وحدة استطلاع الرأي في مرصد مينا
في ظل ما تشهده المناطق المحررة من انفلات أمني ورقابي، وغياب للكوادر الصحية التي هاجر معظمها، انتشرت على هامش الحرب الصيدليات المخالفة التي باتت أشبه بدكاكين لبيع الدواء من أشخاص لا يمتلكون شهادات علمية تؤهلهم للعمل في المجال الطبي، ما أثر سلباً في الواقع الصحي في هذه المناطق.
يعالج هذا التقرير هذه الظاهرة الخطرة على حياة المواطنين التي تضيف إلى مآسيهم مأساة جديدة.
أصبحت عبارة “افتح صيدلية مريحة ومربحة” متداولة جداً، لتدل على استخفاف واضح بحياة الناس لتحقيق الأرباح المادية بغض النظر عن كونها مهنة حساسة، قد يؤدي الخطأ فيها إلى الموت أو تشوهات الأجنة أو حدوث مضاعفات خطرة قد لا يتمكن الأطباء في كثير من الأحيان السيطرة عليها.
أبو محمد من ريف معرة النعمان يتحدث لمينا عن معاناته من الصيدليات العشوائية بقوله:
“حالتي المادية المتردية تجبرني دائماً على اللجوء إلى الصيدلية المجاورة لمنزلنا عند مرض أولادي، ويعمل فيها جارنا أبو أسعد الذي يعاين المرضى ويصف الأدوية ويخيط الجروح وهو لا يحمل سوى شهادة الثانوية العامة. “مضيفاً: “وفي إحدى المرات قمت بإسعاف ولدي حسن ذي السبع سنوات إليه، بعد ارتفاع درجة حرارته، فقام بإعطائه دواء للصرع بدلاً من خافض الحرارة، فاحمرت عيناه وبدأ يختلج لذلك قمت بإسعافه لاحقاً إلى المستشفى، وتمكن النجاة بلطف الله”.
الطفل حسن واحد من عشرات الضحايا الذين تعرضوا لمضاعفات طبية خطرة، من جراء تلقيهم وصفات دوائية مغلوطة، ولكنه تمكن الشفاء.
ولكن أم عبيدة من معرة النعمان لم تكن كذلك، إذ خسرت جنينها من جراء خطأ من بائعي الأدوية، وعن ذلك تتحدث لمينا قائلة:
“قصدت إحدى الصيدليات للحصول على دواء لعلاج التهاب الكليتين الذي وصفه الطبيب لي، لكن الصيدلاني استبدل به دواء آخر يستعمل للاستطباب نفسه ولكنه لا يعطى للحوامل، وبعد ذلك خسرت الجنين الذي انتظرناه أنا وزوجي طويلاً”.
استئجار الشهادات
تعتبر مغادرة كثير من أصحاب شهادات الصيدلية إلى خارج البلاد بسبب الأوضاع القاسية التي تعيشها البلاد من قصف وقتل وتدمير من أبرز أسباب انتشار الصيدليات المخالفة وغير المرخصة في إدلب وريفها، إضافة إلى الحاجة المتزايدة إلى الأدوية وغياب الرقابة، وعدم قدرة الجهات المسؤولة عن القطاع الصحي على وقف انتشار هذه الظاهرة.
إذ عمد كثيرون إلى تأجير شهادات الصيدلة، وبخاصة الأشخاص الذين تقع صيدلياتهم في أماكن ساخنة.
أمجد العبد من بلدة جرجناز في ريف إدلب استأجر شهادة صيدلة للعمل بموجبها وعن ذلك يقول: “عملت مساعد صيدلاني أكثر من عشر سنوات وأصبح لدي خبرة واسعة في هذا المجال، لذلك قمت باستئجار شهادة صيدلة لمزاولة المهنة، علماً أنني لا أصرف أي نوع من الأدوية من دون وصفة طبية”.
من مهنة إنسانية إلى تجارة تؤذي الناس
الصيدلانية مريم الحسن من مدينة إدلب تنتقد ظاهرة الصيدليات المخالفة موضحة لمينا بقولها: “إمكان فتح صيدلية من دون ترخيص أصبح في متناول الجميع عند توفر المكان ورأس المال ومعرفة ولو بسيطة بأنواع بعض الأدوية، من دون الإلمام بالتأثيرات الجانبية والتركيبات الكيميائية لكل نوع من الأدوية”.
وتشير الحسن: “إلى أن بيع الأدوية عشوائياً يؤدي إلى أخطاء كثيرة قد يقع فيها بائعو الدواء من دون الأخذ بعين الاعتبار وجود أنواع من الأدوية تتشابه في الاسم، ولكنها تختلف اختلافاً كلياً في المفعول والخصائص، وكثير منهم لا ينتبهون إلى مدة صلاحية الدواء ويغفلون عن فحصه قبل إعطائه”.
