“ضربٌ في العراق ولطمياتٌ في إيران”، هي مقولة تلخص بالضبط حال المظاهرات التي تشهدها المدن العراقية منذ أسابيع متواصلة، والتي قدم فيها أبناء العراق دماءهم مقابل التمسك بحقهم في بلد بات مسلوب القرار والسيادة.
على الرغم من وجود بعض المطالب الاجتماعية والاقتصادية للمتظاهرين، إلا أن الهدف الأول للمظاهرات والاحتجاجات لم تكن الحكومة العراقية بعينها، وإنما الوصي عليه الجالس في طهران مختبئاً تحت عباءة الدين، والذي يبدو أنه لم يفهم أو على الأقل لا يريد أن يفهم حتى الآن بأنه لب المشكلة، وليس حلها، كما يقول العراقيون.
يقول أحد المتظاهرين من شوارع بغداد: “ما بدأ المطالبة بلقمة العيش الكريم، امتد ليصل إلى استقلال البلاد وخروج الميليشيات الإيرانية التي تعتبر أهم ركائز المأساة العراقية”، مشيراً إلى أن المطلوب ليس فقط رحيل الحكومة، وإنما تغيير جذري في آلية تشكيلها، التي تمنح إيران فرصة التدخل المباشر في الشؤون العراقية الداخلية، وحتى أدق التفاصيل في حياة المواطن العراقي، عبر أنظمة المحاصصة الطائفية التي مهدت الطريق أمام الولي الفقيه لتمكين وكلائه من حكم العراق وتحويله إلى مطية.
صرخات وردود فعل تأبى التشويه
في الوقت الذي حاولت فيه إيران عبر وليها الفقيه ربط المظاهرات فقط بالطابع المعيشي، أصر متظاهرو العراق على توضيح مطالبهم، التي كان على رأسها رفض الوصاية الإيرانية، لينتقلوا من طور الهتافات المعادية لطهران ووليها الفقيه إلى اتخاذ خطوات عملية كان آخرها مقاطعة المنتجات الإيرانية، والتي تعتبر واحدة من أقوى الرسائل للنظام الإيراني، خاصة في ظل إغراق السوق العراقية بأطنان المنتجات الإيرانية.
محللون عراقيون علقوا على دعوات المقاطعة بأنها الإجراء الذي لن يتمكن النظام في إيران من تجاهله، مضيفين: “إن كان خامنئي قد تمكن من تجاهل إحراق صوره والإجراءات الرمزية التي قام بها المتظاهرون العراقيون لرفض النفوذ الإيراني، فهو لن يتمكن من تجاهل البيانات الاقتصادية ولغة الأرقام التي ستظهر تأثير تلك المقاطعة، لا سيما في ظل المأساة التي يعيشها الاقتصاد الإيراني”.
وأردف المحللون: “رسائل الاحتجاجات العراقية للإيرانيين كانت واضحةً أيضاً، عندما رد المحتجون على دعوة خامنئي ومستشاريه لهم لاقتحام السفارة الأمريكية في بغداد، ليأتي الرد باقتحام السفارة الإيرانية ومهاجمتها”، مؤكدين أن إيران فشلت حتى الآن في تحريف المظاهرات أو إبعاد الطابع السياسي عنها، كما فشل رجال الدين التابعون لطهران بالركوب على الاحتجاجات وتوجيهها، ليبقى هتاف “إيران برا برا” سيداً للموقف، على حد تعبيرهم.
رؤية محللي المشهد العراقي بشكله العام ربطت بين مواقف المحتجين وما يشعر به الشعب العراقي من مظلوميات ومعاناة سببها إيران، مضيفين: “الموقف الحالي من إيران ليس وليد اللحظة وإنما هو حصيلة 15 عاماً من المعاناة، تمكنت خلالها أجهزة إيران من الركوب على الخطاب الطائفي، الذي قادت فيه الحرب الأهلية بين السنة والشيعة، واستغلت نفوذ رجال الدين لنهب العراق واستخدام أراضيه منطلقاً لمشاريعها وحروبها في المنطقة، الجوع المرض الفقر البطالة وحتى الخلافات العائلية والزوجية كلها جاءت من طهران”، لافتين إلى أن أهم تفصيلٍ في كل المشهد العراقي اليوم، يمكن في السقوط الفعلي للخطاب الديني وتأثير عمائم إيران في تسيير الشارع، لا سيما وأن المظاهرات انطلقت من أكثر المناطق التي كانت تعتبر مراكز للحكم الإيراني في النجف وكربلاء والبصرة.
تصريحات وتلميحات ورسائل واضحة
بالرغم من تدخله المحدود في سياسة البلاد، وتأخره في الدخول على خط الأزمة، إلا أن خطاب الرئيس العراقي يوم الخميس الماضي، حمل دلالات ورسائل، تشير إلى أن ما يريده المتظاهرون وصل تماماً للسلطة الحاكمة، حتى وإن حاولت الالتفاف عليه عبر إصلاحات اقتصادية ومعيشية، بعيدة عن هيكلية بناء الدولة العراقية والبعد السياسي للمظاهرات.
تركيز خطاب الرئيس العراقي “برهم صالح” على مسألة انتشار السلاح خارج إطار الدولة وبيد المجموعات التي وصفها بـ”غير المنضبطة”، بالإضافة لحديثه عن تعديل في قانون الانتخابات وتشكيل مفوضية عليا جديدة بعيداً عن الانتماءات الحزبية والطائفية، والدعوة لانتخابات مبكرة، رأى فيه مراقبون خطاباً حكومياً أكثر قرباً لمطالب الشارع من بقية الخطابات السياسية الأخرى والإصلاحات التي تحدثت عنها الحكومة خلال الفترة السابقة، مشيرين إلى أنها المشكلات الواقعية التي تفسر موقف المحتجين من إيران، كونهم يعتبرونها المسؤول الأساسي عن انتشار تلك الظواهر التي وردت في خطاب الرئيس.
وأضاف المراقبون: “قد لا يعني خطاب صالح أن السلطة ستكون صادقة بوعودها، ولكن على الأقل أظهر أن الساسة العراقيين يعون تماماً العمق والأسباب الجوهرية للمظاهرات ومطالب الشارع، فالمشكلة ليست وجود حكومة عبد المهدي بشخصه، ولا ارتفاع معدلات البطالة، وإنما بالأسباب التي قادت إلى تلك الظواهر في بلدٍ يعتبر واحداً من أكبر مصدري النفط في العام، وهي سلب إيران للدولة العراقية بالكامل”، لافتين إلى الدور الكبير الذي لعبته الميليشيات من فيلق بدر والحشد الشعبي والمجموعات الطائفية الأخرى التي نشأت وترعرعت في قم وطهران بإدارة شؤون العراق وتنفيذ وصايا الولي الفقيه، منذ سقوط النظام السابق عام 2003 وحتى اليوم.
ليس بالقتل وحده تقمع المظاهرات
على اعتبار أن المظاهرات بشكل أو بآخر تطال المنظومة الإيرانية في المنطقة، فكان لا بد من التعامل معها وقمعها بالطريقة الإيرانية وإن تمت بأيادٍ شبه عراقية، تلك الطريقة التي تقدم عدة وسائل متزامنة في وأدها لإرادة الشعوب، وفقا للمحللين، الذي أكدوا أن سلطات إيران اتبعت مع المظاهرات العراقية سلسلة إجراءات على رأسها القتل، عبر قناصتها وميليشياتها التي أردت المئات من أبناء العراق، إلى جانب محاولات الركوب على المظاهرات عبر إقحام رجال الدين على خطها ومحاولة توجيهها بعيداً عن المصالح الإيرانية، ومن ثم محاولة انتقاص المطالب الشعبية وتشويه الثورة العراقية لحصرها بالمشهد الاقتصادي.
وبحسب المراقبين، تبقى الطريقة الأكثر إثارة، هي اتهامات مرشد الثورة الإسلامية في إيران “علي خامنئي” المتظاهرين بتلقي الدعم من جهات أجنبية وإقليمية، متناسياً أن إيران وبعرف الأخلاقيات والقوانين الدولية هي أيضاً طرف أجنبي يتحكم بالعراق الذي من المفترض أنه دولة مستقلة ذات سيادة، وليس جزءاً تاريخياً من الإمبراطورية الفارسية التي تسعى إيران إلى إعمارها من جديد.
وبين المراقبون، أن أهم ما في الثورة العراقية الحالية كما أسموها، أنها أشارت إلى صحوة شاملة لدى كامل أبناء العراق تجاه المشرع العرقي الإيراني في المنطقة ككل، بما سيحرم الملالي من اللعب في ميدان الطائفية المفضل لديه تحت شعارات طائفية باسم الحسين وآل البيت، مضيفين: “ما يحدث في العراق يعني أن مشروع إيران سقط بالفعل وأن العقل العراقي تحرر بالفعل من سموم وأفكار خميني وخليفته وأنصارهم في المنطقة العربية، والدليل على ذلك فشل كل محاولات إيران لإخراج نفسها من دائرة مطالب المتظاهرين، أو وأد الثورة”.
وختم أحد المراقبين قوله بالتأكيد على أن الثورة والمظاهرات دفعت شمس العراق للشروق من جديد، شمس لن تتمكن أصابع خامنئي ونظامه من تغطيتها.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي.