تقدير موقف
عندما انتصرت الثورة الإسلامية عام 1979 استقبلها معظم العرب بالحماس والترحيب والتفاؤل؛ بينما اتسمت مواقف بعضهم بالحذر والتشكيك أو الترقب؛ وعلى وهج الانتصار قامت كثير من التحليلات التي تحاول الترويج لإمكان استخدام الدين في إحداث الثورة! أي إمكان أن يلعب دوراً تقدمياً بدل الدور الذي اتهم به عبر تجسيداته بالنظم التقليدية؛ وفي عدد من القوى المنتسبة إليه؛ وأن يكون ثوري المحتوى! ثوري الأداة! عصري الرؤى؛ حداثي البرنامج والممارسة، دون إغفال تلك المناقلات لعدد من المفكرين والثوريين واليساريين العرب والمسلمين من مواقع العلمانية إلى موقع التبشير بالثورة الإسلامية، والالتحاق بها؛ ومحاولة إلباسها ثوباً ليس لها؛ أو تجاهل جوهر الأيديولوجيا التي تستند إليها (شيعية كانت أم سنية)؛ وعدد من التنظيرات والأحكام التي راجت عن الخصائص الثورية اليسارية لحركة الشيعة في التاريخ المختلفة عن الحركات الإسلامية السنية الموصوفة بالمحافظة والسلفية، وما تثيره مثل هذه التنظيرات من مبالغات أو تشويه الأصل؛ أو محاولة التمييز وإسقاط الرغبات على الواقع في أحيان كثيرة.
تناقش هذه الورقة مبعث الحذر القومي من المشروع الإيراني من خلال ما يأتي:
- المدخل
- تصدير الثورة
- مفارقات إيرانية تحتاج إلى أجوبة مقنعة
- الهلال الشيعي وحكايته
- تفتيت المفتت في الوضع العربي
- المشروع الإيراني وموقعه
- سوريا محطة مركزية في المشروع الإيراني
المدخل
إن عموم التيارات اليسارية والقومية العربية وإن أبدت نوعاً من الترحيب الأوّلي بقيام الثورة وانتصارها إلا أنه ترحيب حذر وملتبس، ولهذا لم تتعامل معها باطمئنان وبقلب وصدر مفتوحين، فالقوى الشيوعية الرسمية ترى في الحركات الدينية أيّاً كانت تمايزات بعضها وشعاراتها حركات مضادّة للتقدم والفكر العلمي ولحركة التاريخ ومضمون الثورة. بل قطعاً لطريق التطور الطبيعي وربما حرفاً وتشويهاً واغتصاباً لها.
أما القوى القومية الحاكمة منها بالخصوص فقد كان حذرها أكبر وأكثر علانية؛ ذلك أن عدداً منها اعتبر الحالة الإيرانية التي تقتحم ميدانها العربي بقوة زخم الثورة وشعاراتها النارية وبخاصة حول الصراع العربي/ الصهيوني ورفض التسوية مع إسرائيل حالة دخيلة بديلة ملغومة.
أكثر من ذلك ففي ثقافة تلك المدرسة حضور وإحضار قويين للتاريخ العربي وفقاً لنسق من الأحكام والنهج والتفسير الذي انتشر وساد، أي لما يعتبر عوامل ضعف الإمبراطورية العربية الإسلامية وتفككها وانهيارها التي لعبت (الشعوبية) فيها دوراً تآكلياً تآمرياً منظماً، فكان تعبير الشعوبية يرتبط في أذهان أبناء هذه المدرسة بغير العرب من المسلمين على العموم! وبالفرس بشكل خاص! وهو يثير التوجّس والعدائية تاريخياً وفي استحضاره الدائم والتشديد عليه وعلى دوره كلما لزم الأمر.
التشكيك كبير ويجد مسوغاته المنتشرة عند جمهور العامة في الخصوصية المذهبية الإيرانية؛ وما يمكن أن يَركب ويُركّب عليها من صفحات التاريخ المليئة بالصراع والتناحر والتنابذ والتعبئة المذهبية أو القومية الفارسية المواجهة للقومية العربية؛ حين يختلطان لتشكيل مشروع قومي بغلاف ديني والخوف الدائم منه أن يكون على حساب العرب؛ أو عبر مزيد من الانقسامات المذهبية، والتهيئة لمقومات الحرب الأهلية في أرض صارت شديدة الخصوبة لها؛ وقابلة لفعلها بشعارات خلّبية متلونة، ولمصلحة قوى داخلية وخارجية تستثمرها ووسط حالة شعبية تتسم بالعودة إلى إرث القرون من الحراب والاقتتال.
في الجانب القومي يستحضر الذهن العربي الرائج النزعة الفارسية التي يحمّلها وزر ما عرفه ذلك التاريخ من إشكالات وصراعات وحروب وتصفيات ومؤامرات، على اعتبار أن الاتجاه الفارسي لم يمت وكان واضحاً في طيّات التاريخ أنه يبحث عن ثأر من العرب الذين أسقطوا الإمبراطورية الفارسية، مستخدماً أشكالاً عدة مختلفة من التكتيكات.
وعلى صعيد المذهب فإيران الشيعية متهمة تاريخياً بالتآمر على العرب(السنة)، وهنا لا يحضر الصفويون ودورهم في تعميم المذهب وفي السيطرة على بغداد ومحاربة (الخلافة العثمانية) وحسب، وإنما أيضاً عبر استحضار تاريخي لجوانب الاختلاف والصراع أو ما يعبّر عنه بالتآمر الفارسي المغطى بالدين عموماً وبالمذهبية خصوصاً.
وهي حالة تستند إلى فلسفة دينية خاصة ملتبسة منها على التحديد ولاية الفقيه، فولاية الفقيه استناداً إلى تفسيرات للقرآن عن ظهور المهدي المنتظر وغياب الإمام المهدي الذي ينوب عنه (آية الله العظمى) الذي صار بعد قيام الثورة المرشد الأعلى، يمتلك سلطات مطلقة تسمح له بالتجييش وإصدار الفتاوى التي لا تُردّ، ومن ثم وجود نظام استبدادي المحتوى شكلي بما يطرحه من انتخابات فيها نوع من المنافسة.
تصدير الثورة
وسط زخم الانتصار والغلو في التعبئة الحاقدة ضد الآخر السني؛ كان شعار تصدير الثورة نتاجاً طبيعياً يحقق ترحيل المشكلات الداخلية وتصديرها من جهة، وتواصل الحقن الطائفي الداخلي لعموم الشيعة بحثاً عن استقطابهم وتعبئتهم بما كشف وجود مشروع إيراني توسعي يعمل على عبور الحدود وضمّ عدد من البلدان العربية إليه.
هنا يجب الاعتراف بأن النظم القومية التي لا تعترف بوقائع المذهبية وتأثيراتها التي عملت بسياسة القفز فوقها وطرح الانتماء القومي بديلاً وبديلاً قسرياً، فشلت في الأغلب في تحقيق أيّ من أهدافها الكبرى المعلنة كالوحدة والحرية والاشتراكية، وفشلت أكثر في إحداث تحولات بنيوية في المجتمع باتجاه الحداثة والعصرنة النابعتين من جوهر البنى القائمة وباتجاه تطويرها وتخليصها من مصدّات عزلتها وكوابحها وليس من تصورات افتراضية، وكان فشلها الأكبر في تحقيق المواطنة والمساواة بين السكان، وفي إشاعة الديمقراطية والتعددية بدل الشمولية والأحادية اللاغيتين للآخر بوسائل الإلغاء الدموية والتصفوية والقمعية كلها، فالنظم المحافظة تمارس تمييزاً واضحاً للشيعة في مناطق وجودهم معظمها بما يخلق تربة خصبة لتأييد الشعارات الإيرانية.
مفارقات إيرانية تحتاج إلى أجوبة مقنعة
إيران عرفت ذلك التغيير النوعي وهي تطرح شعارات تصبّ في منحى النضال العربي ضد الصهيونية والهيمنة الخارجية، ولأن العراق بنظامه المسقط قسرياً بقوة الغزو الخارجي وبتواطؤ إيراني وعربي مفضوح، هو الآن خارج دائرة التقويم والبحث، ولأن جزءاً مهماً من المسؤولية يقع على نظم الاستبداد والتسوية والتبعية(وهو أمر سنضعه جانباً) فإننا سنتوقف عند المواقف الإيرانية بوصفها مفارقات تحتاج إلى أجوبة موضوعية بعيدة عن الأحكام المسبقة والاصطفاف الآلي.
- سنضع جانباً ما يعرف بفضيحة إيران غيت حين أقدمت إيران وبوساطة إسرائيلية على عقد صفقات كبيرة للتسلح من أمريكا وإسرائيل، وما بدا يومها وحتى الآن تناقضاً صارخاً بين الأقوال والشعارات كدليل إثبات قاطع على تواطؤ إيراني مستديم مع الأمريكان والصهاينة ومعاداة العرب لكن من تحت الطاولة.
- لكن العلاقة الإيرانية السورية تثير اللبس ليس من منطلق الوقوف ضد علاقة كهذه، بل لما تحمله من مفارقات تستتبع غيرها، فالثورة الإيرانية تعتبر على طول الخط أن البعث حركة علمانية كافرة معادية للإسلام ويجب استئصالها، النظام الحاكم في سوريا يطرح نفسه نظاماً بعثياً، بل إنه الوريث الشرعي الوحيد للبعث، أكثر من ذلك وطوال سنوات الصراع بين جناحي البعث الحاكمين في سوريا والعراق كان البعث السوري يعتبر نفسه ممثلاً لليسار متهماً الآخر باليمينية، أي إنه أقرب إلى العلمانية وأبعد عن الإسلام.
فهل هي المذهبية التي أصرّت على عدم الاعتراف بتحولات البعث في العراق لكونه (يعتمد على السنة) مثلاً؟ ومن ثم تغضّ النظر عن النظام السوري وكأن لا علاقة له بالبعث؟ هذا عدا المواقف الأقرب بين النظام العراقي وإيران من أمريكا والهيمنة الخارجية ومن سياسات البترول استثماراً وتسويقاً وأسعاراً ومن التسليح النووي ومفهوم الاستقلال وغير ذلك كثير.
النظام السوري يضع المسألة القومية في موقع محوري ولا يكلّ من رفع الشعارات المكررة عن الأمة الواحدة والرسالة الخالدة والمحيط والخليج وفي الوقت نفسه يقدّم الدعم كله لإيران التي هي هنا حالة خارجة على مفهومه القومي، ولا مانع لديه من أن يسقط العراق على يد تلك القوة الخارجية وأن يتحول إلى نظام ديني مذهبي، فكيف تصح هذه المعادلة في النسق المنطقي؟ وعلى أي مقومات قامت واستمرت العلاقات الإيرانية السورية طوال عقود؟
- عندما قررت أمريكا غزو أفغانستان بذريعة الانتقام من حكم طالبان الذي يؤوي أسامة بن لادن وتنظيم القاعدة -وهو قرار لا علاقة له بأحداث أيلول/ سبتمبر- وصارت القوات الأمريكية على حدود إيران فماذا كان الموقف الإيراني؟ نظام الثورة الإسلامية الذي يرفع شعار الشيطان الأكبر يتعاطى معه بطرائق كثيرة، بل يدعم الاحتلال عبر دعمه لتحالف الشمال ومدّه بالأسلحة والمساعدات لقتال الطالبان. مجمل التعاون الأمني وملاحقة القاعدة واعتقال أعداد كبيرة منها (يقال إن إيران تبقيهم ورقة مساومة مع الأمريكان، بل استخدامهم في مشروعها) أو اضطهاد الشيعة ومحاربتهم في تحالف الشمال، أو ما يقال عن مصالح إيران الإقليمية وعجزها عن مجابهة الغزو الأمريكي المباشر مفسحة الطريق لوجودها عبر أقنية كثيرة.
- الموقف من غزو العراق: لم يستطع أحد هضم التواطؤ الإيراني في غزو العراق على أنه انعكاس لموقف ثأري من النظام العراقي وأن إيران الجريحة من ذلك النظام من حقها أن تعمل على تغييره، أن تساعد من يفعل ذلك، غزو العراق وإيران خير من يعرف لم يكن هدفه فقط إسقاط النظام فيه، بل تدمير الدولة العراقية وتقسيم العراق على أسس عرقية ومذهبية وهو محطة للإطباق على الوطن العربي.
صحيح أن جلّ النظام العربي كان متواطئاً ومتخاذلاً في غزو العراق، لكن أن تكون (الثورة الإسلامية) جزءاً من تلك المساهمة فهذا يتجاوز الخلاف مع نظام بعينه إلى ما يطرح أسئلة أعمق حول الاستراتيجية الإيرانية في المنطقة ومدى تقاطعها المباشر أو من حيث النتيجة مع المشروع الأمريكي وفي صلبه المشروع الإسرائيلي.
الأمرّ والأكثر غرابة ومدعاة لكثير من الأسئلة المشروعة أن النظام الإيراني لم يكتفِ بتسهيل غزو العراق وإسقاط النظام، بل إن مجموعة سياساته اللاحقة تثير الشبهة والريبة، فقد شكّل حلفاء إيران وبخاصة من الأحزاب الشيعية الرئيسة المقيمة في إيران والمدعومة منها (المجلس الإسلامي الأعلى وحزب الدعوة) مدخل الاحتلال وغطاءه ورأس حربته في تفتيت العراق وتمزيقه رسمياً.
لقد كشفت الحالة العراقية والشيعية السياسية على وجه الخصوص وجود استراتيجية إيرانية خاصة تعمل على تفتيت العراق والانطلاق من واقع شيعي إلى عموم المنطقة، بما يضع النظام الإيراني في مركز الاتهام؛ ويلقي بظلال الشكّ والريبة على الشعارات المرفوعة والتصريحات النارية التي تخرج بين حين وآخر عن الصهيونية وكيانها وأمريكا والغرب، بما يترك آثاره وذيوله على عقل المواطن العربي المدرك لطبيعة المخطط الخارجي ومراميه التفتيتية المستاءة من كل من يتعاون أو يتواطأ معه (مهما تكن الحسابات والمصالح الذاتية بدل مقاومته).
