ترصد هذه الورقة التحولات التي مرت بها محافظة الرقة السورية، خلال سنيّ الثورة الشعبية السورية، على الصُعُد العسكرية والاجتماعية والسياسية، وما نتج من هذه التحولات من تغييرات طارئة على واقع المحافظة ومستقبلها، في المدى المتوسط على أقل تقدير.
وتتضمن:
- مظلومية الرقة ما قبل الثورة من النظام.
- الرقة مع بزوغ الثورة السورية.
- من الحرية إلى سنوات الظلام المريرة.
- المعركة الكبرى في الرقة بين داعش وقسد.
- الرقة ما بعد التحرير والتدمير إلى أين؟.
المدخل:
مظلومية الرقة قبل الثورة.
قبل استعراض المراحل المضيئة والمظلمة -وهي الأطول عمراً- التي مرّت بها الرقة، خلال السنوات السبع الماضية من عمر الثورة السورية، لا بدّ من إعطاء لمحة سريعة ومقتضبة عن واقع المحافظة وطبيعتها الاجتماعية والسياسية في ظل حكم النظام السوري.
عاشت الرقة في السنوات السابقة للثورة حالة من الانعزال المدبّر والإقصاء المقصود والتهميش الممنهج والتجهيل المتعمد، من جرّاء سياسات النظام التي أمعنت في قتل مدن وتشويهها أكثر من غيرها على الخريطة السورية، وذلك بما يلائم مصالح السلطة وإرادتها المنفلتة من أي عقال وطني.
المحافظة التي تتربع على نهر الفرات العظيم في الشمال السوري، المحوطة بالأراضي الزراعية الوفيرة، على الرغم من طبيعة المنطقة شبه الصحراوية.
لم تكن الرقة إلا سلة ثروات ذاتية التعبئة، تغرف منها السلطة ما تشاء وفي أي وقت تشاء، من دون أن تستثمر فيها قرشاً واحداً بما يساعد في نهوضها فعلياً في الواقع الاقتصادي السوري العام، إذ دأبت السلطة على سياسة تهميش مدن الجزيرة السورية، والرقة على وجه الخصوص. وانتهجت هذه السلطة ربط وسائل الحياة كلها في الرقة بالقطاعات الحكومية والاقتصادية الريعية الخاصة بها، ليتحول أفراد المجتمع وفق ذلك إلى مسننات تدور تلقائياً في آلة عمل السلطة، تستهلك الشيء اليسير مما تنتجه، لتبقى على قيد الحياة، فأصبح أهالي الرقة وسكانها مرتبطين أشد الارتباط بالآلة السلطوية، لا يتعلمون ولا يعملون إلا ضمنها ومن أجلها.
وحول هذه النقطة المهمة لاستيعاب واقع الرقة قبيل الثورة، أُعرّج على ما قاله الصحافي والباحث الرقي (معبد الحسون) في كتابه الذي صدر مؤخراً بعنوان (الرقة والثورة)، يقول: (لا يجب أن نتجاهل القطاع الوظيفي الضخم، والقطّاع التعليمي والطلابي المتوسع باستمرار، كما هو حال قطّاع الزراعة (بمصارفه وجمعياته التعاونية ومنظومات توزيع الأراضي، والإغراء بتوزيعها وتمليكها)، هذه القطّاعات كلها مضاف إليها التجارة، كانت تحتل جزءاً حيوياً، من مشروعات السلطة ونفوذها وتغلغل أشخاصها الرمزيين بين الجمهور) مضيفاً (هذه القطاعات كلها ربطت أجيالاً متعاقبة بماكينة السلطة؛ يصح الوصف بأن الرقة كانت ثقب النظام الأسود وصالة بازاراته الخلفية).
الرقة مع بزوغ الثورة السورية
في الأسبوع الثاني من تاريخ الثورة السورية، تحديداً في الخامس والعشرين من شهر آذار عام 2011، خرج عدد لا بأس به من شبّان الرقة، في تظاهرة احتجاجية ضد نظام الأسد، لتدشّن بداية عهد جديد لأهالي المحافظة وسكانها.
وعلى الرغم من هذا الانخراط المبكّر للرقة في معركة الثورة ضد واحد من أكثر أنظمة السلطة استبدادا وشمولية، يرى كثيرون أن هذا الولوج كان دون المستوى المطلوب من حيث القوة والثقل، بسبب أوضاع ذاتية وموضوعية تتعلق بالطبيعة الاجتماعية والسياسية للمحافظة التي عمل النظام على احتكار العوامل المؤثرة فيها كلها كما أسلفنا، بطرائق عدة ومختلفة، مفرّغاً بذلك الحياة الاجتماعية من أي مضمون.
دعّمت هذه الصورة المشوّهة زيارة الرئيس بشار الأسد الأولى إلى الرقة في السادس من نوفمبر/ تشرين الثاني 2011، ليصلي فيها صلاة العيد، وسط آلاف من الموظفين الحكوميين وشيوخ العشائر والشخصيات الاعتبارية الذين وصلت إليهم دعوات الحضور إلى بيوتهم وأماكن عملهم، ويُقال: إن الأسد أمر بتوزيع 25 مليون ليرة سورية وكميات من الأسلحة والذخائر على شيوخ العشائر ليقوموا بمهمة التصدي للحركة المضادة في الرقة، ما جعل روّاد الحراك الثوري في موقف محرج بعد هذه الزيارة المفاجئة، في وقت كانت تتسابق فيه المدن للإمساك بأكبر عدد ممكن من خيوط حبل الثورة.
الطبيعة والأوضاع ذاتها -التي جعلت دخول الرقة إلى معركة الثورة يبدو لأول وهلة بطيئاً ومتردداً بالنسبة إلى كثيرين- ساهمت عقب أشهر قليلة، بدخول آخر أكثر حدة وأشد انفجاراً وأثقل وقعاً في المشهد السوري العام، إذ إن العوامل الجغرافية المتعلقة ببعد الرقة عن السلطة المركزية في العاصمة دمشق نحو 450 كيلو متراً، وقربها نسبياً من تركيا، وهذا التضامن الشجاع غير المسوّغ ومجهول الأسباب، بين عناصر الحراك الثوري في المحافظة، جعل من الأوضاع المحيطة -ومن دون سابق إنذار- مثالية تماماً للقبض على زمام المبادرة وتحويل الرقة إلى أيقونة ثورية، كونها أصبحت أول محافظة سورية خارجة على سيطرة النظام.
في الخامس عشر من آذار/مارس عام 2012 خرجت تظاهرة احتجاجية كبيرة ضد النظام، في شارع الكنيسة قرب حديقة الرشيد في وسط مدينة الرقة، ليقوم عناصر أجهزة الأمن المجهّزين بمحاولة قمع التظاهرة، بالرصاص الحي، الذي أصاب عدداً من المتظاهرين، بينهم الناشط علي البابنسي من مواليد 1996 الذي أُصيب برصاصه في صدره أدت إلى استشهاده، بسبب استحالة نقله إلى المستشفيات آنذاك، ليصبح الشهيد الأول برصاص النظام في تظاهرات الرقة، وأدى ذلك إلى إصابة الحالة الثورية الرقيّة بجرح عميق من جرّاء هذه الحادثة المؤسفة، التي فتحت الأبواب أمام انفجار بركاني عارم في صفوف من يمثلون الثورة.
أعرّج مجدداً على كتاب (الرقة والثورة) الذي وثّق بالتفصيل هذه اللحظة المفصلية العظيمة في تاريخ الحراك الثوري في الرقة، أنقل إليكم أهم ما ورد فيه حول هذا الحدث الكبير. يقول الكاتب: (كان الصباح التالي الذي أعقب استشهاد البابنسي حاسماً ومفصلياً ومشحونا بالمفاجآت.. لقد تطيّف المشهد في الأخيلة والأذهان، حتى اختلطت فيه حدود الحلم والخيال بقسوة المشهد الواقعي.. كانت موجة من الحزن والغضب الشامل اجتاحت المدينة، وخرج الناس فرادى وجماعات، في تصميم غير مألوف يصعب تفسيره، وكل فرد من أبناء الرقة، قد حسب أنه جاء وحده يشيّع شاباً في ريعان العمر قُتل بدم بارد، ولم يكن في مخيلة أحد أن يتعدى التشييع الحدود لأي جنازة عادية، وقد زكّى هذا التصور أن الشهيد كان من عائلة صغيرة جداً في الرقة، لا عشيرة له ولا جموع معزين من أقرباء، كما يمكن أن توحي به الأمور مبدئياً).
يضيف: (كبرت الكتلة التي تجمعت في الصباح لتشييع البابنسي وتكاثرت، وكلما مضت دقائق ولحظات كانت تتضاعف، وجاءت البلاغات من أهالي الريف البعيد والقريب، تطلب التريث والتمهل في انطلاق الجنازة نحو المقبرة، ريثما يتسنى لهم الوصول من قراهم.. وما إن سارت الجنازة حتى أذهل منظرها كل من شارك وحضر، لقد تحولت إلى تظاهرة نوعية في مستوى سوريا وثورتها، في حركة احتجاج غير مألوفة لمدينة صغيرة لم تتشرب روح الاحتجاج والتمرد على السلطة طوال تاريخها، فقد بلغ عدد المشاركين الذين ساروا في موكب التشييع أكثر من مئتي ألف مشيع… يمكن وصف المشهد بأنه كان استثنائياً وإجماعاً منقطع النظير وتصويتاً شعبيا احتجاجياً لمصلحة الثورة ضد النظام، جمع سكان المحافظة كلهم أو معظمهم في صعيد واحد ومشهد واحد، وهو أمر لم تعرفه الرقة لا من قبل ولا من بعد).
بعد عودة جموع المشيعين الثائرين من دفن البابنسي، توجهوا إلى التمثال البرونزي الكبير لحافظ الأسد المقابل لقصر المحافظة، بغية هدمه، بيد أن أجهزة الأمن كانت بانتظارهم، لترتكب بحقهم مجزرة وحشية مروعة، راح ضحيتها 14 قتيلاً، وعشرات من الجرحى والمُصابين، جُلهم من فئة الشباب.
الرقة؛ من الحرية إلى سنوات الظلام المريرة
استطاعت الفصائل المحلية التي ينحدر عناصرها أغلبهم من إدلب ودير الزور والرقة وريف حلب، تحرير مدينة الرقة كاملة في آذار/ مارس عام 2013، وطردوا قوات النظام منها في بضع ساعات قليلة، لتكون الرقة أول مركز محافظة سورية محررة من قبضة النظام، فعاشت وأهلها بعد هذا التحرير حالة من النشوة غير المسبوقة.
استطاع ناشطو الرقة والفاعليات المدنية، تحويل الرقة إلى أيقونة ثورية لامعة، فدأبوا على تنظيم الفاعليات المدنية الثورية، واحتضنوا مئات آلاف النازحين من أبناء المحافظات التي كانت تتعرض للقصف، وتمكنت هذه الأجسام المدنية الوليدة إدارة المدينة جيداً، واستطاعت تعميم صورة جميلة لسوريا المنشودة، إلا أن هذه الحال لم تدم طويلاً.
سيطر تنظيم (الدولة) على مدينة الرقة في كانون الثاني/ يناير من عام 2014، بعد معارك سبقها صراع نفوذ مع جبهة النصرة وأحرار الشام وفصائل الجيش الحر من المدينة، إذ فوجئ أهالي الرقة وسكانها بسيطرة التنظيم على مدينتهم، بعد أن كانت الكفة راجحة للفصائل الأُخرى، التي انسحبت بعتادها كله فجأة، من مداخل المدينة وجسريها اللذين كانا تحت سيطرة جبهة النصرة، ليستقدم تنظيم الدولة مقاتليه المتمركزين في الأرياف إلى المدينة، ويبقى لواء (ثوار الرقة) المشكّل من أبناء المحافظة، يصارع عناصر التنظيم وحيداً أياماً عدّة من دون أي مساندة من الفصائل الأُخرى وأخص بالذكر هنا الفصائل الكبرى (جبهة النصرة، وأحرار الشام)، لينسحب بعد ذلك (ثوار الرقة) هو الآخر مضطراً، لتدخل المدينة عقب ذلك حقبة مأسوية غير متوقعة.
بدأ التنظيم بالتمهيد لتحقيق حلم (الخلافة)، متخذاً من الرقة حجر الأساس الأول لتشييد حلمه، فشرع بحملة كبيرة من الاعتقالات -كان نصيب الناشطين الثوريين الأكبر فيها- وفرض الضرائب، وسن القوانين بالتفصيل الكامل على مقاسه، وأغلق المدارس والمعاهد، وأعدم مخالفيه بأبشع الطرائق والوسائل، مصادراً بالقوة الوحشية أحلام أهل المدينة بالحرية والتعددية والعدالة التي بذلوا كثيراً فداء لها.
تفنن التنظيم في أساليب الكبت والقمع والمحاسبة، فأسس أجهزة الحسبة والمحاكم الشرعية واستجلب آلافاً من مناصريه الأجانب من مختلف دول العالم، وأعطاهم الصلاحيات كلها لفعل ما يشاؤون، ومع قبض التنظيم على مفاصل الحياة كافة في الرقة، بدأ بسلب عدد كبير من البيوت والعقارات والمحال التجارية من أصحابها من دون أي سبب منطقي، ومنحها للمقاتلين الأجانب (المهاجرين)، وعمل جاهداً على استقطاب أبناء المحافظة لتجنيدهم في صفوفه، مستخدماً الإغراء حيناً، والترغيب بالمال والنفوذ والسلطة بعض الأحيان، والترهيب الديني والطائفي في الأحيان معظمها، لينشأ صراع غير مرئي بين أهالي الرقة وسكانها مع الذين انضموا إلى التنظيم من أبناء جلدتهم.
أدّت أفعال التنظيم الإجرامية والقمعية، وانتهاكاته الصارخة بحق أهالي المحافظة وسكانها، إلى هجرة مئات آلاف من المدنيين الذي ضاقوا ذرعاً بأحوالهم البائسة، إلى المدن والبلدات السورية، وهاجر معظمهم إلى تركيا والبلدان الأوروبية، ليتنبّه التنظيم في آخر عهده إلى خلو الرقة تقريباً من سكانها، وتحولها إلى مقر كبير لعناصره، وهذا ما أعطى انطباعاً عاماً بأن معركة القضاء على التنظيم التي بدأ الحديث عنها في تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2015، ستبدو أسهل على القوات المهاجمة في حال كانت المدينة خالية من سكانها، فمنع التنظيم خروج المدنيين من الرقة، تحت طائلة العقوبة، التي نفذّها في شكل إعدامات ميدانية لكل سائق حافلة يحاول إخراج المدنيين من الرقة، وبالجلد والصلب والحبس لكل مدني قُبض عليه وهو يحاول الهرب من السجن الكبير.
الرقة؛ بين داعش وقسد.
في العاشر من تشرين الأول/ أكتوبر 2015 أُعلِن تشكيل (قوات سوريا الديمقراطية) في مدينة القامشلي، شمال سوريا.
وأصدرت هذه القوات بياناً قالت فيه إنها قوة عسكرية وطنية موحدة للسوريين كلهم، تجمع العرب والكرد والسريان والمكونات الأخرى كافة، وتضم في صفوفها (التحالف العربي السوري وجيش الثوار وغرفة عمليات بركان الفرات وقوات الصناديد وتجمع ألوية الجزيرة والمجلس العسكري السرياني ووحدات حماية الشعب الكردية ووحدات حماية المرأة الكردية)، بتعداد جاوز 45 ألف مقاتل.
وجاء إعلان تشكيل (قوات سوريا الديمقراطية) بعد تصريحات رسمية أمريكية تقول إن الولايات المتحدة تستعد لتقديم أسلحة لمجموعة مختارة من قوى مسلحة، بغرض محاربة تنظيم الدولة في سوريا.
وفي منتصف شهر حزيران/ يونيو من العام ذاته سيطر التشكيل الجديد المدعوم عسكرياً ولوجستياً من الولايات المتحدة على مدينة تل أبيض ومعبرها الحدودي في ريف الرقة الشمالي، على الحدود السورية – التركية، بعد ترك تنظيم الدولة لمواقعه بشكل تدريجي في معظم المناطق التي كان يسيطر عليها شمال الرقة.
وفي بداية حزيران/ يونيو 2017 أعلنت (قوات سوريا الديمقراطية) (قسد) بدء عملياتها العسكرية في معركة الرقة الكبرى، ضمن حملة (غضب الفرات) التي أعلنت عنها في وقت سابق، للسيطرة على مركز مدينة الرقة، معقل التنظيم الأول في سوريا، لتبدأ المعركة ضد التنظيم في قلب الرقة بعد أن استطاعت (قسد) السيطرة على مدينة الطبقة ومساحات واسعة في الأرياف الشمالية والشرقية والغربية من المدينة.
استُبعد لواء (ثوار الرقة) -الذي تحدثنا عنه في بداية هذه الدراسة بأنه كان آخر من قاوم التنظيم في الرقة- من دون مسوّغات من معركة السيطرة على الرقة، على الرغم من انضوائه ضمن التشكيل، ما أثار مخاوف أهالي الرقة وسكانها من إمكان (احتلال) مدينتهم مرة أُخرى، بعدما ظهر جلياً أن الوحدات الكردية التابعة لـ(حزب الاتحاد الديمقراطي) (ب ي د) هي من يهيمن كلياً على سياسة (قوات سوريا الديمقراطية).
في منتصف تشرين الأول/ أكتوبر 2017 سيطرت (قوات سوريا الديمقراطية) على كامل مدينة الرقة، بعد قرابة 4 أشهر من المعارك المتواصلة مع عناصر التنظيم في الرقة، بدعم عسكري جوي وبري لا محدود من الولايات المتحدة الأمريكية، انتهت هذه المعارك باتفاق بين (قسد) والتنظيم بخروج العناصر المتبقين في المدينة باتجاه ريف دير الزور، ليسدل الستار على أسطورة تنظيم (الدولة) في معقله الكبير، بهزيمة مدوية كلّفت الرقة تدمير أكثر من 80 في المئة من البنى التحتية والأبنية السكنية، ومقتل أكثر من 3271 مدنياً، بحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان.
مدينة الرقة ما بعد التحرير والتدمير، إلى أين؟
بقدر ما فرح الرقيّون بعد طرد التنظيم من الرقة، لم يترددوا بإظهار حزنهم العميق على ما آلت إليه أحوال مدينتهم، إذ تسببت المعركة بدمار شامل للبنى التحتية كلها في المدينة، كالمستشفيات وأبراج الاتصالات والجسور المائية وغيرها، فضلاً عن دمار واسع أصاب الأبنية السكنية والمرافق العامة والخاصة، وأبدت شريحة واسعة من أهالي المدينة وسكانها مخاوفها الصريحة حول مستقبل الرقة في يد تشكيل عسكري تهيمن عليه أحزاب قومية كردية ذات طابع أصولي متعصب، بعيدة البعد كله عن مناخ الرقة وطبيعتها العربية شبه البدوية.
وبدأت هذه المخاوف بعد أن أعلنت (قسد) مراراً خلال المعارك، على ألسنة قياديين ومتحدثين رسميين أن الرقة ستكون جزءاً من النظام الفدرالي في شمال سوريا الذي يُطلق عليه مسمى (روج آفا) باللغة الكردية، بيد أن هذه الفكرة بدأت تخبو بعد تصريحات مطمئنة من رئيس حزب الاتحاد الديمقراطي (ب ي د) -العمود الفقري لقسد- صالح مسلم بأن أهالي الرقة هم من سيقررون من يحكمهم بعد طرد التنظيم من الرقة.
بعد قرابة 5 أشهر من طرد التنظيم من الرقة، لم يختلف حال الرقة كثيراً عن اليوم الأول الذي عقِب تحريرها من قبضة التنظيم، إذ ما زال الدمار والأبنية المهدمة المشهد الأبرز، وما زالت الألغام التي زرعها التنظيم في المدينة تحصد عشرات الأرواح شهرياً، على الرغم من الوعود التي أطلقها (مجلس الرقة المدني) الذي شكلته (قسد) بإزالة الدمار والألغام من الشوارع.
اتهمت فاعليات وتجمعات مدنية رقّيّة -في مدينة أورفا التركية التي تضم أكبر عدد من المهجرين من أبناء الرقة وسكانها- (قسد) بـ(التقاعس واللامبالاة) في حماية المدنيين، وتأخير عودتهم إلى المدينة وابتزاز العائدين حديثاً، مطالبة قيادة قوات التحالف والمنظمات الدولية لحقوق الإنسان بالعمل على (عدم ربط عودة المدنيين بإنجاز الحلول والتسويات السياسية حول الرقّة بخاصّة، وحول الوضع السوريّ بعامة، والدفع بمزيد من القوى البشريّة والإمكانات الماديّة لتسريع وتيرة إزالة الألغام من المدينة قبل أن تحصد مزيداً من الأرواح).
بدوره، طالب (مجلس محافظة الرقة) التابع للحكومة السورية الموقتة، في آذار الماضي، المجتمع والتحالف الدوليين بتسليم الرقة إلى أبنائها، بعد مضي أكثر من أربعة أشهر على طرد تنظيم الدولة منها، وقال المجلس في بيان له إنه (بعد مضي أكثر من أربعة أشهر على طرد تنظيم الدولة من المحافظة، بقيادة التحالف الدولي، وبعد تدمير البنى التحتية وأكثر من 70 في المئة من مساكن المدنيين فوق رؤوسهم، وما زالت أغلب الجثث تحت الأنقاض).
وأشار المجلس في بيانه إلى أن (التحالف لم يقم برفع الأنقاض ودفن الجثث)، وأضاف أن (عناصر قسد سلبوا المنازل والمحال التجارية ونهبوها كلها، وفرضوا أتاوات وغرامات مالية على المواطنين العرب، بحجة دعم متضرري عفرين)، مطالباً المجتمع الدولي وقوات التحالف، بتحمل مسؤولياتهم والإيفاء بما وعدوا به، وتمثلت المطالب بـ(تسليم المحافظة إلى أبنائها لإدارة شؤونها، ومن ثم تشكيل مجالس محلية من أبناء المحافظة من مكوناتها كافة). إضافة إلى (العمل على تشكيل جهاز شرطة، بقيادة ضباط من أبناء المحافظة، والعمل على تشكيل جهاز قضائي متكامل، يعمل وفق القانون السوري، إضافة إلى العمل على تشكيل جيش موحد من أبناء المحافظة لحمايتها).
الخاتمة:
في هذه الحال التي تتسم بالصراع على الرقة بين التشكيلات المتحالفة مع الولايات المتحدة (قسد ومجلس الرقة المدني)، والقوى التابعة نسبياً لتركيا (مجلس الرقة المحلي المشكل من الحكومة الموقتة)، لا يجد أهالي الرقة وسكانها من يمثلهم ويتكلم باسمهم ويطرح مطالبهم على طاولة الطرف الممسك بمصير مدينتهم، بل إن تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في أواخر آذار الماضي، حول نيته سحب القوات الأمريكية من سوريا وترك المهمة لـ(الأطراف الأُخرى)، أثارت مخاوف أهالي الرقة، إذ إن كثيرين منهم يرون الوجود الأمريكي هو من يضبط بالحد الأدنى تصرفات الأحزاب القومية المهيمنة على (قسد).
تصريحات ترامب التي قال فيها صراحة إن القوات الأمريكية ستترك مكانها الفارغ لـ(الأطراف الأُخرى)، من دون تحديد من هي الأطراف، يعني حكماً أن المناطق التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في شمال سوريا وشرقها أصبحت مكشوفة، وأصبحت (قسد) بين فكي كماشة، وبمعنى أدق حوصرت هذه الوحدات بين القوات الروسية الداعمة لقوات النظام، والحالمة بالوصول إلى مناطق ثروات النفط والغاز والماء في أرياف الرقة والحسكة ودير الزور، والجيش التركي الطامح إلى التخلص من عدوه اللدود، مسلحاً بكتائب الجيش الحر التي تتمتع بشعبية كبرى بين أهالي المناطق العربية وسكانها حيث تسيطر (قسد).
تزامناً مع تصريحات الرئيس الأمريكي، أعلنت (قسد) في أواخر آذار/ مارس المنصرم، تأسيس حزب (سوريا المستقبل) في مدينة الرقة، وقال مراقبون إن (قسد) تعتزم استخدام هذا الحزب واجهة سياسية جديدة، له أغراض عدة، أولها تهدئة المخاوف لدى السكان المحليين وذلك عبر نزع الطابع الكردي عن السلطة المفروضة، وجعلها تبدو أكثر اشتراكية مع المكون العربي الغالب في المنطقة، وكذلك للتشويش على أي نية تركية للدخول إلى مناطق شرق نهر الفرات بعد سيطرة القوات التركية بمساعدة فصائل محلية على مدينة عفرين المعقل الرمزي الأول للأحزاب الكردية، في حين يرى بعضهم أن تشكيل حزب (سوريا المستقبل) يأتي ضمن استراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية لحل الوضع القديم القائم على الهيمنة الكردية على السلطة التي تحكم الرقة ومناطق شرق الفرات، وتوزيع السلطات ومهمات إدارة المنطقة توزيعاً منطقياً، لإزالة التوتر والاحتقان والبدء في مرحلة جديدة تتسم بالاستقرار.
لا مندوحة من القول: إن وضع محافظة الرقة ما يزال مبهماً، على الرغم من التصريحات والبيانات الخارجة من هذا الطرف أو ذاك، إذ إن إعادة إعمار البنى التحتية في الرقة بالحد الأدنى، يتطلب أموالاً طائلة ونوعاً مع الاستقرار والدفء بين السكان وأجهزة السلطة، وهذا يبدو مفقوداً في الوضع الحالي والمستقبل القريب في أقل تقدير، إذ إن الشروع بإعادة الإعمار وتسهيل عودة المدنيين إلى بيوتهم، يرتبط ارتباطاً رئيساً بالوضع السوري العام، وانطلاقاً من أن التسوية السياسة الشاملة في سوريا تشهد انسداداً غير مسبوق، يفرض التشاؤم نفسه قسراً على أي محاولة لاستشفاف المستقبل القريب في الرقة والمحافظات السورية كلها.
هذه الدراسة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي.