السبيل السادس: منهج تربوي حديث؟
إن المأساة التي يمر بها الشعب السوري؛ والتناحر الطائفي القبيح؛ وفشل النظام الحاكم في مناحي المجتمع كله؛ كما فشلت المعارضة الرسمية في ذلك أيضًا؛ وباتت لعبة قبيحة بيد الخارج، يؤكد أن المسألة أبعد من أن يكون تغيير النظام السياسي وحده حلٌ لمأساتنا؛ إنما هناك فشل تربوي عميق اجتماعيًا؛ فالتربية الأسرية والمدرسية والحزبية وحتى الدينية؛ كانت تربية فاشلة؛ بل ساهمت بالاحتراب الطائفي! لتؤكد أننا بحاجة لمنهج تربوي حداثي؛ يقوم على أسس علمية وطنية وإنسانية؛ يرأب الصدع الطائفي؛ فثقافة الطائفية ولدت خواءًا إنسانيًا، يحتاج إلى منهج تربوي يقوم على الأخلاق والفضيلة، لتنشئ عليها الأجيال القادمة، فتكون خالية من “فايروسات” الطائفية وجراثيمها السلوكية.
وإننا كسوريين لدينا أكاديميين متخصصين في هذا الجانب؛ يعملون في أشهر جامعات العالم؛ قادرين على تأسيس منهج تربوي حداثي؛ ينشئ لنا أجيالًا؛ تنهض بأمتنا؛ ففنلندا الدولة الصغيرة استطاعت بسنوات قصيرة؛ ابداع منهج تربوي؛ بات من أفضل مناهج التربية والتعليم عالميًا، ونحن قادرون على ذلك لو امتلكنا إرادة التغيير.
السبيل السابع: اللاهوت السوري؟
أثناء الاستعمار الغربي لأمريكا اللاتينية، اختلف اليساريون والمتدينون حول من يقوم بمهمة التحرير، حتى مدّ الاستعمار رجليه في بلادهم، فكان هناك راهب حكيم اقترح على الطرفين اللاهوت التحريري قائلاً: نتوحد على تحرير الوطن اولاً من الاستعمار، ونبنيه بالمحبة والإنسانية، بدلاً من الاختلاف والعداوة، توحدوا لتتحرروا. وخاطب المتدينين قائلاً: من لا يعمر جنة الأرض لا يستحق جنة السماء.
ونحن في وطننا الجريح إنْ بقينا نتصارع متدينين وعلمانيين؛ وطائفيين وقوميين كالديكة، فإننا لا نستحق وطننا لغبائنا.
إننا قادرون على انتاج لاهوت سوري يُنقذ ما تبقى من وطننا؛ فلنتعاون من خلال لاهوت سوري للقضاء على الاستبداد مهما كان مصدره سلطويًا أو دينيًا أو طائفيًا؛ ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا بالقضاء على العنصرية الطائفية، ولنتذكر بأنّ أول عقوبة إلهية كانت على العنصرية! فبعد خلق آدم والطلب الإلهي من المخلوقات أن يكونوا مسخرين لهذا الإنسان؛ رفض إبليس الانصياع لسبب عنصري قائلًا: (قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ). فعوقب. فمن يرى نفسه أفضل من الآخرين ففيه من الإبليسية؛ ربما إبليسية عرقية، أو دينية، أو طائفية، أو جنسية. واللاهوت السوري سينتج وثيقة مبادئ؛ لتكون مقدمة لدستور سوريا المستقبل؛ مُؤَسَسَة على أن المواطن السوري مقدس لكونه مواطنًا لا لطائفته ولا لعرقه، ولا تنتهك قدسيته إلا إذا انتهك القانون العام؛ وإننا كلنا سوريون؛ نستطيع أن نعيش متآلفين متحابين إخوة كما عاش أجدادنا بعيدًا عن العفن الطائفي.
التوصية:
اخرج أيها السوري النبيل من صندوق الطائفية؛ ولا تتبع هواك الطائفي؛ فتخسر إنسانيتك؛ اخرج مما وضعوك فيه؛ يُروى أن عصفورًا وقف لاهثًا من الطيران على فوهة بئر؛ فقال له ضفدع يقبع في قاع البئر: لم تلهث؟ قال العصفور: من الطيران في سماء الله الواسعة. فقال الضفدع: وهل السماء واسعة؟ إني لا أراها إلا ضيقة كفوهة البئر! فقال له العصفور: اخرج من القاع لترى رحابة السماء. إن بعضهم يقبع في قاع ثقافة الطائفية وسلوكها الذي تربى عليه، ولا يرى الأشياء إلا من خلالها! فاخرج من الإطار الذي وضعوك فيه، لترى ما يدهشك؛ ويثبت وهْمَ مسلماتِك. لتعش أنت وأولادك.
مراجع
[1] ـ يجسد هذا المعنى حديث النبي ﷺ الذي رواه مسلم في صحيحه (كُونُوا عِبادَ اللهِ إخْوَانًا).
[2] ـ أحمد الرمح: المجتمع المدني رؤية للفهم والممارسة. دار الإيمان 2005. ط1. ص:12.
[3] ـ راجع دراسة: الهوية الدينية للوطن؛ مشكلة أم حل؟ أحمد الرمح. مركز حرمون للدارسات: www.harmoon.org/reports/الهوية-الدينية-للوطن-مشكلة-أم-حل؟/
جميع حقوق النشر محفوظة لصالح مركز أبحاث مينا.