- وإذا ما انتقلنا إلى الحالة اللبنانية وحزب الله بالتحديد سنقرأ بعضاً من هذه المفارقة، فما لا شكّ فيه أن حزب الله وبعد التطورات القسرية التي عرفتها المقاومة الوطنية اللبنانية للاحتلال الصهيوني (التي كانت أول من بدأ عمليات التصدي للاحتلال) في ظل تدخّل النظام السوري وأثره الذي اتصف بضمور القوى الوطنية ومشروعها اللاطائفي، وبروز الاتجاهات والأحزاب الدينية نهض حزب الله بالعبء الأكبر من مجهود المقاومة وكأنه الطرف الوحيد الذي يتحمّل حملها ومسؤوليتها، وحقق انتصاراً يكاد يكون فريداً في تاريخ العرب الحديث حين أجبر الجيش الإسرائيلي على الانسحاب من الجنوب، وما لا شكّ فيه أيضاً أن السيد حسن نصر الله الأمين العام لهذا الحزب تبوأ لسنوات منزلة عزيزة في أنفس عموم العرب والمسلمين تتجاوز موقع أي مسؤول عربي، ولعب من موقعه هذا دوراً مهماً في السنوات الأولى لانتفاضة الأقصى حين كانت كلماته المنقولة هاتفياً أو تلفزيونياً تلقى كل ترحيب وتفاعل من جماهير فلسطين.
لكن مع الغزو الأمريكي السافر للعراق والموقف المخزي للأحزاب الشيعية ومن خلفها إيران، وإقحام السيد حسن نصر الله نفسه في الشأن العراقي لنصرة العملية السلمية وإدانة المقاومة العراقية وتوصيفها بالتكفيرية أو الصدّامية، والإشادة برموز التعامل مع المحتل كالحكيم والجعفري والمالكي وحالة الإرباك الواضحة في التعاطي مع الشأن العراقي بالعموم ومع المقاومة الوطنية على وجه الخصوص (والموقف المرتبك من إعدام الرئيس العراقي بتلك الصورة المشبعة بالحقد والضغينة)، ثم عدم الاكتفاء بتأكيد التحالف مع سوريا وإيران والاعتراف بمساعداتهما ودعمهما، وإعلان التحالف الدائم مع النظام السوري ورأسه في أحرج الأوقات التي انتفض فيها عموم الشعب اللبناني على اغتيال الرئيس الحريري بتلك الطريقة الوحشية وانفجار المخزون الشعبي على الممارسات القمعية التصفوية النهبية للوجود السوري (الاتهامات كبيرة بأنه ضالع في الاغتيال).
ذلك كله في الوقت الذي تشير فيه كثير من الدلائل إلى أصابع الاتهام إلى النظام ومسؤوليته في اغتيال الحريري وما تبع ذلك من اغتيالات عدد من الرموز الفكرية والسياسية والإعلامية، بما يتعارض وتوجهات عدد من اللبنانيين، بل بما يرفع وتيرة الاحتقان الداخلي إلى مدى بعيد.
ثم التطور النوعي اللاحق حين دخل على خط التدخل الداخلي بالتناغم مع أمواج الصراع الإقليمي الخارجي وتطورات الملف الإيراني ووضع النظام السوري وما يعانيه من عزلة وحصار ولمصلحة الأول وعدم التورّع عن استخدام السلاح ضد شركاء الوطن واحتلال بيروت بتلك الطريقة المؤججة للصراعات المذهبية، ولمزيد من الاحتقانات المهددة بانفجارات حرب أهلية أخرى، أي التحول من حالة مقاومة عربية إسلامية إلى حالة شيعية اصطفافية وحالة (سورية رسمية)، وحالة سياسية داخلية تضطلع في التركيبة اللبنانية المذهبية الطوائفية المحاصصة وتنتقل من الإجماع إلى موقع الطرف، ومن قدسية السلاح إلى استخدام السلاح لحماية السلاح بما يفقد الحزب وأمينه العام وهجهما وتلك المنزلة التي انتزعاها، وبات الحزب وأمينه العام في موقع التساؤل خصوصاً بعد اغتيال الحريري وجملة الاغتيالات اللاحقة وأصابع الاتهام الموجهة إليه وإلى النظام السوري من أطراف عدة، وبعد ذلك التطور النوعي الذي (انزلق) إليه أو دفع إليه دفعاً بقوة تحالفاته الإقليمية.
هذه العناوين تطرح أسئلة كبرى حول حقيقة المشروع الإيراني ونقاط تقاطعه مع البعد الإسلامي والمذهبي والقومي، ما يزيد انقسام الشارع العربي وقواه السياسية بين مؤيد معجب بهذه السياسة (الممانعة) التي تكاد تكون وحيدة وسط (الاعتدال العربي المنبطح والانهيار شبه الكلي وغياب المشروع العربي ولو بحدود التضامن) التي ترفع رايات فلسطين والمقاومة، ومن يشكك حتى الاتهام بالخلفيات والطروحات كلها، ويرى فيها فخّاً مرتباً بعناية لغواية الأمة واستثمار تلك الشعارات في مشروع خاص لن يكون معيناً للأمة العربية بل قد يكون وبالاً عليها.
الهلال الشيعي وحكايته
بداية يجب الإقرار بأن فشل الأنظمة الوطنية والقومية والحركات والأحزاب المحسوبة على هذا الخط في بناء البديل الذي أكثرت من الحديث عنه ورفع شعاراته وتحوّل معظمها إلى زمر أقلوية استبدادية وإخفاقها في تحقيق أيّ من القضايا المرفوعة، أو تحرير الأرض والمواطن من معوقات تطوره وحرياته الديمقراطية وحصادها الهشيمي في عموم الميادين، قد أحدث هزّة مجلجلة في الواقع الشعبي زادتها التطورات الدرامية للمنظومة الاشتراكية ومن قبلها أزمة اليسار العربي عمقاً وامتداداً، بإحداث فراغ كبير مثقل باليأس والإحباط والقمع والإبعاد والتهميش وإضعاف الحراك الشعبي الأمر الذي أوجد الأرضية للبحث عن بدائل وسط حالة ارتدادية تعود إلى مراحل ما قبل قومية، فكانت التحولات البارزة باتجاه التديّن في ما عرف بالصحوة الإسلامية التي عانت بدورها ضربات الأنظمة وإشكالاتها الداخلية وسيطرة الاتجاهات المتطرفة على كثير من مواقعها وردات الفعل المختلفة على تلك الممارسات التفجيرية.
عند العودة إلى الحالة الإيرانية فإن الخوف من جانبها المذهبي، وما تفعله في مناطق وجود الشيعة فتح الأعين على صراع جديد، طالما جرت المحاولات لتجنّبه أو القفز فوقه، وقد تصاعد ذلك الخوف وانتشر طوال سنوات الحرب العراقية الإيرانية، وتموضع في أكثر من بلد واتخذ أكثر من شكل حتى إذا ما جرى احتلال أفغانستان ومن ثم العراق أزيح الستار عن عدد من الأغطية وانبلج وضع جديد منذر لا يغطى بأي غربال.
نعم الحالة الإيرانية بعد احتلال العراق بالتحديد ثم بعد الثورة السورية الكاشف الأكبر هي في موقع الاتهام من جمهور عربي عريض، لا يمكنه أن يهضم الذرائع والتسويغات التي تطرح كلها حول الموقف مما يجري في العراق، ثم امتدادات هذه الحالة في لبنان وسوريا.
الأسئلة كثيرة وتبدو قابلياتها للانتشار كبيرة، وأهمها هل نحن مثلاً أمام مشروع إمبراطوري إيراني يستغل التفتت والهزال والانهيار العربي والهجمة الأمريكية الصهيونية على المشرق العربي لإقامة دولة إمبراطورية تُخضع دول المنطقة وتفاوض الأمريكان من هذا الموقع فيكون لها حصتها الكبيرة (محاصصتها) في الشرق الأوسط الكبير إذا ما قام؟ أو موقعها المؤثر في العراق والخليج الغني بثرواته النفطية وبخاصة أن عدداً من الدراسات تؤكد أن مخزون النفط الإيراني ليس كبيراً وأنه معرّض للنفاذ خلال زمن قصير قد لا يتجاوز خمسة عشرة عاماً؟ هل الهدف هو التوازن مع الكيان الصهيوني؟ أم تشكيل رادع يمنع الولايات المتحدة والغرب من التفكير بالاعتداء على إيران؟ أم أن إيران نووية ستكون قوة إقليمية يحسب حساباتها في مشروعات المنطقة التي هي على حساب العرب من دون غيرهم؟
تفتيت المفتت في الوضع العربي
إن تفتيت المفتت في الوضع العربي هو الضمانة الأمثل لما يأتي:
- أن تصبح إسرائيل القوة الإقليمية الكبرى في المنطقة ولزمن طويل تضمن فيه عجز من حولها عن تشكيل أي خطر عليها.
- إن التفتيت القائم على أساس ديني أو مذهبي يمنح إسرائيل التي نهضت على أسطورة دينية ملفقة مشروعية لا تعود معها الكيان الناشز الخائف من المستقبل.
- تفتيت العرب يحقق حلماً إسرائيلياً (تاريخياً) طالما تغوّل في التاريخ والأسطورة، وصنع لنفسه حقوقاً تاريخية إلهية وتفوقية عليها، مثلما يحقق (نبوءات) توراتية مفتعلة عن حرق الزرع واجتثاث النسل وقطع الضرع وصولاً إلى صناعة البعبع (نبوخذ نصر الحاضر أبداً وقورش المنقذ)، ولذلك يمكن القول إن مشروع التفتيت المتداول هو صناعة صهيونية بامتياز، وهو تعبير عن رؤى يهودية رسمية لمستقبل الوطن العربي الذي يشكّل ميدان التخصص الصهيوني، بينما لا نجد موقعاً واضحاً لإيران في هذه الرؤى وكأن (شفاعة) قورش محطّم بابل و(محرر) أسارى اليهود تمنع الصهاينة الجدد من وضع إيران على قائمة التفتيت أو الاحتلال.
- التفتيت القائم على أساس مذهبي يمنح إيران منافذ للتدخل والسيطرة والتحول إلى لاعب مهم في قلب عدد من الأوضاع العربية، ما لم تحمل التطورات ما يتجاوز ذلك إلى تحقيق نوع من الوجود المرسّم في عموم الدول العربية المعنية تساندها قوى مذهبية شيعية وأخرى سنية ترتبط معها بالخط وتتغذى منها مالياً ونعرف أن مشروع التفتيت القائم على أسس عرقية ومذهبية بوجه الخصوص قديم متجدد وقد وضع على جدول التحقيق منذ سنوات ومثّل احتلال العراق قفزة كبيرة في تنفيذه.
وعلى أهمية العامل الإثني العرقي في تقسيم الوطن العربي إلى مزيد من الكيانات الجديدة فإن تداعياته تبدو أقل خطراً من ذلك المستند إلى المذهبية، لأن التقسيم العرقي لو حدث في عدد من مناطق الوطن العربي فإنه يبقى محدوداً وأقل ضرراً لأنه لا يتناول صلب النسيج القومي أو مقومات الأمة العربية، أما التفتيت القائم على أساس مذهبي فإنه يشرخ المجتمع العربي عمودياً ويؤسس لنوع من الصراع القاتل داخل الأمة بدءاً من كياناتها القطرية ووصولاً إلى عموم الوطن.
إن معلومات كثيرة تقذفها جهات عدة وبعضها مدعّم بأرقام وإحصاءات ونسب ومخططات عن تلك الحركة النشيطة للتشيّع ونشر الحسينيات في عدد من الدول العربية ووصولها حتى الجزائر، علاوة على انتشارها في سوريا وعموم بلدان الخليج.
وإذا كان الانتقال من مذهب إلى آخر تعبير عن مستوى من حرية الاختيار عند البشر بوصفه حقاً من حقوقهم، وإذا ما كانت هذه الظاهرة تجد أهم تفسيراتها ليس في الدعم المالي المغدق (الأرقام متنوعة عن حجم الإنفاق) فإنه لا يمكن القفز فوق تأثير الخطاب السياسي الإيراني وحزب الله في عموم الشارع العربي الذي يبدو خطاباً (جهادياً) معادياً للغرب المحتل وللصهيونية، وتأثر قطاعات شعبية ونخب مثقفة وسياسية بهذا الخطاب الذي يقابله خطاب عربي رسمي تسولي توسلي انبطاحي تبعي.
من ثمّ فإن الحديث عن (قوس أو هلال) شيعي ليس وهماً أو دعاية مغرضة، إنه جزء من سياسة صهيونية نافذة ومن مشروع قومي مذهبي إيراني احتوائي يجد مرتعه في تربة خصبة وعبر أشكال كثيرة من الدفع والفرض والعراق مثال يفقأ العيون، فهي تجد مناخاتها في ضمور القوى السياسية الوطنية وصعود الحركات والمفهومات السياسية الدينية المدعومة والمستند إليها في عدد من النظم العربية التي لا تخفى على أحد.
وإذا كانت أحداث العراق قد عززت تلك الاتهامات وألقت بمجموعة من التصورات عن مرجعية الاصطفافات وموجباتها في الشعارات، فإن الاختلاطات والتناقضات المقصودة في المواقف والتحالفات وفي التعاطي مع المشروع الأمريكي تفتح الشهية للحديث عن حلف شيعي يراد إبرازه ووضعه ليس في مقابل الحالة السنية فقط وإنما لانتزاع موقع مهم في الاستراتيجية التي تجوب المنطقة، وربما تحقيق مشروع استقلالي استراتيجي يضع إيران في موقع القوة الكبرى الفاعلة والنافذة وبذلك فإن إيجاد انقسامات واصطفافات جديدة على هذا الأساس تصبّ في هذا الهدف، بينما يبقى الصخب الشعاري المثقوب من المستلزمات أو من (العدّة) الضرورية للنفاذ والتمرير.
لقد كشفت الثورة السورية أو فضحت جوهر المشروع الإيراني ودجل الشعارات التي توظف خدمة له، فإيران التي تدّعي وقوفها مع الشعوب المحرومين وضد النظم المستبدة والتابعة والمفرّطة بالقضية الفلسطينية وقفت منذ البداية مع النظام السوري المجرم القاتل الذي واجه حراك الشعب السوري لتحسين أوضاعه وانتزاع الحرية والكرامة بالقتل والتصفيات، ولم تكتفِ بأنواع الدعم كلها؛ اللوجستي العسكري والمالي، بل تدخّلت بقوة وبشكل مباشر وعبر أذرعها من المليشيات الطائفية وفي مقدمها حزب الله لنجدة النظام ومنع سقوطه، وأبرزت أنيابها الحاقدة في ممارسات مخيفة مملوءة بالحقد ومحاولات التغيير الديموغرافي واحتواء المنطقة العربية وإتباعها لها بما يتجاوز حكاية الهلال الشيعي إلى تكوين إمبراطورية كبيرة.
المشروع الإيراني وموقعه
أفصحت سنوات الربيع العربي وثوراته لانتزاع الحرية وبخاصة في سوريا عن خصائص ومخاطر المشروع الإيراني الذي يتجاوز الحدود الجغرافية الإيرانية فلا يكتفي بها، بل يضع في أولوياته البلدان العربية بما يتجاوز ما يعرف بالقوس أو الهلال الشيعي إلى حالة استحواذية أقرب إلى الاحتلال لمجموعة من الدول العربية وإلحاقها بذلك المشروع وقد صرّح عدد من قادة النظام الإيراني عن وضع يدهم على عدد من العواصم العربية وأن بلدان الخليج في مرمى الاستهداف.
لقد منحت أمريكا -باحتلالها العراق ومحاولات تفسيخ الدولة والمجتمع العراقيين- إيران نفوذاً كبيراً وطاغياً في العراق كان قوة إضافية نوعية لاندفاع المشروع الإيراني وإحرازه تقدمات كبيرة في عدد من الساحات العربية، وكانت ثورات الربيع العربي وبخاصة في سوريا واليمن وما واجهته من تعقيدات وتداخلات وتدخلات الميدان الرحب لتوسع النفوذ الإيراني ووضع يده قوة مهمة في هذه البلدان وممارسة ضغط كبير على بلدان الخليج وتهديدها، بما يضطرها إلى إنفاق مليارات الدولارات على التسلح مقابل الحماية الأمريكية لها في عملية استنزافيه خطرة وبعيدة الغور والتأثير.
سوريا محطة مركزية في المشروع الإيراني
سوريا الجسر الرئيس والاستراتيجي، والسيطرة عليها تفتح الطريق إلى لبنان لتصبح المنطقة تحت السيطرة. فمنذ بداية الثورة خلعت إيران أرديتها وأظهرت أنيابها الحاقدة ضد ثورة الشعب السوري، وها هو اللواء حسين همداني المقتول يعلن في مذكراته دور إيران في إنقاذ النظام السوري ومنع انهياره بدءاً من عام 2012، حين تقلصت مساحة سيطرته إلى نحو ربع الأراضي السورية، فأمر رئيس حزب الله بتنفيذ قرارات المرشد الأعلى بدعم النظام فكان تدخله العلني الواسع منذ معارك القصير، إضافة إلى حضور خبراء الحرس الثوري بقيادة سليماني وتجوله في المدن والمناطق السورية وهو يقود فصائل من الحرس الثوري وعدد من المليشيات الطائفية التي استقدمت وبلغت نحو 60 مليشيا شيعية، راحت تزرع الموت والحقد ثم القيام بتشكيلات ممولة من إيران للحرس الثوري من سوريين متطوعين مقابل مبالغ مالية مجزية وتدريبهم داخل سوريا وإقحامهم في القتال.
يترافق ذلك مع نشاط لحركة التشيّع خصوصاً في مقام السيدة زينب الذي وضعوا يدهم عليه؛ وأقاموا فيه معهد رقيّة لتدريس علوم المذهب وإعداد الدعاة الشيعة بماضوية الحقد واستحضار الأحداث الأليمة فيه، وانصياع رأس النظام لمطالبهم عبر سيطرتهم على القرار السوري (ثم مشاركة الروس في القرار وهيمنته الرئيسة عليه)، وتواتر المعلومات عن عمليات تجنيس آلاف الإيرانيين (تتفاوت الأرقام وتتعدد بين من يعتبر أن هناك عشرات آلاف الإيرانيين الذين منحوا الجنسية السورية ومن يتحدث عن 25 ألفاً أو 5000)، يترافق ذلك مع عمليات نشيطة ومدروسة لشراء العقارات ومساحات كبيرة من الأراضي في سوريا بأسماء إيرانية أو سورية تتبع لهم أو من خلال شراكات مع رموز في النظام كرامي مخلوف وغيره، وعمليات التغيير الديموغرافي واسعة النطاق عبر التهجير القسري لسكان مناطق حيوية حول دمشق (داريا والقلمون والغوطتين الشرقية والغربية)، وفي حمص وحلب في ما يقال عن استجلاب علويين أو شيعة مكانهم، وكانت حالة الفوعة وكفريا تعبيراً عن قسوة هذا التغيير وما يرسمه من مستقبل يهدد الوحدة الجغرافية والمجتمعية لبلادنا.
لعل أخطر ممارسات إيران الممنهّجة تكمن في منحيين:
الأول: عمليات التشيّع المنظمة؛ وما تحمله وتمثله من أخطار راهنة ومستقبلية.
الثاني: رعاية الإرهاب لمصلحة مشروع إيران الخاص ودعمه وتوظيفه.
الوقائع الثابتة تؤكد احتضان إيران لعدد مهم من قادة القاعدة منذ احتلال أمريكا لأفغانستان وتوظيف هذه الظاهرة في خدمة أهداف محددة وتصديرها ضد الثورة والمسلمين.
ولئن كانت أطراف دولية كثيرة ومهمة لها علاقة مباشرة بمختلف المنظمات الإرهابية وبخاصة داعش، وتسهيل دخولها إلى الموصل وأجزاء كبيرة من العراق وسوريا؛ فالثابت أيضاً أن إيران كانت طرفاً مهماً في رعاية المنظمات الإرهابية ودعمها وتوجيهها نحو تحقيق مهمات قذرة تشوّه وجه الإسلام عموماً والسنة خصوصاً، وتحدث هذا الكمّ من الشروخ والعداء للمسلمين وتلك المجازر المروعة في حين إن جهدها الرئيس اتجه على الدوام ضد الانتفاضة الشعبية والقوى الحيّة في الأمة.
يضاف إلى ذلك أن المشروع الإيراني نجح في اختراق اليمن بقوة؛ واحتواء حركة الحوثيين التي لم تكن يوماً ضمن تصنيف الإثني عشرية، وتحويلهم إلى ذراع خير يستنزف بلدان الخليج وبخاصة السعودية، ويهدد بمزيد الشروخ الداخلية وبالحاجة إلى اتفاق أموال طائلة لشراء السلاح ودرء الأخطار والاستنجاد بأمريكا لتقديم الحماية بالوسائل الابتزازية كلها التي تمارسها الإدارة الأمريكية الحالية.
يجب القول إن المشروع الإيراني المتغلغل نجح في تصدير إيران لتحتل المرتبة الأولى في العداء للأمة العربية وللسنة في العالم الإسلامي، بما يضعه قبل العداء التاريخي والمصيري مع الصهيونية وكيانها الاغتصابي، بل إنه يدفع بعض الأنظمة العربية إلى عقد صفقات مريبة وخطرة مع إسرائيل على حساب القضية الفلسطينية ومستقبل الأمة.
على الرغم من هذا الصخب عن العلاقة المتوترة بين أمريكا وإيران؛ وإيران وإسرائيل، ومحاولات أمريكا تحجيم الدور الإيراني وربما إنهائه في البلاد العربية كما هي تصريحات الرئيس ترامب، وقصة الملف النووي والعقوبات الواسعة التي ستمارسها الإدارة الأمريكية على إيران، فإن هذه الصراعات لا تصل حد الصدام المسلح من جهة وهي تختلف عن الموقف من النظم العربية، كما فعلوا بالعراق لأن هناك شبكة علاقات ومصالح متشعبة ولأن إيران بنظامها الحالي تخدم مباشرة أو من حيث النتيجة المصالح والمشروعات الأمريكية والصهيونية.
بقي أن نقول إن مواجهة المشروع الإيراني القومي المذهبي تحتاج إلى أوضاع أخرى تتجاوز ردات الفعل والجانب العنفي والقتال إلى خلق أوضاع عربية ديمقراطية تحترم الإنسان وحقوقه ودوره وكرامته في نظام تعددي ديمقراطي مدني تداولي، خليق بإيقاف حركة التشيّع والمدّ الإيراني، ويخلق الشروط الملائمة لبلورة مشروع عربي نهضوي حداثي يستجمع طاقات الأمة ويوحدها في أطر عملية وأشكال واقعية ويمكّنها ذاتياً من مواجهة التحديات.
جميع حقوق النشر محفوظة لصالح مركز أبحاث مينا.