ياسين بودهان
مع بداية الحَرَاك الجزائري في الثاني والعشرين من شباط / فبراير الماضي، كانت مطالب الجزائريين واضحة ومُحددة، وتتلخص في عدم ترشح الرئيس الأسبق عبد العزيز بوتفليقة لولاية رئاسية خامسة، بَيد أن هذا المطلب أصبح ثانوياً مع استقالة الرئيس، وبعد صدور بيان الجيش قبل استقالته بساعات قليلة في الثاني من نيسان/إبريل الماضي الذي وصف فيه قائد الأركان الفريق أحمد قايد صالح محيط بوتفليقة بـ: “العصابة” التي كونت ثروات طائلة بطرق غير شرعية وفي وقت قصير، دون رقيب ولا حسيب، مستغلة قربها من بعض مراكز القرار المشبوهة.
حديث قيادة الأركان، ولأول مرة، وبشكل مباشر عن الفساد الذي كانت تشهده البلاد خلال عقود، وبلغ ذروته خلال العشرين عاماً الماضية، وهي السنوات التي تمثل حكم بوتفليقة، أمرٌ دفَع بالجزائريين إلى عدم الاكتفاء فقط برحيل بوتفليقة، بل برحيل رموز نظامه الفاسدين كلهم..!
وفي الواقع فإن الحديث عن استشراء الفساد في مؤسسات الدولة الجزائرية ليس حديث العهد، بل كان الفساد أحد أهم المعضلات التي تواجه البلاد عبر عقود من الزمن، ولطالما حذّر من تداعياته وخطورته سياسيون جزائريون ومنظمات دولية، لكن السلطة الجزائرية كانت دائماً ما تواجه تلك الاتهامات والانتقادات بالرفض، وتتهم منتقديها بمحاولة ضرب استقرار البلاد وتعطيل عجلة التنمية.
فما قصة الفساد بالجزائر؟! وما حجمه؟! وكيف كشف الحَرَاك عن الحجم المهول لهذه الظاهرة التي عطلت الاقتصاد الجزائري لعقود من الزمن، وجعلته رهينة للجباية النفطية بنسبة 98 بالمئة رغم المقدرات التي تمتلكها الجزائر..؟!
جذور الفساد في الجزائر
في دراسة له بعنوان “باريس وشبكات الفساد الخفية في الجزائر.. من سيجرؤ على محاربتها؟” يؤكد الباحث والأكاديمي الجزائري الدكتور نسيم بلهول أن الفساد في الجزائر قديم العهد، وأن ما أسماه بإمبراطورية الفساد في الجزائر تعود إلى ما قبل حكم آل بوتفليقة، وتحديداً إلى ذلك “الترابط المصلحي بين يهود الجزائر وبوابتها الجنرال العربي بلخير من جهة، وقصر الإليزيه من جهة أخرى، من خلال تأسيس لجنة العلاقات الجزائرية الفرنسية التي أسسها الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران في ثمانينيات القرن الماضي لسلسة من التصفيات الجسدية – بسواعد جزائرية – راح ضحيتها أبو الديمقراطية في الجزائر، الراحل قاصدي مرباح القائد السابق للمخابرات الجزائرية وخيرة أبناء الجزائر”. 1
يؤكد الباحث بلهول أن سلسلة الاغتيالات تلك كانت بهدف إفشال المجهود الذي قامت به “لجنة مستقبل الجزائر” التي أسسها الراحل “قاصدي مرباح” تحت بطانة أكاديمية وطنية راقية على غرار كل من الراحلين البروفيسور “جيلالي اليابس” و”محمد بوخبزة” وغيرهما كثير، تقارير هذه اللجنة يؤكد “بلهول” “حتى الآن لم يطلع عليها الجزائريون كونها أشارت بصراحة إلى أن سبب الفساد في الجزائر هو جنرالات فرنسا (القوة المحلية الثالثة) التي نخرت الاقتصاد الوطني، وأنهكت موارده المالية، في إطار ثراء فاحش أساء إلى سمعة الجيش الجزائري”.2
ورغم أن جذور الفساد تعود إلى عهد ما قبل حكم آل بوتفليقة، إلا أن حجم الظاهرة بلغ أوجه مع حكم هذه العائلة الذي استمر مدة عشرين عاماً، فما السبب في ذلك؟
يكشف “بلهول” أن الأغلبية ممن أسماهم ب “القوة المحلية الثالثة” ينتمون إلى نوادي الروتاري في الجزائر، مثلهم مثل بقية رجال الأعمال في الجزائر وضرب مثالاً بالملياردير علي حداد الناشط في نادي الروتاري بغليزان، والرئيس الأسبق لمنتدى رؤساء المؤسسات، وهو أكبر تنظيم لأرباب المال في الجزائر.
هؤلاء الأثرياء تمكنوا خلال فترة الرئيس بوتفليقة من بسط نفوذهم وأسسوا لما يسمى بـ: “المافيا السياسية المالية”، وهي جماعة ضاغطة استطاعت خلال حكمه التأثير في توجهات الحكم، والاستئثار بأكثر من 80 بالمئة من المشاريع الحكومية بأساليب غير قانونية، ووصل الأمر بهم إلى إقالة الوزير الأول السابق عبد المجيد تبون بعد أن أقر مجموعة إجراءات عدُّوها استهدافاً لرجال الأعمال ولشركاتهم العملاقة.
أرقام ومؤشرات.. دولية ومحلية
خلال حكم الرئيس عبد العزيز بوتفليقة 1999/ 2019 شهدت الجزائر أزهى فتراتها مالياً، فبعد أن خرجت من أزمة أمنية استمرت أكثر من عقد من الزمن، دفعت فيها فاتورة باهظة تجاوزت 200 ألف قتيل، وخسائر مادية تتجاوز الـ 50 مليار دولار، وجدت الجزائر نفسها بعد عام 1999 أفضل حالاً بسبب تحسن أسعار النفط في الأسواق العالمية، وتشير إحصاءات حكومية إلى أن الجزائر حققت منذ إقرار قانون تأميم المحروقات في عهد الرئيس الأسبق هواري بومدين ما يعادل 1145،7 مليار دولار، ألف مليار دولار منها في عهد الرئيس بوتفليقة فقط، هذه الطفرة المالية دفعت بالحكومات المتعاقبة في عهد بوتفليقة إلى وضع العديد من البرامج الإنمائية التي أطلق عليها اسم البرامج الخماسية، وهي أربعة برامج كل برنامج يستمر لمدة خمسة أعوام تمثل عمر الولاية الرئاسية الواحدة، متعلقة بتمويل مشاريع الإنماء والتجهيز ومختلف المنشآت القاعدية.
الطفرة المالية للجزائر دفعت بالمقابل بوتفليقة إلى اتخاذ قرار عام 2005 يقضي بوقف الاستدانة الخارجية، مع اللجوء إلى الدفع المسبق للدين الخارجي، ما ساهم في تراجعه إلى نحو 4 مليارات دولار أمريكي في العام 2016 فقط، بعد أن كانت في حدود 30 مليار دولار عام 1999.
لكن هذه الطفرة المالية لم يقابلها إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية تنتشل الجزائر من دائرة التخلف، وتحررها من التبعية المطلقة للعائدات النفطية، بل حوّلها إلى دولة ريعية بامتياز، استشرى فيها الفساد الاقتصادي والسياسي، بل واتخذ الفساد طابعاً سياسياً وأصبح مهيكلاً ضمن أجهزة الدولة، ما جعل الجزائر دولة لا تختلف عن حال الأنظمة التي تتخذ من الفساد سبيلاً للحفاظ على الوضع السلطوي القائم، لذلك كان النظام دائماً يرى أن الدعوة لمكافحة الفساد واستئصال جذوره يعني استئصال النظام واقتلاعه من الجذور.3
وخلال السنوات التي تمثل عمر حكم الرئيس الأسبق عبد العزيز بوتفليقة، وبينما كان الموالون له يروجون لإنجازات وهمية، كانت مختلف التقارير الدولية المختصة في مكافحة الفساد تنقل صورة قاتمة وسوداوية عن حصاد الرئيس الذي تعهد منذ ولايته الأولى عام 1999 بإنعاش اقتصاد البلاد المنهك، لكن مضت عشرون عاماً من فترة حكمه ليترك البلاد غارقة في دوامة من المتاعب الاقتصادية وقضايا الفساد اللامتناهية.
وفي تقريرها حول مؤشر الفساد العالمي للعام 2018، وضعت منظمة الشفافية الدولية الجزائر في المرتبة 105 من أصل 180 دولة بمعدل 35 نقطة من أصل 100 نقطة، وقبل ذلك بسنوات قليلة أعلن التحالف الدولي للصحفيين الاستقصائيين ضمن تسريبات وثائق بنما وتسريبات أوراق بردايز عن تورط 79 شخصية ومؤسسة اقتصادية جزائرية في تهريب الأموال نحو ملاذات ضريبية آمنة.
يصنف تقرير التنافسية العالمية لفترة 2018-2019 الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي الجزائر في المرتبة92 عالمياً من أصل 140، وذلك بعد حصولها على53.8 نقطة من أصل مئة.
وضمن المؤشرات الفرعية التي استند إليها واضعو مؤشر التنافسية، نجد أن البلاد احتلت موقعاً متخلفاً جداً في مجال انتشار ظاهرة الفساد بحلولها في المرتبة 96 عالمياً وفي مجال شفافية الميزانية أيضاً في المرتبة 116 4
وضمن آخر تقرير سنوي عن الحرية الاقتصادية في العالم الصادر عن مؤسسة هيرتيج الأمريكية صنفت الجزائر في المرتبة 171 عالمياً و14 إقليمياً، وأفاد التقرير أن الفساد في الجزائر مستشرٍ في القطاعين الخاص والعام وخصوصاً في قطاع الطاقة.
وخلال العشريتين السابقتين استيقظ الجزائريون على قضايا فساد كبيرة جداً أشهرها فضيحة الخليفة بنك التي تورط فيها الملياردير القابع في السجن عبد المؤمن خليفة، وهو الشاب الذي لم يتجاوز سن الأربعين وكوّن امبراطورية مالية تضم عدة شركات متخصصة في الطيران والبنوك والعقارات والإعلام، إلى جانب قضية الطريق السيار شرق – غرب، والمسمى بمشروع القرن، الذي كلف ميزانية الدولة19 مليار دولار، بعد أن رصدت له ميزانية أولية لا تتجاوز7 مليارات دولار، إلى جانب قضية “سونطراك” وهي الشركة النفطية العملاقة التي تورط فيها كبار الشخصيات في مقدمتهم وزير الطاقة السابق “شكيب خليل” المقرب جداً من بوتفليقة وعائلته، حيث اضطر للفرار إلى أمريكا إثر اتهامات وجهت له بالفساد وعلى وقع اتهامات وجهتها محكمة ميلانو الإيطالية لعدة مسؤولين جزائريين بالتورط في فضيحة مجمع “إيني” الإيطالي للنفط والغاز، من خلال تقديم رشاوي قدرت بحوالي200 مليون يورو لمسؤولين في قطاع الطاقة الجزائري، مقابل الحصول على عقود مشاريع النفط والغاز وعقود امتيازات أخرى في الجزائر، بقيمة تتجاوز 8 مليارات يورو، بين سنتي2007 و2009
أجهزة عاجزة وفاسدة لمكافحة الفساد
قبل أسبوعين فقط من بداية الحراك الشعبي الجزائري في الثاني والعشرين من شباط/ فيفري الماضي، أطل وزير العدل حافظ الأختام السابق “الطيب لوح” على الجزائريين بخطاب ألقاه أمام البرلمان خلال مناقشته لمشروع قانون خاص بمكافحة الفساد داعياً إياه لعدم تصديق كل ما يقال عن الفساد ببلاده، بقوله “بعض المنظمات غير الحكومية تتحدث عن الفساد في الجزائر، دون ذكر أي شيء جميل في القوانين الجزائرية”، مضيفاً “الذي يتحدث عن الفساد في الجزائر لا يهمنا، فنحن نسير في الطريق الصحيح في هذا المجال”. مفيداً بأن الجزائر دعت منذ سنين لإعادة المنظومة المالية الدولية. 5
لكن يبدو أن خطاب الوزير لم يجد قبولاً لدى الجزائريين، وعلى العكس تماماً تحولت ملفات الفساد إلى وقود للحراك الشعبي الذي رفع منذ أيامه الأولى شعار رحيل كل الفاسدين ومعاقبتهم، وانتقدوا بشدة السياسات الحكومية القاصرة في مكافحة الظاهرة.
فرغم إعلان الحكومة عن تأسيس العديد من الأجهزة الحكومية لمكافحة الفساد آخرها “الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد” والتي تم تأسيسها عام 2016، إلا أنها ظلت مجرد هيئة لا دور يذكر لها في مكافحة الظاهرة.
وخلال الاحتفال باليوم العالمي لمكافحة الفساد انتقدت الجمعية الجزائرية لمكافحة الفساد الآليات الحكومية لمكافحة الظاهرة، وتحدثت الجمعية في بيان لها حمل توقيع رئيسها جيلالي حجاج عن غياب الإرادة السياسية لمكافحة الظاهرة، واستدلت على ذلك بعدة أدلة أبرزها أن قانون 20 شباط/فيفري الخاص بمكافحة الفساد لا يتناسب مع توصيات اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد.
“حجاج” عدَّ غياب استقلال الهيئة الوطنية للوقاية ومكافحة الفساد، هو غياب تؤكده الوقائع، فهذه المنظمة الحكومية غائبة تماماً عن الحياة العامة، والأكثر خطورة، إنه بعد 12 سنة من إنشائها، أطلقت للتو دعوة لتقديم الطلبات للخبراء والاستشاريين وكبار المسؤولين، مؤكدة على سباتها العميق.
حجاج تحدث أيضاً عن قصور القانون في حماية المبلغين عن الفساد بقوله: “في حين تصر اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد على حماية المبلغين وضحايا الفساد، فإن القانون الجزائري الصادر في20 شباط/فيفري 2006 يضع فوق كل اعتبار العقوبة الافترائية!، وهذا ما تؤكده الحقائق أيضا فالمبلغون عن الفساد يتعرضون لعمليات انتقامية منهجية، حتى السجن التعسفي، وهي ممارسة تتجلى بعمق في أنباء الأسابيع الأخيرة”.6
وفي تقريرها الصادر بتاريخ 8 كانون الأول ديسمبر 2018 تعتقد الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الانسان بأن محاربة الفساد تتطلب وجود إرادة سياسية حقيقية، وأن “التشريعات المتعلقة بمكافحة الفساد في الجزائر لم تأت بناءً على رغبة جدية من السلطة في محاربة الفساد، لكنها جاءت برغبة سياسية للتوافق مع مقررات الأمم المتحدة والاتفاقيات الدولية ليس إلا ما أفرغ هذه القوانين من كل روح فعلية لتنفيذ عمل جدي لمحاربة الفساد في الميدان.7
تشير آخر الأرقام التي أحصتها الأكاديمية الوطنية لمكافحة الفساد، إلى أن “حيلة التقادم سمحت لأكثر من 65 ألف جريمة اقتصادية بالتهرب من ملاحقة العدالة..
إنَّ 75 بالمئة من مجموع القضايا التي كانت الجزائر مسرحاً لها على مدار18 سنة، أي من2000 إلى غاية 2018، تخص فضائح من عيار ثقيل سمحت للمتورطين فيها من الإفلات من عقوبات تصل إلى المؤبد”. 8
حراك فبراير ثورة على الفساد
في غمرة اليأس والإحباط التي أصابت الجزائريين عشية إعلان بوتفليقة ترشحه لولاية رئاسية خامسة تفجّرت الشوارع الجزائرية غضباً ورفضاً لاستمرار حكم الرجل الذي أتى على الأخضر واليابس، وبعد أن فقد الجزائريون الأمل في التغيير فقد تحول حراك 22 فبراير/شباط الذي كان مفاجئاً وصادماً للنظام إلى مناسبة للجزائريين ليس فقط لعدم ترشح بوتفليقة الذي كان المطلب الأول بل لتغيير جذري للنظام ورحيل كل رموزه ومحاسبتهم.
وقبل سقوط بوتفليقة، وتماهياً مع الحراك الشعبي ومطالبه، ولأول مرة يصف بيان قيادة الأركان الصادر قبل ساعات من استقالة بوتفليقة في الثاني من نيسان/إبريل الماضي محيط بوتفليقة بالعصابة، وقال البيان الذي نقل خطاباً لقائد الأركان أحمد قايد صالح:
“وبخصوص عمليات النهب التي عاشتها البلاد، وتبذير مقدراتها الاقتصادية والمالية فقد تساءل كيف تمكنت هذه العصابة من تكوين ثروات طائلة بطرق غير شرعية وفي وقت قصير ودون رقيب ولا حسيب، مستغلة قربها من بعض مراكز القرار المشبوهة، وها هي ذي تحاول هذه الأيام تهريب الأموال المنهوبة والفرار إلى الخارج، ويجدر التنبيه إلى أن قرارات المتابعات القضائية المتخذة ضدها، صدرت عن العدالة من خلال النيابة العامة التي تحركت استجابة لمطالب شعبية ملحة، إذ اتخذت تدابير احترازية تتمثل في منع بعض الأشخاص من السفر، لحين التحقيق معهم كما قامت الهيئات المخولة لوزارة النقل بتفعيل إجراءات منع إقلاع وهبوط طائرات خاصة تابعة لرجال أعمال في مختلف مطارات البلاد، طبقاً للإجراءات القانونية السارية المفعول”.9
البيان السابق للجيش كان محطة حاسمة في الحراك الشعبي، وكان مدخلاً لاعتقالات واسعة طالت رجال أعمال وسياسيين من الوزن الثقيل مقربين من بوتفليقة، أبرزهم رجال الأعمال علي حداد (الرجل الثالث على قائمة الأغنياء بثروة تقدر بـ1.8 مليار دولار) صباح31 آذار/ مارس الماضي على الحدود التونسية، وأسعد ربراب الذي تقدر ثروته بأربعة مليارات دولار يوم22 نيسان/أبريل الماضي بتهم التزوير وتحويل الأموال مع تضخيم الفواتير، والإخوة كونيناف العائلة المقربة جداً من الرئيس بوتفليقة التي تمتلك أكثر من 300 مليون دولار بتهم فساد وتمويل خفي للأحزاب، ومحي الدين طحكوت ثاني أغنياء الجزائر بملياري دولار، إلى جانب الوزيرين الأوّلين أحمد أويحيى وعبد المالك سلال، وعدة وزراء وشخصيات سياسية أبرزهم زعيمة حزب العمال التروتيكسية لويزة حنون التي سجنت برفقة رئيسي جهاز المخابرات سابقاً الفريق محمد مدين المعروف بالجنرال التوفيق، واللواء عثمان طرطاق.
ترحيب بالحملة لكن بتوجس
رغم ترحيب الجزائريين بسلسلة الاعتقالات التي طالت الفاسدين من رموز النظام، ورغم عدِّها إحدى حسنات الحراك ومنجزاته الهامة، إلا أن ترحيبهم هذا يرافقه توجس وخوف من النوايا الحقيقية للمتمسكين بزمام السلطة الآن في البلاد، فرغم أن حملة الاعتقالات تتماهى مع مطالب الحراك الشعبي إلا أن ثمة العديد من الممارسات التي تشكك في النوايا الحقيقية للنظام من وراء الحملة المعلنة لمكافحة الفساد ومحاكمة رموزه، ويخشى الجزائريون من أن تتحول هذه المحاكمات لمجرد وسيلة لإلهاء الحراك الشعبي وتشتيته، وأن يتحول إلى وسيلة لتصفية الحسابات بين عصب النظام من خلال محاكمات انتقائية.
ورغم تأكيد قائد الأركان قايد صالح في حديث تناقلته وسائل إعلام محلية في 30 نيسان/أبريل الماضي أن الأمر لا يتعلق “لا بانتقائية ولا بتصفية حسابات”، إلا أن تمسك السلطة الحالية بالحكومة المرفوضة شعبياً بقيادة الوزير الأول نور الدين بدوي الذي يتهمه الجزائريون بتزوير استمارات ترشح الرئيس بوتفليقة في الانتخابات التي تم إلغاؤها في نيسان/إبريل السابق يطرح العديد من التساؤلات لدى الجزائريين.
ويُعدُ رحيل الحكومة الحالية مطلباً ملحاً للحراكيين، ويعدون أن التغيير الحكومي المطلوب وإسناد الحكومة لتكنوقراط مدخلاً أساسياً لحل الأزمة الحالية بالذهاب لانتخابات شفافة ونزيهة يختار من خلالها الجزائريون رئيساً جديداً للدولة يحظى بالشرعية، ويرون أن هذا هو السيناريو الأوحد لضمان نجاح حملة مكافحة الفساد الجارية، فتنظيم انتخابات في ظل غياب ضمانات لنزاهتها سيفتح المجال واسعاً لعودة رموز نظام بوتفليقة، والإفلات مجدداً من المحاسبة والعقاب. ما سبق يفسر استمرار الحراك رغم مرور 26 أسبوعاً من انطلاقه، وذلك رغم تشكيل هيئة الحوار الوطني برئاسة رئيس البرلمان الأسبق كريم يونس، وهي الهيئة التي تواجه انتقادات واسعة بسبب طريقة تشكلها وأعضائها.
وبالنسبة للفساد فإن الهاجس الأكبر لدى الجزائريين هو كيفية استرداد الأموال المنهوبة على مدار عقود من الزمن، فلا يكفي برأيهم اعتقال الفاسدين لسنوات بل الأهم هو إرجاع الأموال المنهوبة خاصة تلك المهربة نحو الخارج، وتقدر بحسب بعض الخبراء بأكثر من 200 مليار دولار، في حين أكد رئيس الهيئة الوطنية للوقاية من الفساد ومكافحته طارق كور، في 11 تموز/ يوليو الماضي خلال ندوة صحفية على هامش يوم دراسي حول موضوع “استرداد الموجودات.. الواقع والتحديات” صعوبة تقدير حجم الأموال المهربة من الجزائر إلى الخارج والتي توجد حالياً محل قضايا مفتوحة على مستوى القضاء.
وفي رده على سؤال حول حجم الموجودات والأموال الناتجة عن الفساد والمهربة إلى الخارج، تحفّظ رئيس الهيئة الوطنية للوقاية من الفساد ومكافحته عن تقديم تقديرات بهذا الخصوص، من منطلق أنَّ “هذه الملفات مفتوحة على مستوى القضاء وتتسم بالسرية كما أنه “من المستحيل تقدير هذه الأموال في البداية”. وأكد بهذا الخصوص أن عملية استرداد هذه الأموال المحولة إلى الخارج وتعود ملكيتها للدولة “تعرقلها معوقات كثيرة”. 10
خاتمة
في الأخير ينبغي التأكيد على أن للجزائريين فرصة تاريخية لإحداث إصلاح سياسي شامل لنظام بلادهم، وينبغي التأكيد على أن حملة مكافحة الفساد على أهميتها، وأهمية الإجراءات التي اتخذت حتى الآن باعتقال رموز الفساد، إلا أن هذه الحملة لا يمكن أن تنجح في النهاية دون استئصال مسببات هذه الظاهرة التي جعلت من الجزائر بلداً منهكاً على وقع الأزمات الاقتصادية والسياسية، رغم ما يمتلكه من مقدرات تؤهله لأن يكون من البلدان المتطورة.
ولأن ظاهرة الفساد في الجزائر هي بمثابة جبل الجليد بحكم العلاقات القوية لشبكات الفساد محلياً ودولياً، مثلما تم إبرازه في هذه الدراسة، فإن عملية القضاء عليها تتطلب تجنيداً شعبياً كبيراً، ولكن إلى الآن يتم التعاطي مع الفساد من خلال ضرب رموزه في أعلى الهرم، وهي خطوة مهمة، لكن لا يمكن للعملية أن تنجح دون استهداف القواعد الخفية للظاهرة، عمودياً وأفقياً، فالظاهرة تفشت في أغلب الإدارات والمؤسسات الحكومية والخاصة.
ولأن مطالب الحَرَاك الشعبي لم تتجسد كاملة حتى الساعة، وبشكل خاص مطلب رحيل الحكومة، وتوفير ضمانات أساسية لانتخابات حرة ونزيهة تُمكّن الجزائريين من انتخاب رئيس شرعي للبلاد، فإن المخاوف قائمة من عودة رموز النظام الذي يطالب الجزائريون برحيله، فلجنة الحوار التي تشكلت لا تحظى بتوافق الجزائريين، ويعدُّها بعضهم محاولة من السلطة للالتفاف على الحراك ومطالبه، لذلك ينبغي تأكيد ضمان استمرار مكافحة الفساد واستئصال جذوره ولا يمكن أن يتحقق إلا بتغيير حقيقي للنظام الذي أسس للفساد عبر عقود من الزمن.
المراجع
- باريس وشبكات الفساد الخفية في الجزائر من سيجرؤ على محاربتها؟، نسيم بلهول ، شبكة باب المغاربة للدراسات الاستراتيجية، 10 آب/ اغسطس 2019.
- المرجع السابق .
- مكافحة الفساد في الجزائر ترحيب بتوجس، أحمد مرواني، معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى 8 تموز/ يوليو 2019.
- ماذا تقول التقارير الدولية عن الفساد في الجزائر؟ الجزيرة نت، . 28/3/2019
- وزير العدل ينتقد التقارير التي تصدرها الهيئات الدولية لا تصدقوا كل ما يقال عن الفساد في الجزائر، جريدة الجزائر، عدد 5 فبراير 2019.
- الفساد لا يتوقف في الجزائر ، خالد بودية، يومية الخبر الجزائرية، 9 ديسمبر 2018 .
- مكافحة الفساد لا تزال بحاجة إلى إرادة سياسية، تقرير الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان الجزائر، 8 ديمسبر 2018.
- التقادم دفن 65 ألف جريمة فساد اقتصادية، نوارة بابوش، جريدة الشروق الجزائرية 2019/08/19.
- بيان قيادة الأركان الجزائرية 02 ابريل/ نيسان 2019 .
- تقدير حجم الأموال المهربة إلى الخارج مهمة صعبة، وكالة الأنباء الجزائرية،11 تموز/يوليو 2019.
هذه المادة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي.