الملخص التنفيذي:
جميع الديانات السماوية وحتى الوضعية على امتداد التاريخ البشري القديم، عرفت شعيرة الصوم بأشكال مختلفة، وطرائق متعددة؛ عرفته بوصفه رحلةً سنوية متجددة لا بدَّ للبشر أن يمارسوها لتجديد مناعة الجسد صحياً؛ وبعث الطاقة فيه روحياً، ومن أكثر العبادات الدينية مبعثاً للتفاؤل؛ حتى أن بعض الشعوب كانت تعدُّ الصيام علاجاً من الأمراض والسحر والشعوذة، وبعضها الآخر تعدُّه فألاً حسناً قبل الذهاب إلى المعارك، وهناك شعوب مارسته بقصد اتقاء المجاعات والكوارث الطبيعية، وهناك شعوب مارسته كطقس عبادي عندما يبلغ الفرد فيها سنَّ الرشد.
ولقد غلب على طقوسية الصوم القناعة بأنها عامل روحي؛ ولها فوائد بدنية عند تلك الشعوب، وهذا يدل أن هذه العبادة بطقوسها المختلفة من شعب إلى آخر؛ كانت حاضرة في التاريخ البشري قبل الرسالات السماوية الثلاثة الأخيرة، وتكاد تكون من أهم الأركان العبادية لدى الشعوب القديمة.
تاريخ الصوم والصيام عند الشعوب وفي الرسالات السماوية الأخرى؛ وكيف كانت تُمارس هذه العبادة؟ هذا ما نناقشه في هذه الدراسة من خلال المحاور التالية:
المحاور:
- المدخل
- الصيام عند بعض القبائل الأفريقية
- الصيام عند البابليين واليونانيين والرومان القدماء!
- في العراق صيام شهر رمضان بالاسم كان معروفاً قبل أربعة آلاف سنة!
- الصيام عند الآشوريين السريان قديماً وحديثاً
- الصيام عند البراهمة والزردشتية والبوذية والمانوية والجينية!
- الصيام عند المصريين القدماء
- الصيام في الديانة الإيزيدية!
- الصيام عند الصابئة المندائية
- الصيام في اليهودية
- الصيام في المسيحية
- الخلاصة
المدخل:
كثيراً ما يُوجْه إلينا السؤال التالي: كيف كان الصيام مكتوباً على الذين من قبلنا من أصحاب الرسالات السابقة؟ وهل عرفت الشعوب الأخرى الصيام؟ وكيف كانوا يصومون؟
الصيام ليس بِدعة إسلامية؛ إنما هو مكتوب على المجتمعات المتدينة منذ بدء الرسلات؛ أي قبل حتى الرسالات الثلاثة الموسوية والعيسوية والمحمدية. وجاء في الأثر أن أول من صام هو آدم بعد نزوله إلى الأرض؛ كما صام نوح ومن معه بعد نجاتهم من الطوفان.
والله ﷻ أخبرنا بأن الصيام كان مكتوباً على الذين آمنوا قبلنا؛ كما كانت تعرفه الشعوب القديمة قبل الميلاد، إذ يؤكد القرآن قِدمَ هذه العبادة؛ بقوله:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ . أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ. (البقرة: 183/184).
الصيام عند بعض القبائل الأفريقية
الشعوب القديمة كما أثبتت الكتب التي أرخت لها؛ وبعض الأبحاث الأركيولوجية الحديثة، ([1]) عرفت الصيام قديماً؛ وله أنواع مختلفة من شعب إلى شعب، حيث يقول الباحث في علم الأنثروبولوجيا الدكتور “جمال بامي”: لا يوجد تاريخ محدد لبداية ظهور الصيام، لكن المعلومات المتوفرة تشير إلى أنه ظهر مع وجود الإنسان. ([2])
ولقد مورست هذه العبادة بأشكال مختلفة، منها الصوم عن الكلام كصيام النساء الأرامل في قبيلة (كوتو) بالكونغو، إذ تبدأ عدة المُتوفى عنها زوجُها بالامتناع عن الكلام ثلاثة أشهر قمرية! إضافة إلى ذلك يحلقن شعورهن، ويجرّدن أنفسهن من كل ملابسهن تقريباً، ويضعنَّ الجص على أجسادهن! ثم يقضين الشهور الثلاثة الأولى في بيوتهن صامتات. ([3])
وكذلك تمتنع النسوة الأرامل في قبيلة (سيهاناكان) بجزيرة مدغشقر التي سكنها “الأسترونيزيون” حيث جاؤوها من جنوب شرق آسيا وجزر المحيط الهادئ، والأصل العرقي لهم يُقال بأنه الأفريقي. تصوم الأرامل فيها عن الكلام بعد وفاة أزواجهن لمدة محددة.
الصيام عند البابليين واليونانيين والرومان القدماء!
في القرن الثامن عشر قبل الميلاد؛ وفي بابل ببلاد ما بين النهرين؛ عُرِفَ الصيام عند البابليين؛ وكان يسمى بلغتهم “شيتو”، لكنه ليس فرضًا ملزمًا، إذ كانوا يصومون ثلاثين يومًا متفرقة؛ عندما تتنقل الشمس في كل برج من أبراجها، فيمسكون عن الطعام والشراب من الشروق إلى غروب الشمس، ولا يتناولون اللحوم عند إفطارهم، بل الألبان والنباتات إلا ما هو مُحَرّم منها.
كما كان لكهنة اليونان صوم خاص؛ يسوده طابع الخِفية والسرية، وقسموه إلى أسرار صغرى في فصل الربيع، وأخرى كبرى تدوم لأربعة أيام لمن حاز الأسرار الصغرى. يغمر أثناءها طالبو الأسرار أنفسهم بالماء! فيستحمون؛ ويصومون، وعند طلب الأسرار الكبرى؛ يصومون بعد الحصول على الأسرار الصغرى مدة أربعة أيام، ثم يفطرون بتناولهم عشاءً ربانياً إحياءً لذكر الإله “رمتلر”.
ولقد تأثر الرومان بالصيام اليوناني؛ حتى بات صيامهم شبيهاً لصوم اليونانيين، وشعيرة الصوم عندهم؛ تكون بالامتناع والحرمان؛ ويمزجونها بتعاليم سرية من وضع الكهنة؛ تختص بهم وحدهم، ولا يطلع عليها العوام. ([4])
هل كان صيام شهر رمضان معروفاً عند القدماء؟
لقد ذُكِرَ الصوم وبرمضان تحديداً في الإمبراطورية الأكادية أيام الملك سرجون الأكادي سنة (2334-2218 قبل الميلاد)!! حيث يقول الباحث “آشور ملحم”: رمضان بالأكادية (ramasu/ رماصو) فالصاد بلغتهم بديلاً عن الضاد بالعربية؛ ورماصو: أي يتطوّق الامتناع عن الطعام والشراب لممارسة العبادة الطقوسية لفعل الصوم. ففي الأكادية الصوم يُنطق: (samu/صامو). والأكادية لغة سامية شرقية، حلت محل اللغة السومرية تدريجياً كلغة منطوقة في الألفية الثالثة قبل الميلاد؛
الصيام عند الآشوريين السريان قديماً وحديثاً ([5])
عرف الآشوريون الصوم قبل أربعة آلاف سنة؛ ويُطْلَق عليه عندهم اسم (كرمليس ايخاله باريرو) أي طعام لا يُشبع، وفي الآشورية القديمة (صامو) أي أصبح جائعاً. ويُنْطق الصيام عندهم (صوما) إذ تأتي ألف الاطلاق في نهاية الكلمة.
وكان الملك الآشوري “أسرحدون” أكثرهم إصراراً على الصيام المتواصل بلا انقطاع؛ لكونه من أكثر الملوك الآشوريين تديّناً، مما دفع بأطبائه ومستشاريه من الكهنة إلى ضرورة التدخل؛ حتى يتوقف الملك عن مواصلة الصيام للحيلولة دون الاستمرار في تدهور صحته.
وفي الممارسات التراثية الآشورية هناك “صوم نينوى” الذي تتداخل فيه مجموعة عوامل قومية ودينية تداخلاً مترابطاً، يصعب الفصل بينهما، وتتعسر مهمة تحديد أصولها القومية المادية، وفرزها عن الاصول الدينية الروحية. فخلال هذه الأيام، وتحديداً من السادس الى الثامن من شهر شباط/ فبراير، يحتفل الأشوريون بهذه المناسبة والمعروفة عندهم بـ “باعوثا د نينواية” أي صوم، أو نذر النينويين.
“والصوم عندهم يكون خشوعاً للرب، وارتبط الشعب الآشوري بالصيام كشعيرة مدة تزيد عن سبعة وعشرين قرناً!…… وتُشير مخطوطات كنيسة المشرق الآشورية التي دونها القديس “مار افرام” السرياني أو الآشوري (306 – 373 م) إلى ممارسة الآشوريين لهذا الصوم، حيث كانوا يصومون لمدة (40) يوماً خصوصاً عند أوقات الأزمات، أو خلال المذابح ضد اتباع كنيسة المشرق من قبل الفرس واتباعهم. ولكن في الآونة الاخيرة وبسبب ظروف العصر، اخْتُصر الصوم عندهم إلى ثلاثة أيام، ويكون إما بالانقطاع نهائياً عن الاكل والشرب! أو اقتصار ذلك على الصيام ثم الافطار ظهراً بتناول مواد غذائية نباتية فقط، ويختم الصوم في اليوم الثالث بإقامة القداديس في الكنيسة مع توزيع المذابح والنذور في الباحة”. ([6])
الصيام عند البراهمة والجينية والزردشتية والمانوية والبوذية!
ربما تعد شعوب شرق آسيا من أكثر الشعوب التي عرفت شعيرة الصوم؛ وبأشكال مختلفة، ومن خلال ديانات متنوعة؛ ففي الديانة البرهمية المعروفة بالهندوسية أيضاً، التي تأسست في القرن الخامس عشر قبل الميلاد؛ وأُطلق على الديانة الهندوسية اسم “البرهمية”، نسبة إلى “برهما”. وهو في اللغة السنسكريتية معناه (الله) وقيل معناه “رب الصلاة”، ويعتقد رجال الدين الهندوس أن كهنتهم يتصلون في طبائعهم بعنصر البراهمة. ولذلك أطلق عليهم اسم البراهمة.
والبراهما (الإله) عند قدمائهم واحد لا شريك له، سرى منه الروح في جميع الكائنات من جماد ونبات وحيوان، وقد ورد ما يؤيد ذلك في أسفار “الفيدا” وما ترجمته: أنا الله نور الشمس، ضوء القمر، بريق اللهب، وميض اللهب، صوت الريح، أنا الأصل القديم لجميع الكائنات، منى الحياة لكل الوجود، واهب الصلاح، أول، آخر، حياة، موت، لكل مخلوق حي. ([7])
أتباع هذه الديانة يحتفلون بعيد الصوم؛ ويُراد به تزكية النفس، إذ تخصص كل طائفة من الطوائف الهندوسية يومًا تصوم فيه، فيسهرون طوال الليل؛ وهم يتلون الكتب المقدسة.
وفي البرهمية أيضًا هناك صيام مخصص للنساء تحديداً؛ إذ يصمنَّ أياماً محددة، ولأهميته عندهم؛ سُمي هذا الصيام بـ (برت) أو (العهد) وهو مخصص لتزكية الروح، وتغذيتها بالغذاء الروحاني. كما يصوم البراهمة اليوم الحادي عشر والثاني عشر من الشهر الهندي، وبذلك يبلغ عدد الأيام أيام صيام معتنقي الديانة البرهمية (٢٤) يوماً في السنة.
أما أتباع الديانة الجينية أو اليانية الهندية؛ كما تُعرف أيضاً باسم “جاين دارما” وهي ديانة هنديّة قديمة، يعود تاريخ تأسيسها إلى القرن الخامس قبل الميلاد، والجانية كلمة مشتقّة من الكلمة السنسكريتية (جينا) وتعني المنتصر، وتشير إلى طريق الانتصار بعد تجاوز امتحان الدنيا، والانبعاث من جديد من خلال حياةٍ أخلاقيّة وروحيّة.
وأما صيامهم فيكون بطريقة صارمة؛ وشروط مشددة؛ حيث يصومون أربعين يوماً. وأتباع هذه الطائفة “يتنوع الصوم ما بين تناول الطعام مع عدم الشعور بالشبع، وبين الصوم التام الذي لا يتضمن أي طعام أو شراب، وبين الصوم الذي يتضمن شرب الماء المغلي فقط، لأنه يطهر الجسم من الأمراض، إلا أنهم جميعاً يتبعون صوما نباتياً صارماً، كما يصومون ثلاث مناسبات في العام لأكثر من أسبوع، وفي اليومين (14) و(18) من دورة القمر. وأما “السانثار”، أي الصيام التطوعي حتى الموت؛ يعدُّ خياراً مقدساً لمغادرة العالم، وهو من أشد أنواع الصوم غرابة، يموت بسببه سنوياً أكثر من 200 إنسان”. ([8])
والصيام كذلك مكتوب على أتباع الديانة الزردشتية؛ التي ظهرت كديانة قبل نحو 3759 سنة في جبال (زاكروس) بكردستان داخل الإمبراطورية الفارسية بإيران، ثم منعوه! فالكهنة المتأخرون عندهم؛ يعتقدون بأنه يؤثر سلباً على العمل والصحة الجسدية، والديانة الزردشتية عظيمة التفاؤل بالحياة الدنيا، لذلك مُنِعَ الصيام فيها؛ لأنه متعب للجسد؛ ومنهك للصحة!
وأما الديانة المانوية التي تحدث عنها “ابن النديم” في الفهرست، فهي ديانة تُنسب إلى ماني المولود عام 216 م في بابل، وظهر زمن “شابور بن أردشير” وقتله “بهرام بن هرمز بن شابور”. إذ زعم أن الوحي أتاه؛ وهو في الثانية عشر من عمره؛ بعد أن كان زرادشتياً؛ ولقد كان عالماً بالأديان والمذاهب؛ وكان يقول بنبوة المسيح، ولا يقول بنبوة موسى! وكان توفيقياً بين الزرادشتية والمسيحية والبوذية. كما يعتبر بوذا وزرادشت والمسيح أسلافه في النبوة.
والديانة المانوية تبرر الشر لأن العالم من خلق الشيطان، وهي ديانة تقشفية! لذلك كان الصيام أهم أعمدتها العبادية، ونظراً لاهتمام “ماني” بالفلك؛ ساهم في تعيين مواقيت الصيام بديانته، فإنْ صار القمر نوراً كله، يُصام يومان، وإذا أهل الهلال، يُصام يومان، وإذا نزلت الشمس الدلو، ومضى من الشهر ثمانية أيام، يُصام حينئذ ثلاثون يوماً؛ يكون الإفطار فيها عند غروب الشمس.
أما الديانة البوذية التي ظهرت عام 2500 ق. م، فتعتبر الصوم جوهر العبادات، وقيل بأن بوذا كان كثير الصيام؛ ونُقلَ عنه قوله: إذا أردت لروحك أن ترتقي فابتعد عن متعة الجسد ــ ويقصد الطعام والشراب والجنس ــ والبوذي يجب عليه أن يمكث سبعة أيام في المعبد أثناء ممارسة شعيرة الصوم؛ حتى يحصل السمو الروحي إلى المقامات العليا بحسب معتقدهم.
ويتمثل الصيام في البوذية بالامتناع عن الطعام والشراب؛ وكذلك عن العمل! وتفرض تعاليم الديانة البوذية صيامَ “اليوبوزاتا”؛ وهو صيام أربعة أيام من كل شهر قمري؛ الأول منه والتاسع والخامس عشر والثاني والعشرين من الشهر القمري! وذلك بالتوافق مع منازل القمر الأربع، ويمتنع الصائم عن العمل باستثناء التأمل، وحتى طعام الإفطار للأيام الأربعة، يتم تحضيره عادة في اليوم السابق، لحرمة القيام بأي نوع من الأعمال. ([9])
الصيام عند المصريين القدماء
الصيام عند المصريين القدماء له مهام متعددة، وتمثل عملية إلغاء الحدود بين الحياة والموت إحدى أهم مقاصد الصوم! لتعطي للحياة الدنيا بعضاً من قدسية الآخرة، وتمنح الآخرة شيئاً من صخب الدنيا؛ لذلك تعاملوا مع الصيام كواجب ديني.
كذلك كان الصوم عندهم يمثل قرباناً من الأحياء لموتاهم! إذ يعتقدون بأن صيامهم يرضي موتاهم؛ عندما يحرمون أنفسهم من ملذات طعام الدنيا! فهو أشبه بعملية تضامن مع الموتى، وبذلك يكون الصيام عندهم قربةً للإله؛ ونوع من الأجر حتى يرضوا أرواح موتاهم. ([10])
وقد عرف المصريون القدماء الصيام بهدف التقرب للآلهة؛ حتى ينالوا رضاها وشكرها، ولإرضاء الموتى كما قلنا آنفاً! ومعظم صيامهم يكون أثناء الاحتفال بالأعياد المعروفة عندهم آنذاك؛ كعيد الحصاد، وعيد الربيع؛ وعيد وفاء النيل، وهناك نوع من الصيام عندهم، يمتنعون فيه عن كل شيء إلا الماء والخضروات مدةَ (70) يوماً.
ويبدأ الصيام عندهم من شروق الشمس إلى غروبها، يمتنعون فيه عن الطعام ومعاشرة النساء! وأما صيام الجمهور فيكون أربعة أيام من كل عام، تبدأ بحلول اليوم السابع عشر من الشهر الثالث من فصل الفيضان.
الصيام في الديانة الإيزيدية!
أما الإيزيدية فالصيام عندهم مقدس؛ ويعدُّ فيها نوعاً من أنواع ترويض النفس؛ للوصول إلى الرضى، ولذلك يكون الصيام، ليس عن الطعام والشراب فحسب؛ بل حتى عن الكلام البذيء والتافه!
أما كيفيته فتكون ثلاثة أيام من كل شهر؛ ولا يخلو شهر عندهم من هذه شعيرة الصيام، إذ يمتنعون في صيامهم عن الطعام والشراب من شروق الشمس؛ حتى المغيب؛ وتبدأ يوم الثلاثاء؛ وتنتهي يوم الخميس بحسب تقويمهم. هذا عند العامة عندهم. لكن رجال الدين عندهم؛ يصومون الأيام الثلاثة بشكل متتالي؛ ويفطرون يوم يُسمى (عيد ئيزي)، لذلك فالصيام في الإيزيدية؛ يُقسم إلى نوعين: صيام العامة وصيام النخبة وهم رجال الدين. وأما صوم النخبة فيستمر (80) يوماً؛ يكون نصفها في فصل الصيف، وأما النصف الآخر فيكون بفصل الشتاء. ولهم تقويم خاص بهم يسبق التقويم (الغريغوري) بنحو (11) يوماً. ([11])
الصيام عند الصابئة المندائية
يعتبر الصوم عند الصابئة الركن الخامس في عقيدتهم، وعندهم صوم الأيام المعدودات؛ وتبلغ (36) يوماً كل عام، لكنها توزع على مدار أشهر السنة، وبالإضافة لامتناعهم عن الأكل والشرب أثناء الصيام؛ فهم يمتنعون كذلك عن ذبح؛ أو قتل الحيوانات؛ كما يمتنعون عن الفواحش التي تفسد العلاقة مع الله؛ ويأكلون يوم العيد بعد نهاية الصيام لحم الخراف، كما يصومون أيام الظواهر الفلكية كالخسوف والكسوف؛ ويسمى هذا الصوم عندهم بالصوم الأصغر. ([12])
الصيام في اليهودية
في اليهودية كلمة صوم باللغة العبرية؛ تعني الأرملة الصامتة الممتنعة عن الكلام! وهو يشبه صوم مريم عليها السلام. ([13]) كما جاء عنها في القرآن (نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا). وكذلك صوم زكريا عليه السلام عندما بُشّْر بيحيى (“قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا).
والصيام عند اليهود؛ كان وما يزال رمزًا للحداد والحزن عما جرى لهم في العهد البابلي، كما كانوا يلجؤون للصيام إذا هددهم خطرًا، أو عندما يكون الكاهن يجهز نفسه للإلهام أو نبوة. ويصومون مؤقتاً؛ إذا اعتقدوا أن الله غاضب عليهم، وغير راضٍ عنهم، أو إذا حلت بالبلاد نكبة عظيمة، أو خطب كبير، أو إذا أصيبت البلاد بوباء خطير.
واليهود يصومون أيامًا عدة متفرقة من السنة، منها يوم الغفران (يوم كيبور) في شهر أكتوبر/ تشرين الأول، وهو اليوم الذي نزل فيه موسى من سيناء للمرة الأولى، ومعه ألواح الشريعة، ويستمر صيامهم لمدة (٢٦) ساعة، وهو صيام مقدس جداً عندهم، حيث يبدأ صيامهم من غروب الشمس؛ وحتى حلول الظلام.
كما يصومون يوم عاشوراء الذي نجى فيه موسى من الغرق. ويصومون الأيام التي تذكرهم بأحزان بني إسرائيل، وعلى رأسها التاسع من آب/أغسطس يوم خراب الهيكل الأول والثاني.
وكذلك يصومون ذكرى اليوم الذي حطم فيه موسى ألواح الشريعة، ويوم دخل فيه “بوختنصر” إلى المدينة، ودمرها. وكذلك عندهم صيام التطوع؛ كما عند المسلمين؛ وهو غير ملزم إلا لمن لديه أمر يريده؛ كالنذور؛ أو للتكفير عن الذنوب.
وهناك أيام أخرى للصيام عند اليهود؛ كلها مرتبطة بذكريات تاريخية؛ يستذكرون فيها المآسي التي مر بها الشعب اليهودي تاريخياً كما ذكرنا أنفاً، فيصومون بالثالث من تشرين الأول/اكتوبر لإحياء ذكرى حاكم فلسطين الذي ذُبح بعد هدم الهيكل، ويصومون أيضاً في الثالث عشر من آذار/ مارس صيام “إستير”. ويقع قبل عيد التنصيب. وصيام أسابيع الحداد الثلاثة بين السابع عشر من تموز/ يوليو، والتاسع من آب/ أغسطس، يتذكرون فيها تاريخ نهب الجنود الرومان للهيكل والقدس. وأيام التكفير العشرة بين عيد رأس السنة ويوم الغفران، وأكبر عدد ممكن من الأيام في أيلول/ سبتمبر. وأول يومي اثنين وخميس من كل شهر، وثاني يوم اثنين بعد عيد الفصح وعيد المظال. ويصومون السابع من آذار/ مارس باعتباره تاريخ موت موسى عليه السلام. إضافة لصيامات تاريخية أخرى كثيرة.
الصيام في المسيحية
الصوم عند المسيحيين يمثل ارتباطاً روحياً بالرب؛ والتزاماً منهم بتعاليم المسيح منذ نشأته حتى قيامته؛ كدليل على الإيمان به. وتحدد كل طائفة؛ أو كنيسة موعد الصوم لأتباعها، إذ لم يحدد الإنجيل الطريقة، أو الأوقات المحددة للصوم حتى يتبعها المسيحيون في مختلف أنحاء العالم.
ويُشترط بالصوم في المسيحية عدم التباهي به؛ وسريّته! تجنباً للرياء؛ ولقد أوصى بذلك المسيح عليه السلام؛ كما جاء في إنجيل متى. وفي الاجتهاد المسيحي عند الغالبية يكون الصيام اختيارياً؛ لا إجبارياً.
أما كيفية الصيام في المسيحية؛ فيكون بالامتناع عن تناول الطعام مدة (12) ساعة في اليوم على الأقل من بداية اليوم؛ وحتى انقضاء المدة، ثم يتناولون طعاماً خال من الدسم.
ومن أنواع الصيام عندهم، صوم يوم الأربعاء إحياءً لذكرى المؤامرة وخيانة المسيح؛ عندما تم إلقاء القبض عليه، ثم صُلِبَ كما في اعتقادهم، وهناك صوم الميلاد ومدته (43) يوماً تنتهي بعيد الميلاد، وهناك الصوم المقدس ومدته (55) يوماً، وهو عبارة عن الأربعين يوماً التي صامها المسيح؛ ويُضاف إليها أسبوعان، قبل الـ(40) يوماً؛ ويُطلق عليه أسبوع التهيئة والاستعداد لصوم الأربعين، أما الأسبوع الثاني هو أسبوع الآلام، ويكون بعد صوم الأربعين يوماً، حيث ينتهي بأحد القيامة، ويمتنعون في صيامهم عن أكل لحوم الحيوانات؛ وما يُستخرج منها، ويأكلون ما هو نباتي فقط؛ كما يُمنع عقد الزواج في أيام الصيام.
وهناك صيام الرسل؛ أما عدد أيامه، فيزيد وينقص بحسب اختلاف الطوائف، وتتراوح مدته بين (15) و(49) يوماً. وهناك صوم العذراء؛ ومدته 15 يومًا.
الخلاصة
من خلال ما تقدم؛ وبعد هذا العرض التاريخي المختصر لشعيرة الصوم؛ نستطيع القول بأنّ الصيام معروف منذ بدء تاريخ المجتمعات البشرية في كل الرسالات؛ وعند معظم الشعوب القديمة، ولكن في كل رسالة هناك دين موازي؛ حَرّف هذه العبادة! وأصبح للصوم أشكالاً وأنواعاً! فالله كتب الصيام؛ وهناك صيام تطوع؛ الذي بات مرتبطاً بذكريات دينية؛ وطقوساً ليست بفريضة على المتدينين.
وهناك بعض الأبحاث الطبية التي تؤكد الفائدة الصحية المهمة للجسد؛ يوفرها الصيام؛ بأشكاله المختلفة، ومنها ما يعرف اليوم بالصوم الطبي. ([14])
في النهاية نحن نعتقد بأن الرسالات السماوية تتكامل؛ لا تتنافر، فقط المتطرفين من أبناء الرسالات يتنافرون؛ فالإله الواحد، له دين واحد، وليس إلهاً متعدد الأديان؛ وأن كلمة دين في القرآن، لا جمع لها كدليل على أن الدين عند الله واحد.
والله أعلم
مراجع
[1] ـ علم الأركيولوجيا: علم الآثار أو علم الآثار القديمة (بالإنجليزية: Archaeology) وعالِمُها آثَاريّ، هو علم يختص بدراسة البقايا المادية التي خلفها الإنسان، ويبدأ تاريخ دراسة علم الآثار ببداية صُنع الإنسان لأدواته (القواطع والأدوات القاطعة)، وربما سمي علم العاديات نسبة إلى قبيلة عاد البائدة، وهو دراسة علمية لمخلّفات الحضارة الإنسانية الماضية. وتدرس فيه حياة الشعوب القديمة. وتشمل تلك المخلفات أشياء مثل: المباني والعمائر، والقطع الفنية، والأدوات والفخار والعظام.
[2] ـ حبيب مايابى: الصوم عند الشعوب.. ممارسة عابرة للحقب والأديان والثقافات.
[3] ـ صلاح عبد الله. شعيرة الصيام عبر التاريخ. مجلة العربي:
[4] ـ صلاح عبد الله: الصوم في مصر القديمة.
[5] ـ الآشوريون/السريان/الكلدان (بالسريانيَّة: ܐܬܘܪ̈ܝܐ آشورايي؛ ܣܘܪ̈ܝܐ سُريويي) هم مجموعة قومية دينية ساميّة مسيحية، تسكن في شمال ما بين النهرين في العراق وسوريا وتركيا وإيران، كما توجد أعداد أخرى في المهجر في الولايات المتحدة ودول أوروبا وخاصةً بالسويد وألمانيا. ينتمي أفراد هذه المجموعة العرقية إلى كنائس مسيحية سريانية متعددة ككنيسة السريان الأرثوذكس والكاثوليك والكنيسة الكلدانية وكنيسة المشرق. كما يتميزون بلغتهم الأم السريانية وهي لغة سامية شمالية شرقية نشأت كإحدى لهجات الآرامية في مدينة الرها.
[6] ـ أبرم شبيرا: الموسوعة الآشورية، صوم نينوى عند الاشوريين.
[7] ـ موسوعة الأديان غير السماوية:
[8] ـ محمد طيفوري: أغرب “الصوم” في تاريخ الشعوب والأقوام
[9] ـ محمد طيفوري: أغرب “الصوم” في تاريخ الشعوب والأقوام
[10] ـ صلاح عبد الله: الصوم في مصر القديمة.
[11] ـ محمد طيفوري: أغرب “الصوم” في تاريخ الشعوب والأقوام.
[12] ـ المرجع السابق.
[13] ـ جيمس فريزر من كتابه: (الفلكلور في العهد القديم).
[14] ـ ما هو الصيام الطبي؟ الصيام الطبي، أو الصيام المعتمد على الماء، أو الصيام تحت إشراف الطبيب كلها مسميات تعود لتعرف عنه، وهو إجراء يلجأ له الطبيب المختص ويجعل مرضاه خاضعين له، وهو يعتمد كليًا على الماء؛ إذ لا يجب أن يأكل المريض أو يشرب سوى الماء. من منظور طبي يجب أن تكون المدة التي ينقطع فيها الإنسان عن الطعام لا تتجاوز الثلاث أيام، لذلك فإن المدة التي قد يخضع فيها الشخص للصيام الطبي تتراوح بين 24 ساعة إلى ثلاثة أيام.
لذلك إن تجاوزت مدة الصيام 2-3 أيام على الشخص أن يقوم بالصيام الطبي في منشأة طبية مثل المستشفيات تحت رعاية طبيب مختص.
جميع حقوق النشر محفوظة لصالح مركز أبحاث مينا.