تقدير موقف
بعد الأحداث المتسارعة في سوريا؛ وسيطرت جبهة تحرير الشام وحلفائها على مدينة حلب؛ ثم وصولها إلى مشارف مدينة حماة بوقت قياسي؛ مما أصاب السوريين من كل الاتجاهات بالدهشة والتساؤل:
كيف يُسمح لتنظيم إسلاموي متطرف مُصَنّف دولياً بأنه منظمة إرهابية بهذا التمدد؟
ورغم أن الخيوط لم تتضح بشكل دقيق للجواب عن هذا التساؤل؛ دعونا نتوقف مع زعيم هيئة تحرير الشام “أبو محمد الجولاني” للتعرف على ملامح مشروعه في سوريا؛ وأين سيصل به هذا المشروع؟ وما سياسته عسكرياً وتفاوضياً؟ وهل تخلى عن أفكاره المؤدلجة سلفياً؟
الجولاني له مشروعه الخاص والطموح؛ وهو ليس بالضرورة مشروعاً وطنياً وربما يكون، بل ربما يكون مشروع إمارة! لكنه غير مستعد للتنازل عنه! ولا الاندماج بغيره خشية الذوبان! والتقديرات تؤكد أنه لن يتعاون جدياً مع المعارضة السورية المسيطر عليها تركياً، أو مع الأتراك إلا بشرط ازدياد نفوذه، ولقد حقق حلمه الأول بالتمدد نحو حلب للقضاء على المشروع الإيراني فيها؛ وليبعث برسالة للسوريين أنهم يفعل ما يمكن لصالحهم.
ويعتقد الجولاني بأنه أنشأ أنموذجاً مدنياً في إدلب أفضل بكثير من النموذج الذي صنعته تركيا في درع الفرات وغصن الزيتون؛ وأن أنموذجه يُحتذى ويستحق العيش والبقاء والنمو، فهو نجح بالوقت الذي فشل فيه الإخوان المسلمون رغم خبرتهم وتاريخهم وإمكاناتهم وعلاقتهم، كما فشل الأتراك أيضاً؛ رغم كونهم دولة عريقة.
ففي الجانب التعليمي نلاحظ أن سير جامعة إدلب يثير الإعجاب، وقد استوعبت حتى الآن أكثر عشرين ألف طالب. والمشافي تجري فيها دراسات عليا، وتدريبات للأطباء مثلها كمثل جامعات النظام، على عكس المشافي في درع الفرات وغصن الزيتون.
والملاحظ أيضاً لمن يتجول بإدلب؛ سيشاهد أن هناك انضباطاً ادارياً ملحوظاً، وأن القرارات التي تتخذها حكومة الإنقاذ تنفذ، وقرارات الوزارات مهما صغرت لا أحد يستطيع مخالفتها والقانون له هيبة.
سياسة الجولاني!
عندما قامت الثورة السورية قرر تنظيم القاعدة مد نفوذه الى سوريا؛ فتم اختيار الجولاني لكي يقود الفرع السوري تحت مسمى جبهة النصرة لأهل الشام. ويُقال بأن الجولاني كان له دور في اختيار هذه التسمية؛ ووضعِ أسسِ عملها، وبدأ منها يخطط استراتيجياً لمشروعه؛ وقد تضمن نقطتين جوهرتين:
الأولى: إنه يريد حصر عمله في مواجهة نظام بشار الأسد فقط؛ وعدم التعرض للمصالح الامريكية والغربية بشيء، بل إنه لم يسمح لغيره من التنظيمات بالتخطيط أو استهداف المصالح الامريكية، وهذا ما خفف عداء الغرب له فيما بعد؛ لا بل وأعطى مجالاً للتعاون بينهما في مكافحة الإرهاب؛ والتخلص من بعض قادة داعش الكبار الذين لجأوا إلى سوريا من خلال تقديمه بشكل ما معلومات استخباراتية؛ أدت للتخلص منهم. بعكس توجه تنظيم القاعدة الذي يؤمن بالمواجهة العالمية؛
وأما الثانية: فقد سعى عملياً ومنذ البداية الى عزل نفسه تدريجياً عن قادته في العراق؛ وتأسيس تنظيم خاص به في سوريا؛ بمعزل عن تأثيرات تنظيم القاعدة وعن تنظيم الدولة الإسلامية. وهذا مكّنه من بناء سلطة قوية متماسكة في إدلب قرارها المركزي عنده فقط.
إدلب عاصمة مشروع الجولاني!
كثيراً ما يُطرح هذا التساؤل: لماذا اختار الجولاني إدلب مركزاً لمشروعه؟ هناك عدة أسباب لذلك منها:
إن التحالف الدولي في حربه على داعش لم يسمح له بتأسيس إمارته بالمنطقة الشرقية بعد أن قام عام 2012 بعدة هجمات مع المجلس العسكري بقيادة العقيد المنشق “مهند الكاطع” على الشدادي وأطراف الحسكة لطرد الأكراد منها. كما أنّ داعش كانت أقوى منه؛ وبالتالي أما أنها ستصهره في مشروعها؛ أو تُنهيه عسكرياً لأنها كانت أقوى منه. رغم أنه رفض أن يكون ضمن القوى التي تحارب داعش أثناء حرب التحالف الدولي عليها.
فتوجه أبو محمد الجولاني إلى إدلب؛ واستقر فيها؛ وبدأ بنسج تحالفات مهمة مع أهلها من خلال عدة زيجات؛ أهمها زواجه من فتاة من آل بدوي وهي أسرة معروفة؛ ولها شقيق يعمل طبيباً بشرياً؛ وآخر قائد عسكري خدم الجولاني كثيراً سواء في المعارك العسكرية مع خصومه؛ أو في تأليف قلوب الناس في إدلب وشمال حماة وخصوصاً في حلفايا وطيبة الإمام.
الجولاني مفاوضاً!
ينتقد الجولاني كثيراً المسار التفاوضي خصوصاً الذي يجري بواسطة الروس! حتى وصف ما يجري في اللجنة الدستورية ومسار أستانا بأنه خراب، وكلها عمليات تدجين للقبول ببشار الأسد. وإن ما يؤمن به هو الحل العسكري؛ وأما الحل السياسي نتيجة ليس أكثر. وأي مكسب عسكري يؤدي الى مكسب سياسي.
ويعتمد الجولاني مبدأ المشورة في قضاياه؛ ودائماً حوله مستشارون لهم قدرة فكرية رغم إسلامويتهم الواضحة، ولكنه في النهاية لا يفعل إلا ما يمليه عليه عقله.
المشهور عنه بأنه يبدأ مفاوضاته متشدداً؛ ثم يلين بعد أن يساوم على ما يريد من خلال تشدده الأول. وكل مساومته تنتهي بموقف مرن؛ وبلهجة أقل حدة توحي بأنه يريد حلاً؛ وهو في ذلك أشبه ما يكون بالتاجر الدمشقي الذي خَبِرَ السوق.
ولعل أكثر من خَبِرَ هذه الخصلة فيه هم الأتراك؛ فلم يعدموا الوسيلة للتفاهم معه للوصول الى النتائج المرجوة التي يريدونها؛ وتنسجم مع متطلباته، التي تتلخص بأنه لا تنازل بدون تقديم ثمن؛ ولن أفعل لكم شيئاً مجاناً. لا بل إنه يعتبر أن تقديمه نقاط المراقبة في ادلب خطأً؛ لأنه لم يحصل مقابلها على الثمن الذي يستحقه.
ويعلن دائماً أن سياسته تتمثل بعدم الانضمام لمشروع لم يكن فيه مؤسساً منذ البداية؛ ولا يقبل إرسال المشاريع له للتوقيع عليها والتزامها، لذلك لا يقبل طريقة التعاطي التركية مع الفصائل والقائمة على إصدار الأوامر، كما يحرص حرصاً شديداً على عدم تسريب أية معلومة؛ مهما صغرت، فهو من أصحاب نظرية أن المعلومة قوة، فلماذا يقدمها مجاناً للآخرين؟
وبالوقت نفسه يعتقد بأن مشروعه المدافع الاساسي عن السنة العرب؛ وأنه هو رائدهم وحامي بيضتهم (وجودهم). ولذلك ينظر إلى حل المسألة السورية بأنه لن يحدث إلا إذا كان جالساً على طاولة الحل للتفاوض بصفته ممثلاً للعرب السنة؛ وبالتالي فهم الأغلبية؛ ولا يمكن إنْ حدثت عملية تفاوضية أن تمرر هذه الأغلبية ما ليس في صالحها. وهو مؤمن بأنه بات جزءاً من الحل السوري؛ ويعتقد بذلك اعتقاداً جازماً.
علاقته بتنظيم القاعدة!
على الرغم من اعترافه بأن لتنظيمه علاقة سابقة بالقاعدة؛ إلا أنه قطع معها نهائياً؛ ولم تعد لهم أية صلة بها، بل سعى بشتى الوسائل لتفكيك القاعدة في سوريا والقضاء عليها. ليس كرهاً بها؛ ولكن وجودها ووجود أي فصيل إسلامي ذي شوكة؛ يؤثر على وجود تنظيمه وشعبيته وقراره في تمثيل السُنة السوريين.
كما يعتقد الجولاني بأن الأمريكان والأوربيين لا يعترضون على تطبيقنا الشريعة؛ والتي نطبقها باعتدال ــ على حد قوله ــ لأنهم وافقوا من قبل على تطبيق طالبان للشريعة، ولكن المشكلة هي تخوفهم من القيام بهجمات ضدهم في الخارج؛ ولقد أرسل عدة رسائل للغرب ليطمئنهم في ذلك.
وهذا التطور لم يغير من موقفه من إيران والشيعة، فهو يكره الشيعة كثيراً؛ ويرى أن من واجباته لجم التمدد الشيعي، ولكن هل كراهيته لإيران مصدرها طروحات أبيه القومية؟ أم بعد تحوله للسلفية وما جرى للعراق من إيران؛ وكان شاهداً عليه؟
هيئة تحرير الشام اليوم مختلفة عما كانت عليه!
الجولاني يفتخر كثيراً بحكومة الإنقاذ؛ ويرى أنه لا تُقارن أبداً بالحكومة المؤقتة في عهد عبد الرحمن مصطفى، ويرى أنه إنْ قُدّر للشمال السوري تشكيل حكومة واحدة؛ فينبغي أن تنطلق ابتداء من حكومته حكومة الإنقاذ، ويعتقد بأن الفصائل الأخرى كفيلق الشام لها نقاط رباط؛ ولكن ليس لها مشروع حكومة.
وكان شديد القلق من تشكيل الجبهة الوطنية في إدلب؛ ورفض الانضمام إليها؛ واعتبر بأنها “مسلسل تركي” على حد قوله؛ هدفه تذويب هيئة تحرير الشام إلى فصائل تسمع وتطيع للتركي بغض النظر عن المصالح السورية.
الملاحظة المهمة لجسم الهيئة أنها تحولت إيديولوجياً بشكل كبير في قواعدعا العسكرية! بل يمكن القول إنها فقدت تدريجياً هويتها المؤدلجة سلفياً! حيث انخفض عدد العناصر المؤدلجة إلى 3% بعدما كانت نسبتهم في العام 2014 حوالي 90%، وذلك عندما فتح باب التجنيد لآلاف العناصر غير السلفية ضمن صفوف الهيئة ودون ضوابط؛ وهذا من أخطائها في حب التوسع! نتج عن هذا التوسع في عناصره دون ضابط؛ أنّ الاعتقالات التي جرت السنة الماضية كشفت عن تواجد حوالي 650 عميلاً من أصل 6000 مقاتل.
ومنذ مطلع العام ٢٠٢٢ حتى الآن تحولت “تحرير الشام” إلى شركة متعددة الجنسيات لكل دولة فاعلة في سوريا، فأمريكا استعملتها للقضاء على حراس الدين وداعش، فيما روسيا وظفتها للمعابر التجارية وإدخال المواد لمناطق النظام (غاز – سكر – وقود- عملة صعبة- غسيل أموال)، ولعبت الاستخبارات الإيرانية دوراً كبيراً لتشويهها كفصيل اسلامي سنّي. أما الاتحاد الأوروبي فاستعملها ماسحة بيانات لكل مهاجر غربي داعشي أو قاعدي.
وبقراءة الأوضاع الاقتصادية في المنطقة الواقعة تحت نفوذ الهيئة، نجد بأنها أفرزت طبقة أمراء يستخدمون سيارات فارهة يبدلونها كل شهر ويعيشون في قصور مترفة، ومولات فاخرة، ويأكلون ما لذّ وطاب؛ وربما هذا أحد الأسباب الدافعة للعناصر ليصبحوا عملاء.
أخيراً
من يظن أن الجولاني أداة للضغط فقط؛ فهو لا يعرف هذا الرجل؛ إنه يرى نفسه كممثل للعرب السنة؛ وكقائد لأهم وأكبر فصيل عسكري معارض؛ فلا مانع أنْ يطرح نفسه كبديل عن بشار الأسد؛ ما دامت انتصاراته على النظام مفرحة للسورين؛ وتحلّ جزءاً من مشاكلهم؛ وأنه صاحب الكلمة على الأرض في ظل فشل المعارضة السياسية المحسوبة على تركيا فشلاً ذريعاً.
لننتظر الأيام القادمة؛ هل سيرسل رسالته الرمزية بأنه البديل عن الأسد؟ وكيف ستُدار حلب بعد السيطرة عليها من قبل الهيئة؟ فهي الكفيلة لنعرف الجواب عن تساؤلنا عملياً.