وتؤكد الحسن أن الدواء هو مادة كيميائية ولها تأثيرات جانبية، فالصيدلاني هو الوحيد القادر على معرفة مكونات الدواء، وبخاصة أن كثيراً من الناس يعتمدون على الصيدلاني للاستطباب في هذه الأيام من دون اللجوء إلى طبيب مختص اختصاراً للتكاليف بعد تردي الأحوال العامة التي لا تخفى على أحد، وهنا يكمن دور الصيدلاني الأكاديمي الذي يجب أن يكون قادراً على تشخيص المرض إذا اقتضت الحاجة”.
وهذا ما أكده حسين المحمد من ريف معرة النعمان الشرقي بقوله: “لقد صرف صاحب الصيدلية الوصفة الطبية التي وصفها الطبيب لمعالجة ابنتي الصغيرة من الزكام، لكنني بعد أيام نظرت مصادفة إلى صلاحية الدواء لأجد الدواء منتهي الصلاحية منذ أكثر من ثلاثة أشهر، فلجأت إلى الطبيب لخوفي الشديد من ضرره، فأكد لي أنه غير ضار، مؤكداً أن الدواء منتهي الصلاحية منذ أشهر لا ينفع ولا يضر، أما الذي انتهت مدته منذ سنوات فهو قاتل لا محالة”.
بيع أدوية من دون وصفة طبية
أصبح الحصول على الأدوية المتنوعة في الآونة الأخيرة أمراً يسيراً من بائعي الأدوية، علماً أن 80 في المئة من الأدوية السورية يمنع بيعها من دون وصفة طبية.
وحتى الأطفال ليسوا بمنأى عن مخاطر تجار البشر وبائعي الأدوية الذين باتوا يبيعون للأطفال الرضع وغيرهم عقاقير مهدئة ومنومة، بهدف ضمان عدم إصدار أي صوت منهم خلال قطع أهلهم الطريق إلى تركيا بطريقة غير مشروعة، والحد من حركتهم وعدم كشف أماكن وجودهم من حرس الحدود التركية، الأمر الذي يؤدي خلال ساعات قليلة إلى موت كثير منهم بسبب الجرعة الزائدة، أو الإصابة بمضاعفات خطرة كضيق التنفس”.
الطبيب محمد حاج قدور من مدينة التمانعة في ريف إدلب أخصائي أطفال يتحدث لمينا عن مخاطر مزاولة مهنة الصيدلة من غير المختصين فيقول: “الصيدليات المخالفة هي بمنزلة خرق لمهنة الصيدلة وخصوصاً في السنوات الأخيرة، إذ أصبحت الأدوية تباع فيها عشوائياً، ما يؤدي إلى أخطاء جمة، فقد قمت بمعالجة حالات كثيرة لأطفال أصيبوا بالتسمم الدوائي بسبب الصرف العشوائي للدواء والجرعات الخاطئة”.
ويشير حاج قدور إلى أن بائعي الدواء يعمدون إلى بيع الأدوية من دون وصفة طبية متناسين أن الأطباء يصفون الدواء للمريض بعد كثير من الفحوصات والتحاليل المخبرية ومراعاة العمر والوزن لكل مريض، لأن التعامل مع الأدوية يجب أن يكون دقيقاً حتى لا يكون سماً قاتلاً عند حصول أي اختلاطات.
ويتعجب حاج قدور من غرور بعض الصيادلة الذي يدفعهم إلى تغيير بعض الأدوية التي يصفها الطبيب، أو صرف أدوية خطرة من دون وصفة طبية لا يصرفها الطبيب المختص إلا في حالات الضرورة القصوى كالأدوية النفسية والمخدرة وغيرها.
الشاب عوض الخالد من مدينة خان شيخون تعرضت حياته للخطر عند لجوئه إلى أحد ممتهني الصيدلة لصرف وصفة طبية بعد إصابته بمرض القرحة المعدية، فاستبدل به الصيدلاني دواء آخر مميعاً للدم، ما أدى إلى احمرار في العينين وازدياد حالته سوءاً، وأُسعِف إلى المستشفى في آخر لحظة.
دور دائرة الرقابة الدوائية
أمام خطورة هذا الوضع وضعت مديرية الصحة الحرة خطة عمل وفق جدول زمني لمعرفة الصيدليات المخالفة المفتوحة من دون إدارة صيدلاني فيها أو الصيدليات أو المستودعات التي يديرها صيادلة غير مرخصين في إدلب وريفها، وعن ذلك يتحدث الطبيب علاء أحمدو مدير قسم الرقابة الدوائية في مديرية الصحة الحرة في إدلب قائلاً: “لقد جاءتنا شكاوى كثيرة من الأهالي عن وجود أشخاص ليسوا أخصائيين وغير مؤهلين لوصف الأدوية الصحيحة وبيعها، ولكبح ظاهرة الصيدليات العشوائية المخالفة وتنظيم عمل الصيادلة قامت دائرة الرقابة بجولات على الصيدليات المخالفة، إذ بدأنا العمل على توجيه إنذارات إلى الصيدليات المخالفة كافة في المحافظة، واستصدار التعاميم الخاصة بسحب الأدوية المخالفة وتعميمها على مستودعات بيع الدواء والمراكز الصحية والمستشفيات، إذ تعمل الرقابة الدوائية بالتعاون مع المجالس المحلية والمكاتب الطبية الموجودة فيها إضافة إلى المؤسسات القضائية للمساعدة في السيطرة على تلك الظاهرة والحد من انتشارها وتفاقمها. مؤكداً أن شعبة الرقابة لديها قواعد بيانات لكامل محافظة إدلب، وقد بدأ العمل في المناطق الأساسية ومراكز المدن، فيما سينتقل العمل لاحقاً إلى بقية المناطق تدريجياً، وذلك من خلال إرسال إنذارات في البداية ليتسنى للمخالفين تسوية أوضاعهم لدى مديرية الصحة الحرة، وفي حال عدم الاستجابة ستُغلق الصيدليات المخالفة بالشمع الأحمر”.
الصيدلاني حسين الفارس من معرة النعمان يتحدث مينا قائلاً: “الصيدليات المخالفة تشكل تهديداً مباشراً على حياة الناس كون القائمين عليها لا يملكون أي خبرة، فهي تشبه إلى حد كبير محال بيع المواد الغذائية، إذ يتنافس البائعون ويتسابقون في عمليات البيع والشراء، من دون أي خبرة في مجال عملهم، فكل ما تحتاج إليه هذه المهنة في نظرهم خبرة بسيطة في مجال الأدوية وقليل من المال”.
مضيفاً: “أغلب الأشخاص قبل افتتاح صيدليات خاصة بهم يزاولون المهنة في إحدى الصيدليات مدة لا تتجاوز ثلاثة أشهر في الأحيان معظمها، في الوقت الذي يدرس فيه الصيدلاني الأمور المتعلقة بالأدوية مدة خمس سنوات في كلية الصيدلة ليكون قادراً على وصف الدواء الملائم لكل حالة مرضية، إذ يقصدهم المريض لشراء الدواء من دون معرفة مسبقة إن كان البائع يحمل شهادة ثانوية أم لا”.
احتكار المستودعات للأدوية
عانت إدلب ما عانت تهجيراً وتشرداً وقصفاً وقتلاً بأنواع الأسلحة كلها، وها هي أيضاً تعاني احتكار الأدوية من المستودعات بهدف زيادة الطلب عليها ومن ثم المساهمة في غلاء أسعارها، إذ كثرت شكاوى الناس من جراء معاناتهم مع الدواء سواء من حيث عدم توافره أو قلة فاعليته أو غلاء أسعاره، فصحيح أن توقف كثير من معامل الأدوية وصعوبة إدخالها إلى المناطق المحررة، يرفع أسعارها ويقلل توافرها، ولكن ما يزيد معاناتهم أيضاً احتكار الموزعين للأدوية، وينطبق ذلك على أدوية الأمراض البسيطة والعادية، فضلاً عن أدوية الأمراض المزمنة والخطرة.
الصيدلاني محمود العبدو من مدينة سراقب يحدثنا عن ذلك: “أسعار الأدوية عموماً متفاوتة وتختلف باختلاف الموزع وصاحب المستودع الدوائي، ويعود هذا التفاوت في أسعار الأدوية الى احتكار بعض الموزعين كميات كبيرة من الدواء، لبيعها بأسعار مرتفعة إذ لا يوجد رقيب ولا حسيب، لهذا السبب لا نستطيع تحديد سعر الدواء أو حصره مع اختلاف أسعار الأدوية وتفاوتها من صيدلية إلى أخرى، علماً أن مشكلة تفاوت الأسعار ليست المشكلة الوحيدة التي تواجه قطاع الدواء، ففقدان بعض الأصناف من الأدوية كأدوية الأمراض المزمنة، هي المشكلة الأخرى التي يواجهها المريض في المناطق المحررة”.
انتشرت الدكاكين الطبية في ظل الحرب، إذ تتحول فيها المواد الغذائية إلى علب أدوية ووصفات طبية تعطى من أشخاص لا يمتون إلى المهنة بأي صلة، ليكون الربح والكسب المادي الهدف الأساس بغض النظر عن الخطر الذي يهدد حياة الناس وإمكان تحول الدواء إلى سم قاتل عند حدوث أي اختلاطات، في ظل غياب الرادع الأخلاقي أولاً والرقابي ثانياً الكفيلين بالحد من تنامي تلك الظاهرة العشوائية التي يدفع المواطن الثمن الأكبر لها.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي.