دراسة بحثية يتناول فيها الكاتب ولادة فكرة الحاكمية المعاصرة وتكفير الديمقراطية ودعاتها؛ والأسباب التي دعت إلى ذلك. ومَنْ خلف تلك الفتوى والفكرة التي ندفع ثمنها اليوم في ظل الدولة الحديثة والممارسة السياسية التي لا يمكن أن تكون صحيحة بعيداً من الثقافة والسلوك الديمقراطي، وكيف تجذرت فكرة تكفير الديمقراطية والديمقراطيين في مجتمعاتنا؟
من خلال المحاور الآتية:
- ولادة فكرة الحاكمية الإسلاموية المعاصرة ومن صاحب فكرتها؟.
- أدلجة أبي الأعلى المودودي لمفهوم الحاكمية.
- الأسباب التي دفعت بعض علماء الإسلام الهنود إلى رفض الديمقراطية.
- لماذا انفصلت الباكستان عن الهند؟ وما دور الإسلامويين في ذلك؟.
- الصراع حول شكل الدولة بين أبي الأعلى المودودي ومحمد علي جناح.
- البعد السياسي السلطوي لفكرة الحاكمية.
- الحاكمية من الهند إلى مصر ومن المودودي إلى سيد قطب.
- ظهور سيد قطب ودوره في أدلجة مفهوم الحاكمية وتكفير دعاة الديمقراطية.
- هل هي دعوة إلى الحاكمية؟ أم إلى إسقاط مشروعية حكم عبد الناصر؟.
- الثمن الذي ندفعه اليوم بسبب هذه الفكرة والخاتمة.
التمهيد
لعل أفضل ما أنتجه العقل البشري الكهرباء والديمقراطية؛ فالكهرباء أساس لكل تطور تكنولوجي؛ أبدعه الإنسان؛ لتكون الحياة ميسرة ومريحة. وأما الديمقراطية فهي الأسلوب السلمي الراقي للقضاء على الاستبداد ومنع ولادته مرة أخرى، كي تتفرغ المجتمعات والعقول للإبداع والتنمية.
لكن مجتمعنا العربي في أغلبيته المتدينة ينظر إلى الديمقراطية بوصفها تعدياً على حاكمية الله، ومن ثَمَّ فهي ردة وكفر وشرك بالله من دون وعي ولا بحث في المتغيرات التاريخانية التي دعتْ إلى مثل هذا الحكم.
ولهذا نتساءل؛ هل ما زالت تلك الصيرورة التي أدت إلى الحكم على الديمقراطية بالكفر والردة صالحة؟ وهل السيرورة التي مرَّ بها المجتمع نتيجة الربيع العربي تتطلب تغيير الرؤية تجاه الديمقراطية؟ ويبقى التساؤل الأهم كيف أصبحت الديمقراطية عند الإسلاميين كفراً؟.
تبدأ القصة من الهند
بعد سيطرة البريطانيين على شبه القارة الهندية عام 1858خرجت السلطة من أيدي المسلمين وأصبحت في يد الإنكليز، فبدأ مفهوم عودة السلطة إليهم يتأدلج كي يكون له حاضن اجتماعي يسانده، هنا أخذ مفهوم الحاكمية الإلهية بالظهور ولكن ليس بالصورة الواضحة التي تجعله يكشف نفسه أيديولوجياً.
بدأت تحليلات مختلفة لقادة مسلمين هنود آنذاك تظهر مفسرةً التغيرات السياسية التي طرأت في شبه القارة الهندية.
ففي حين ذهب مؤسس التيار العصراني (مولانا سيد أحمد خان) (1817 ـ 1898) باتجاه المقاومة السلبية للاستعمار البريطاني حتى يحافظ على حياة المسلمين الهنود، فدعا إلى نبذ العنف مع الآخر، وطالب مسلمي الهند بالاستسلام للسلطة البريطانية الحاكمة متكئاً بفكرته على مفهوم الجبرية واللاعنف. خالفه وعارضه المفكر الهندي (صلاح الدين خدابخش) لينقلب على مفهوم إسلامية السلطة، ويدعو إلى علمانية شبه القارة الهندية، إذ قدم رؤيته في مقال بعنوان (المفهوم الإسلامي للحاكمية) نقد فيه رؤية الحكم الإسلامي للسلطة، فالسلطة في الفكر الإسلامي كما وردت في مقاله لا تستطيع تغيير الأحكام الشرعية الإسلامية، وهذا ما يجعلها غير قابلة للتطور ومجاراة العصر كما هو الحال في الغرب. وأكد أن الشريعة متغيرة وليست ثابتة، ونادى بضرورة فصل الدين عن الدولة.
لكن بسقوط الخلافة الإسلامية 1924 ظهر تيار إسلامي مؤمن بعودة الخلافة، فأنشأ حركة الخلافة الإسلامية وهي حركة سياسية دعا مؤسسها (محمد علي جوهر) من خلال خطبه إلى العمل على عودة الخلافة حتى تعود الحاكمية إلى الإسلام. وأكد في تلك الخطب حاكمية الله.
ولادة فكرة الحاكمية الإسلاموية المعاصرة
بدأ الفيلسوف محمد إقبال (1876ـ 1938) يزرع مفهوم الحاكمية وسط المسلمين الهنود، وإنْ لم يفصِّل فيها كثيراً، لكنه كان دائم التأكيد أن الإسلام يقوم على دعامة التوحيد ومن مقتضيات التوحيد أنّ شريعة الله هي العليا، ولا توجد سلطة بجوارها إلا سلطة تفسيرها ليس إلا. وكما قيل بأنّ (إقبال) كان يراهن كثيراً على أبي الأعلى المودودي في إيصال أفكاره إلى الناس؛ وهو من أشار إليه بطريقة غير مباشرة لتأليف كتابه (الجهاد في الإسلام) رداً على (غاندي) حينما ادعى أن الإسلام انتشر بالسيف.
ولا شك في أن الهنود عاشوا صراعاً كبيراً مع بريطانيا حتى حصلوا على استقلالهم، واشتركت في ذلك النضال الوطني مختلف مكونات الشعب الهندي، ولكن بعد حصولهم على الاستقلال عام 1947 عادت الهند لتتشكل على أساس الدولة الوطنية الحديثة كبقية دول العالم التي ظهرت في حينها.
وبما أن المسلمين كانوا قبل الاستقلال والاستعمار البريطاني متقلدين أمور السلطة السياسية فيها، وبما أن الدعم الأكبر لتحركات (غاندي) هو مَنْ ساهم فيه، كما أشار إلى ذلك خير الدين التونسي في كتابه (تاريخ الهند) هذا يعني أن الدولة الهندية الوطنية ذات الشكل الديمقراطي والبرلماني العلماني ستحتكم إلى صندوق الانتخاب.
وقد تشكلت أحزاب سياسية كثيرة في الهند تنتمي إلى المكونات الأخرى كالهندوس والسيخ، وبما أن المسلمين يشكلون أقلية سكانية بالنسبة إلى الآخرين فإن خضوعهم للعملية الديمقراطية والنظام البرلماني، سيخرجهم من السلطة من جانب، ومن جانب آخر سيجعلهم يقبلون بنتائج التشريعات البرلمانية التي ستنتجها المؤسسة التشريعية في البرلمان الهندي؛ حينئذ ستهضم حقوقهم بوصفهم أقلية سكانية وتُنتهك شريعتهم.
أدلجة المودودي لمفهوم الحاكمية
في خضم تلك المتغيرات بدأت الفكرة تتبلور عند أبي الأعلى المودودي الذي قرأ المتغيرات السياسية في الهند؛ وفهم تماماً ما ستنتجه الدولة الوطنية الحديثة ونظامها البرلماني، فأعلن احتجاجه على هذا النمط من النظم السياسية وبدأ يكتب ويدعو إلى معارضتها.
في ذلك التوقيت ظهر زعيم سياسي يحمل فكرة انفصال الباكستان وبنغلادش عن الهند هو (محمد علي جناح) الذي أسس الرابطة الإسلامية، ولكن على أساس أن يحكم المسلمون أنفسهم في دولة منفصلة عن الهند بالشكل المدني الديمقراطي الذي تأثر به جناح نتيجة دراسته للحقوق في بريطانيا.
البعد السياسي السلطوي لفكرة الحاكمية
كما هي العادة عند تأطير فكرة ما ذات هدف سلطوي أو سياسي لا بد من إيجاد اللبوس الشرعي لها لتغدو ذات صفة شرعية تكون جاذبة لحامل شعبي لها، ليصبح هذا الحامل حاضناً وداعماً في سبيل تحقيقها، هنا نادى أبو الأعلى المودودي بالحاكمية الإلهية ليظهر هذا المفهوم وبهذا الاصطلاح أول مرة في القرن العشرين. فأسس عام 1941الجماعة الإسلامية وانتُخب أميراً لها في (لاهور) للدعوة إلى الله وإقامة المجتمع الإسلامي، إذ وضع لها المرتكزات النظرية والعملية لعودة دولة الإسلام.
كان يتوافق بدايةً مع دعوة (محمد علي جناح) لاستقلال الباكستان عن الهند؛ وهي الفكرة التي أسس لها الفيلسوف (إقبال) وعمل من أجلها سياسياً (جناح) ونظّر لها فكرياً وعقائدياً (المودودي) ولكن المودودي اختلف مع (جناح) حول نظام الدولة الحاكم للمجتمع في الباكستان، إذ كان المودودي يريدها أن تحتكم إلى الشريعة الإسلامية، أما (جناح) فأرادها دولة ديمقراطية حديثة تعتمد النظام الحديث، ولكن المودودي رأى في ذلك تحايلاً على الشريعة وتمييعاً لمفهوم الحاكمية الإلهية التي يدعو إليها.
ولذلك انتقل المودودي من النضال ضد الهندوس في الهند إلى المعارضة الصارمة لأفكار (جناح) الذي أصبح حاكماً لباكستان بعد انفصالها عن الهند عام 1947 وأكدّ أن ظنه بجناح قد خاب، وأن استقلال الباكستان لم يوصل الإسلاميين إلى مرادهم، لذلك كان شرساً في معارضته لشكل الحكم في الباكستان.
وضع المودودي النظرية السياسية في الإسلام من خلال مفهوم الحاكمية التي تدعو إلى نزع كل أمر أو تشريع يضعه البشر، إنْ في المستوى الفردي أو الحزبي أو البرلماني، ولا يخضع المؤمنون إلا لحاكمية الله وحده؛ وعليهم عصيان أي حاكمية أخرى.
وأكد أن أخطر الأشياء التي ابتدعها البشر وتمثل منافسة لحاكمية الله هي العلمانية والديمقراطية والقومية؛ لذلك فإنّ كل من يدعو إلى هذه الأشياء التي تنازع حاكمية الله أو يقبل بها أو يؤمن بها أو يخضع لها فقد عصى الله ورسوله وخرج على حاكمية الله وقبل بحكم الجاهلية. ولا توجد سلطة تحكم سلوك البشر وتتحكم بها سوى سلطة النص الديني المتمثلة بقال الله وقال الرسول.
ولذلك لا بد من الاحتكام إلى الحجة النقلية والخضوع والانقياد له، وإهمال كل حجة عقلية والإعراض عنها. حتى إنه قال في كتابه نظريّة الإسلام السّياسيّة: (ليس لفرد أو أسرة أو طبقة أو حزب أو لسائر القاطنين في الدّولة نصيب من الحاكميّة فإنّ الحاكم الحقيقيّ هو الله… وليس لأحد من دون الله شيء من أمر التّشريع، والمسلمون جميعاً ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً لا يستطيعون أن يشرّعوا قانوناً).
وتوازياً مع حصر الحاكميّة في الله تُخرَج (الدّيمقراطيّة) -بما هي حكم الشّعب لنفسه- من دائرة الإسلام، (فلا يصحّ إطلاق كلمة الدّيمقراطيّة على نظام الدّولة الإسلاميّة، بل أصدق منها تعبيراً كلمة الحكومة الإلهيّة أو الثيوقراطيّة… وأنّ العامّة لا يستطيعون أن يعرفوا مصالحهم).
ونلاحظ أن المودودي حين حكم على مَنْ يقبل بالعلمانية والديمقراطية والقومية أو يعيش في كنفها بالكفر والردة إلى الجاهلية كان مقصده من ذلك سياسياً، إذ إن الهند بدأت تذهب إلى نظام جديد لدولتها بعد الاستقلال، وهذا الشكل لن يسمح بعودتها إلى الخلافة الإسلامية ولا بعودة المسلمين قادة سياسيين لها نتيجة الاحتكام إلى الديمقراطية.
من هنا نجد أن حكم المودودي على الديمقراطية بالكفر محكوم بتاريخانية الحدث، وأنّ المسألة متعلقة بخروج الإسلاميين من السلطة، والديمقراطية ستخرجهم منها، لذلك أراد قطع الطريق عليهم بالقبول بها.
الحاكمية من الهند إلى مصر ومن المودودي إلى سيد قطب
سقطت الخلافة الإسلامية سنة 1924 وأخذ الإمام حسن البنا يعمل على إعادتها ولو عربياً، وحتى يعود الإسلام إلى السلطة، أسس البنا تحالفاته السياسية آنذاك مع الملك فؤاد ثم فاروق؛ هنا ظهر ما سُمي لاحقاً بالإسلام السياسي. إلا أنّ علي عبد الرازق وجد أن نظام الدولة الحديثة المتشكلة بعد الحرب العالمية الأولى لا يسمح بعودة نظام الخلافة، وأنه نظام عفا عليه الزمن ولا يليق بالدولة الحديثة، ولا علاقة للإسلام به وليس من أصول الدين؛ فكتب كتابه الشهير (الإسلام وأصول الحكم) الذي صدر عام 1925 ويُعدُّ الكتاب أولَ دراسة شرعية تؤسِّس للفكرة العَلمانية داخل الوسط الإسلامي.
قال فيه: (لا شيء يمنع المسلمين أن يسابقوا الأمم الأخرى، في علوم الاجتماع والسياسة كلها، وأن يهدموا ذلك النظام العتيق الذي ذلّوا له واستكانوا إليه، وأن يبنوا قواعد ملكهم ونظام حكومتهم، على أحدث ما أنتجت العقول البشرية، وأمتن ما دلت تجارب الأمم على أنه خير أصول الحكم).
أحدث الكتاب ردة فعلٍ شديدة ضده، فأصدرت هيئة كبار العلماء في مصر بتوقيع (24) عالماً بياناً ذكروا فيه أخطاء الكتاب البارزة، وحصروها في (7) مخالفات ظاهرة ثم توالت الردود العلمية، فكتب الشيخ محمد الخضر حسين: (نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم)، وكتب الطاهر بن عاشور: (نقد علمي لكتاب الإسلام وأصول الحكم)، وألَّف محمد بخيت المطيعي رسالته: (حقيقة الإسلام وأصول الحكم)، وأرَّخ الدكتور محمد ضياء الدين الريس للتفاصيل السياسية المتعلقة بصدور الكتاب في رسالته (الإسلام والخلافة).
مع ظهور جماعة الإخوان المسلمين بوصفهم قوة حقيقية ومنظمة منضبطة في حرب فلسطين 1948، إضافة إلى التخوف من دورها المعارض في تفاوضات الإنكليز مع الحكومة المصرية حول فلسطين وقضايا أخرى داخلية، جاء قرار النقراشي باشا -رئيس وزراء مصر في حينها- في كانون الأول (ديسمبر) 1948 بحل الجماعة ومصادرة ممتلكاتها، واعتقال رجالها وزجهم في السجون. في إثر تلك الحوادث اغتيل حسن البنا عام 1949.
تابعت الجماعة عملها سراً بعد قرار حلها حتى جاءت ثورة تموز (يوليو) 1953 وحصل تحالف معها، كما ذكر بعض مَنْ أرخ لتلك المرحلة لكن سرعان ما انتهى شهر العسل بينهما الذي لم يدم طويلاً، وقيل إن جمال عبد الناصر كان منتمياً إلى الجماعة ثم انفصل عنها بعد تشكيله لحركة الضباط الأحرار.
ظهور سيد قطب ودوره في أدلجة الحاكمية وتكفير الديمقراطية
في تلك المرحلة الحرجة لمعت شخصية مهمة ذات صفات قيادية تتمتع بالتأثير في من حولها ومَنْ يقرأ لها؛ أصبحت في ما بعد أهم الشخصيات الإسلامية في القرن العشرين؛ إنه (سيد قطب) ذلك الرجل الذي يتمتع بقلم مبدع وأسلوب ساحر في الكتابة.
سيد قطب يعدُّ أهم منظري الحاكمية عربياً، ولعله أشهر من المودودي في ذلك لأن كثيراً من التنظيمات المتشددة تبنت أفكاره وعملت بها، ولقد طرحها من خلال كتابيه (في ظلال القرآن) وهو تفسير لكتاب الله، و(معالم في الطريق) ولقد نال هذان الكتابان شهرة عربية واسعة.
في هذين الكتابين أسس سيد قطب مفهوم الحاكمية سياسياً وربطه بالمفهوم الشرعي، ونادى بجاهلية المجتمع، وطالب كما المودودي مع اختلاف بسيط بأن تبدأ الدعوة من الصفر على خُطوات رسول الله كما في مكة والمدينة.
حكم سيد قطب في حاكميته أنّ المجتمع جاهل ورأس الجهل فيه السلطة الحاكمة فكفّر الجميع، ولكن يجب ألّا ننسى بأن قطب كتب كتابيه الظلال والمعالم وهو في السجن، وأنّ للمحنة وما لاقاه من عذاب وتنكيل في السجن من جلاديه أثراً في ما كتب، وهذا العذاب الذي لاقاه وهو في العقد السادس من العمر ترك أثراً في فكره وكتاباته، لذا لا يمكن أن يُدرس فكره بعيداً من محنته.
يعدّ قطب من أهم منظري السلفية الجهادية، وكتبه مرجعيتهم في ذلك، ثم ما لبثوا أن كتبوا على منوال كتاباته مناهجهم التي ساروا عليها ولكنها تدور في فلك فكر الحاكمية القطبية كما يسمونها.
لا يستطيع أحد أن يشك في أن مصطلح الحاكمية عند المودودي هو ذاته المحرك والملهم لأفكار سيد قطب، ولا أرى بأن قطب وجد سوى حاكمية المودودي مدخلاً لإثبات عدم شرعية عبد الناصر في حكمه، وأنّ نظامه يخالف منهج الله وحاكميته.
سلك قطب مسلك المودودي، وذهب بمفهوم الحاكمية بعيداً عن الخضوع العبادي لله سبحانه وتعالى، ونقله من التوحيدية والعبادية إلى الحياتية الشاملة بما فيها السلطة. وكذلك لم يحسم دلالة المصطلح، إنما طالب ببسط السلطان الإلهي في الأمور كلها من دون أن يتحدث عن دائرة المباح المتروكة للفعل البشري وإرادته، ولا تتدخل فيها الشريعة وهي متبدلة ومتغيرة بتبدل العصر وتغيره، من خلال تنظيم حياة الناس وأمنهم ومعايشهم، لكن قطب يتحدث عن الحاكمية، ويستبطن بين كلماته الأمر السياسي إذ يقول في (معالم في الطريق):
وليس الطريق أن نخلص الأرض من يد طاغوت روماني أو طاغوت فارسي لتنتقل إلى يد طاغوت عربي، فالطاغوت كله طاغوت، إن الأرض لله وليست الطريق أن يتحرر الناس في هذه الأرض من طاغوت ليخضعوا لآخر، إن الناس عبيد الله وحده لا حاكمية إلا لله، لا شريعة إلا من الله ولا سلطان لأحد على أحد، وهذه هي الطريق.
هل الحاكمية مقابل الديمقراطية عند سيد قطب أم لإسقاط مشروعية عبد الناصر؟.
هنا نسأل: كيف تنتظم الحياة من دون قوانين ضابطة لسلوك الناس في المجتمع؟ وأين كانت النصوص الشرعية في صحيفة المدينة التي دعا إليها الرسول الكريم؟ ألم يتوافق مع أهل المدينة من يهود ومشركين وسواهم على حمايتها ضد أي اعتداء خارجي؟ ألم يتضمن العقد الاجتماعي لتلك الصحيفة تكافلاً اجتماعياً؟ يضمن السلم الأهلي فيها؟.
لكن سيد قطب يذهب في مراده بالحاكمية إلى السلطة السياسية، ومن ثَمَّ إلى تكفير نظام عبد الناصر، كما ذهب أبو الأعلى المودودي إلى تكفير من يقبل بالعلمانية والديمقراطية والقومية؟ ليقطع الطريق على البريطانيين في الهند، ومحمد علي جناح في الباكستان، وهذا ما دفع سيد قطب إلى القول: لا حاكمية إلا لله، لا شريعة إلا من الله ولا سلطان لأحد على أحد، وهذه هي الطريق.
ومن ثم فإن طرح عبد الناصر للقومية والديمقراطية والعلمانية جعلها بديلاً من الحاكمية الإلهية؛ ولا بد من إسقاط شرعية عبد الناصر من منظور شرعي حتى يكون إسقاطه جهاداً يلتقي حوله كثيرون من الإسلاميين الحالمين بالعودة إلى السلطة.
وهنا يلتقي قطب بالمودودي بفكرة التكفير ذاتها، إذ يقول في تفسيره للآية (40) من سورة يوسف:
إن الحكم لا يكون إلا لله فهو مقصور عليه سبحانه بحكم ألوهيته، إذ الحاكمية من خصائص الألوهية من ادعى الحق فيها فقد نازع الله سبحانه أولى خصائص ألوهيته، سواء ادعى هذا الحق فرد أم طبقة أم حزب أم هيئة أم أمة أم الناس جميعا في صورة منظمة عالمية. ومن نازع الله سبحانه أولى خصائص ألوهيته وادعاها فقد كفر بالله كفراً بواحاً يصبح به كفره من المعلوم في الدين بالضرورة. وكلام سيد قطب هو كلام المودودي ذاته، وكأنه (منسوخ) لا يختلف معه البتة.
ختاماً:
نحتاج كثيراً إلى مراجعات حقيقية للفكر السياسي الإسلامي بمدارسه كلها، وقد وآن الأوان لنعترف أن تلك المدارس التراثية لم تعد صالحة اليوم في دولة المواطنة المنشودة، والدولة المعاصرة الحديثة، وعلينا أن نبتكر مفهوماً سياسياً ينتمي إلى الواقع المعاصر الذي نعيشه، ويعتمد مقاصد الإسلام الإنسانية والأخلاقية مرجعاً.
إنّ الشورى مبدأ تعايشي عام أما الديمقراطية آلية توافقية في العمل السياسي تمنع ولادة الاستبداد لتسمح بتداول سلمي للسلطة.
والأوطان تبنى بالتشاركية لا بالقطيعة، والعنف يعقد المشكلات ولا يحلها. والديمقراطية دواء لنا لا داء، وهي شراكة لبناء المجتمع وليست شركاً.
لا نريد عنفاً تنتصر في نهايته الديمقراطية، لأننا لا نريد العنف ذاته، فهل يمكن الوصول إلى ديمقراطية من دون عنف؟. إن كثيراً من الديمقراطيات دفعت دماً للوصول إلى حالة مستقرة، ولكن هل نحن محكومون قدرياً بإعادة التجارب.
إن الديمقراطية تحقق السلم الأهلي وتقضي على ظاهرة العنف السياسي، وتضمن ممارسة السياسة أسلوباً متحضراً في إدارة شؤون المجتمع وحل مشكلاته وتناقضاته، وإقامة نظام سياسي يقوم على الحوار والتفاهم، وتداول السلطة، ونبذ العنف بصوره كلها، والاحتكام إلى نتيجة الانتخابات النزيهة، وهذا يتطلب ثقافة ديمقراطية قبل الديمقراطية ذاتها.