يقدم الباحث رؤيته حول الجدل المستمر لعلاقة الإسلام بالديمقراطية، من خلال محاور عدة منها:
المشرق العربي وصدمات الحداثة الغربية؟.
الإسلاميون الأوائل المرحبون بالديمقراطية؟.
الديمقراطية كما قدمها المفكر مالك بن نبي؟.
في الديمقراطية: هل يضمن الإسلام ويكفل الشروط الذاتية والموضوعية؟
الخلاصة.
التمهيـــــــــد:
منذ عدة سنوات تساءل الباحث التونسي محمد الحداد في أثناء دراسته للمناظرة المهمة بين الأستاذ فرح أنطون والإمام محمد عبده: “لماذا تُمنح الفرصةُ للمسيحي أن يتقبّل العلمانية بذرائعَ من الإنجيل، ولا تًمنح الفرصةُ للمسلم أن يَدخل العلمانيةَ بتأويل جديد لبعض آي القرآن”(1)؟.
اليوم يعاد طرحُ هذه السؤال ويضاف إليه: الديمقراطيةُ وحقوقُ الإنسان والحداثةُ والليبرالية، إلى آخر ما هنالك من مصطلحات تدور في فلك القيم الإنسانية المعاصرة.
ولعل من سوء الطالع أن يتفرّد المسلمون من بين جميع الأمم بأن يستمروا في معالجة هذه المسائل الفكرية التي بدأ البحث فيها منذ ما يقارب القرنَ والنصف، وانتهى التنظير لها منذ ما يقارب النصفَ قرن، ثم تراهم في حالة استئناف متواتر، وبَداءٍ دائم، من دون أن يلتفتوا إلى أنّ رفض (العلمانية) و(الديمقراطية) وإنكارَهما والتعالي عليهما، كان من الأسباب المسؤولة عن تشكل فرق هامشية جديدة في الإسلام، بكل ما تحمله من تصدع وانشقاق في عالم المسلمين.
المشرق العربي وصدمات الحداثة الغربية:
لقد كان الشرق في نهاية القرن الثامن عشر، وبدايات القرن التاسع عشر، وبخلاف ظن كثير منّا، قد شرع يتلمس التحولاتِ التي تمر بها أوروبا، والأفكارَ التي تمور فيها من خلال: الحملة الفرنسية، والبعثات العلمية، والمعاهدات التجارية، والروابط الاقتصادية، والمصارف، والترجمات (2)، والمدارس التبشيرية، والإرساليات الدينية، والرحالة والسائحين (3)، والجرائد، والقنصليات، ناهيكم عن الاستعمار. ولقد أدرك بعض مثقفي هذا الشرق، ولو بشكل باهت ما أنجزته أوروبا من نجاحات على مستوى ثورة الإصلاح الديني التي بدأت تثمر حرية الضمير، وعلى مستوى الثورة الفرنسية التي بدأت تحقق الحرية السياسية.
وأمام التحديات والأسئلة الجديدة المحرجة التي صبتها فوق رؤوسهم الحداثة الأوروبية صباً، وأفرغتها إفراغاً، ارتبك رجال الاستبداد السياسي وخدّامُهم من رجال الاستبداد الديني بفكرهم التقليدي، المفرِط بالتصدُّع، والمنهَك المنهمِك بالقيود وبالشكل وبالقشور، والمستهلَك بالتعقيد. فعمد السنّي الذي الذي اعتقم رأيه وصديت قريحته، والشيعي الذي نبا عقله وماتت خواطره، إلى عطف الهوى على الهدى، فوضعوا أصابعهم في آذانهم، واستغشوا ثيابهم، وانكفأوا إلى ذواتهم يمجدونها، وإلى أسلافهم يحتمون بهم، وأعرضوا عن مجرد التفكير في القيم الحديثة وتوابعها، وظنوا أنهم في حوزة لا تُستباح، وعدّوا الدعوة إلى (التجديد والإصلاح) مجرد دُرْجة (موضة)، لا تلبث أن تزول، وشدّوا على الدعاة إليها، في تَقَوية منحطّة، يهاترونهم ويطنزون بهم، فزادوا في الشطرنج بغلاً، وخرجوا من فذلكة إلى مهلكة، ومن مزلقة إلى مغرقة (4).
وسرت في فئة أخرى حمّيا (الحداثة) وقيمُها، كأنها جذوة من ضرام، بعد أن دهتهم المقارنات والمقايسات بينهم وبين الغرب، ودهمتهم المناظرات والمناقشات مع أفكاره ومبادئه، فأدركوا أنهم أمام تحدٍ حفيل هائل، وأنهم معلولون ومنهكون بالداء العياء، الذي استشرى وصار في أعلى درج الاستحقاق: (استبداد، وفساد، وفسالة، وفشل، وفُرقة، وفقر، وجهل، ومرض إلخ)، فطلبوا الاستنقاذَ من تلك المعاطبِ الذميمة والخطوب الطارقة بإعادة النظر في طبيعة السلطةِ وآلياتِ تحققِها، وسبلِ ضبطِها وتقويمِ مسارِها لأنها المؤثرُ الأكبر في حركة كل أفراد المجتمع، فمنهم من نادى بالثورة دفعةً واحدة، ومنهم من دعا إلى الإصلاح والتجديد والتربية والتدرُّج (رفاعة الطهطاوي – سير أحمد خان- السيد أمير علي- جمال الدين الأفغاني- خير الدين التونسي- نامق كمال- علي باشا مبارك- عبد الرحمن الكواكبي- محمد عبده).
لكن أمام العنت والاستعصاء والانغلاق والكبت والخنق الذي واجهتهم به الفئة الأولى التي راعها أن تفقد امتيازاتها وسطوتَها، قامت فئة ثالثة فحلّت العقدة بقطعها، بعد أن رُجّت أفكارها رجاً، وبُسَّت تصوراتها بساً، فكانت (القاديانية) المولودة من الرحم السني في الهند، والبابية/البهائية المولودة من الرحم الشيعي في إيران. ديانتان استجابتا لكل متطلبات الحداثة، وتخففتا، من عبءٍ ثقيل، وتركة باهظة، من كل ما يقف عائقاً أمام القيم الكونية الحديثة. وكان على رأس أولويات هاتين الفرقتين تمثُّلُ (العلمانية والديمقراطية) حيث نصَّت نصوصُهما التي عدّها أتباعها مقدَّسة على (فصل الدين عن السياسة)، وعلى مراعاة الآليات الديمقراطية الكفيلة بتحقيق قيم الحداثة وتطبيقها.
وقد أدرك الشيخ علي عبد الرازق هذه الحقيقةَ فقال في محاضرة له عن (الدين والديمقراطية): “من الراجح أن ديناً من الأديان التي نعرفها لم يتكلم عن الديمقراطية ولم يأت فيها بقول صريح، اللهم إلا أن تكون بعضُ الأديان الحديثة كالبهائية والأحمدية” (5).
فهذه إذن فئة كانت من المسلمين حُسمت مسألة الديمقراطية لديها منذ أكثر من مئة سنة، وغدت أمراً مفروغاً منه، بل مسلّمة من المسلمات.
الإسلاميون الأوائل المرحبون بالديمقراطية:
إذا ما انتقلنا إلى الجيل الثاني من تلامذة الرواد في عالمنا العربي والإسلامي فسنجد أنّهم تعاملوا مع مصطلح (الديمقراطية) بأريحية تامة من دون أدنى تشنّج أو تكهرب. حتى من كان مشهوراً بينهم بنزعته السلفية المتشددة لم يكن يجد غضاضة أن يستخدم هذا المصطلحَ ويدللَ من خلاله على رقي الإسلام وتطور أهله، فهذا الأستاذ محب الدين الخطيب مؤسس المطبعة والمكتبة السلفية يتحدث في سنة 1922 “عن الديمقراطية العربية في صدر الإسلام”، في نشرته التي كان يصدرها باسم “الحديقة”، ونقرأ بعد ذلك المقاربات العديدة للديمقراطية والإسلام بدءاً من: محاضرة علي عبد الرازق حول (الديمقراطية والدين) في سنة 1935، إلى مقالات أحمد حسن الزيات حول (الديمقراطية) المنشورة في الرسالة في سنة 1937، إلى مقالتي عبد المجيد نافع (الإسلام والديمقراطية) المنشورة في الرسالة في السنة ذاتها، إلى محمد البهي قرقر الذي أكّد في بحث له نشر في الرسالة أيضاً في السنة نفسها أن الإسلام يضمن الملكية والديمقراطية، إلى محمد فريد وجدي الذي كتب عن (الإسلام والديمقراطية) في الهلال في سنة 1941، إلى عباس محمود العقاد الذي كتب كتاب (الديمقراطية في الإسلام) في 1952، إلى عبد العزيز الحبابي الذي كتب عن (الحرية والديمقراطية) في الأديب كذلك في 1960، ونحط رحالنا في الفترة ذاتها أي في سنة 1960 عند مالك بن نبي الذي جمع كل الكلام السابق ففصّل وبرهن وحدّد محطات الوفاق بين الديمقراطية والإسلام بما لا مزيد عليه!.
الديمقراطية كما قدمها المفكر مالك بن نبي:
يفند مالك بن نبي في البداية ما يراه بعضهم من أن مسوغات عنوان (الإسلام والديمقراطية) يجب أن تُستقى من واقع المسلمين اليوم، لا من نصوص دينهم، ولكن ليس لهذه الملاحظة – كما يقول – إلا قيمة شكلية، لأننا عندما ندرس ديمقراطية أثينا على سبيل المثال، فإننا لا نبحث عن مسوّغاتها في واقع الشعب اليوناني اليوم، دون أن يعني هذا أن الجيل اليوناني المعاصر قد فقد القيم التي تميّزت بها الديمقراطية في عصر أفلاطون، ومن هنا فلا حرج في اعتبار الديمقراطية في الإسلام، لا في الزمن الذي تحجرت في التقاليد الإسلامية، وفقدت فيه إشعاعها، كما هو شأنها اليوم بصورة عامة، ولكن في زمن تخلّقها ونموّها في المجتمع.
لقد قام مالك بن نبي أولاً بتخليص (الديمقراطية) من قيود التاريخ والسياسة، وعالجها على ضوء علم النفس والاجتماع، “فالشعور الديمقراطي في أوروبا كان النتيجة والمآل الطبيعي لحركة الإصلاح والنهضة، وهذا هو معناه التاريخي الصحيح، ولكن هذا المعنى لا يُفصل عن تاريخ أوروبا ليطبق على أمم أخرى. لكن القانون الطبيعي العام بالنسبة إلى طبيعة الشعور الديمقراطي، سواء في أوروبا أو في بلد آخر هو أنّ هذا الشعور نتيجة لاطراد اجتماعي معيّن، فهو بالمصطلح النفسي: الحد الوسط بين طرفين، كل واحد منهما يمثّل نقيضاً بالنسبة إلى الآخر، النقيض المعبّر عن نفسية العبد المسكين وشعوره من ناحية، والنقيض الذي يعبّر عن نفسية المستعبد المستبد وشعوره من ناحية أخرى.
فالإنسان (الحر) الذي تتمثل فيه قيم الديمقراطية والتزاماتها هو الحد الإيجابي بين نافيتين، تنفي كل واحدة منهما هذه القيم وتلك الالتزامات: “نافية العبودية، ونافية الاستبداد”(6).
وفي مثل هذا الإطار يرى مالك بن نبي أنه يجب أن ننظر إلى (الديمقراطية) من ثلاث وجوه:
1 ــ الديمقراطية بوصفها شعوراً نحو (الأنا).
2 ــ الديمقراطية بوصفها شعوراً نحو (الآخرين).
3 ــ الديمقراطية بوصفها مجموعة الشروط الاجتماعية والسياسية الضرورية لتكوين هذا الشعور في الفرد وتنميته.
وبالتالي يغدو السؤال:
هل يضمن الإسلام ويكفل هذه الشروط الذاتية والموضوعية؟
أي هل يكوّن نحو (الأنا) ونحو (الآخرين) الشعور الذي يطابق الروح الديمقراطي، فينفي العبودية وينفي الاستبداد؟ وهل يخلق الظروف الاجتماعية المناسبة لتنمية هذا الشعور؟
إنّ الجواب عن هذا السؤال لا يتعلق – كما يرى مالك – ضرورةً بنصٍّ فقهي مستنبط من القرآن والسنة، بل “يتعلق بجوهر الإسلام عامة، وخاصة من الوجهة التي تهمنا هنا، فلا يسوغ لنا أن نعد الإسلام دستوراً يعلن سيادة شعب معين، ويصرّح بحقوق هذا الشعب وحرياته، بل ينبغي أن نعده في سياق حديثنا مشروعاً ديمقراطياً تفرزه الممارسة، وترى من خلاله موقع الإنسان المسلم من المجتمع”.
“فليست الديمقراطية في أساسها عملية تسليم سلطات تقع بين طرفين معينين، بين ملك وشعب مثلاً، بل هي تكوين شعور وانفعالات ومقاييس ذاتية واجتماعية يُشكل مجموعها الأسس التي تقوم عليها الديمقراطية في ضمير شعب قبل أن ينص عليها أي دستور”.
ولئن كانت النماذج الديمقراطية الغربية ــ كما يرى مالك ــ تستهدف في أساسها إما منح الإنسان بعض الحقوق السياسية التي يتمتع بها (المواطن) في البلاد الغربية، وإما الضمانات الاجتماعية التي يتمتع بها (الرفيق) في البلاد الشرقية فإنّ “الإسلام يمنح الإنسان قيمة تفوق كل قيمة سياسية أو اجتماعية، لأنها القيمة التي يمنحها له الله في القرآن في قوله تعالى: {ولقد كرّمنا بني آدم} الإسراء: 70، فهذا التكريم يكون ــ أكثر من الحقوق أو الضمانات ــ الشرط الأساسي للتعبير اللازم في نفس الفرد، طبقاً للشعور الديمقراطي، سواء بالنسبة إلى الأنا، أم بالنسبة إلى الآخرين، والآية التي تنصّ على هذا التكريم تبدو وكأنها نزلت لتصدير دستور ديمقراطي يمتاز عن كل النماذج الديمقراطية الأخرى، دون أن تعبّر عنه نصوص قانونية محددة، فنظرة النموذج الإسلامي للإنسان هي نظرة إلى التكريم الذي وضعه الله فيه، أي نظرة إلى الجانب اللاهوتي فيه، في حين أنّ النماذج الأخرى تمنحه النظرة إلى الجانب الناسوتي والجانب الاجتماعي، فالتقويم الإسلامي يضفي على الإنسان شيئاً من القداسة، ترفع قيمته فوق كل قيمة تعطيها له النماذج المدنية (…).
فالإنسان الذي يحمل بين جانبيه الشعور بتكريم الله له، يشعر بوزن هذا التكريم في تقديره لنفسه وفي تقديره للآخرين، لأنّ الدوافع والنزعات السلبية المنافية للشعور الديمقراطي تبدت في نفسه.
ثم إنّ الإسلام الذي وضع في نفسية المسلم هذا التوجيه العام، قد وضع عن طريقه ــ يميناً وشمالاً ــ حاجزين، كيلا يقع في هاوية العبودية أو هاوية الاستعباد.
وهذان الحاجزان مذكوران بالإشارة إلى آيتين تذكر الواحدة الهاوية ذات اليمين، والأخرى تذكر الهاوية ذات الشمال، فيقول عز وجل:
{تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين} القصص: 83.
فهذا الحاجز وضع بكل وضوح على حافة الاستعباد، حتى لا يقع فيه المسلم، أما الحاجز الآخر الذي يحفظه من هاوية العبودية فهو مذكور في قوله عز وجل:
{إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيمَ كنتم قالوا كنّا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفواً غفوراً} النساء: 96ــ98″.
وإذا ما تساءلنا: كيف تتحقق هذه الديمقراطية المؤسسة بالصورة التي بيّنها مالك بن نبي، رحمه الله، في عالم الواقع المحسوس، في الأعمال الخاصة والعامة، في نطاق الأفراد والحكومات، وفي حالة النظم والمنظمات؟
وهل تكفل هذه الديمقراطية ما تكفله الديمقراطية العلمانية للفرد من حقوق وحريات سياسية، ومن ضمانات اجتماعية؟
فسوف يعرض مالك جواباً على هذه الأسئلة للأسس التالية:
أولاً:
إنّ المشروع الديمقراطي الذي وضعه الإسلام قد أخذ طريقه للتحقيق في زمن الرسول (ص) وفي عهد الخلفاء الراشدين وفي هذه الفترة وضعت الأصول النفسية كلها، تكملها وتدعمها مقدمات جديدة لتكون الأساس المعنوي للديمقراطية الإسلامية وهي:
1 ــ مبدأ تحرير الرقيق.
2 ــ الطاعة والحكم محدودان بالاعتبارات نفسها في ضمير المواطن البسيط وضمير رجل الدولة.
3 ــ مبدأ حرية الضمير (لا إكراه في الدين).
4 ــ مبدأ حرية العمل والتنقل.
5 ــ مبدأ حصانة المنزل.
6 ــ المبايعة طبقاً لمبدأ الشورى.
وأمام كل مبدأ من هذه المبادئ كان مالك بن نبي يبسط الأدلة الواضحة، والتطبيقات الداعمة، بما يجلي الصورة على أكمل وجه، وبما يجسّدها خير تجسيد.
ثانياً:
إن “التشريع الإسلامي يتمم فعلاً السمات السياسية التي قدمناها بسمات ديمقراطية أخرى، متصلة بالجانب الاقتصادي”، وتهدف هذه المبادئ العامة التي يقوم عليها المشروع الديمقراطي في المجال الاقتصادي إلى توزيع الثروة حتى لا يصبح دُولة بين أيدي بعض المترفين، وأهمها:
1 ــ مبدأ الزكاة.
2 ــ مبدأ تحريم الربا.
3 ــ مبدأ تحريم الاحتكار.
إنّ جميع الأمثلة الداعمة والتطبيقات المؤكدة لهذه الأفكار انتقاها مالك من الفترة التاريخية بين الهجرة ومعركة صفين التي تمثل بحسب رأيه نقطة تحول في تاريخ العالم الإسلامي، والفاصل الذي منع المشروع الديمقراطي الإسلامي من أن يواصل سيره في التاريخ.
يقول مالك بن نبي: “لا شك في أنّ عهد معاوية مثلاً كان، من الوجهة التي تهمنا هنا، عهد تقهقر الروح الديمقراطي الإسلامي، ولكن إذا لاحظنا أن الطاغية المستبد قد ظهر من جديد في شخص الحاكم، يجب أن نلاحظ أن،ّ العبد لم يظهر بعد في شخص المحكوم، ما دام متمسكاً بالروح الإسلامي، كما يدل على ذلك تفاصيل كثيرة خاصة بتلك الفترة، كالحوار الغريب الذي نشأ بين أبي ذر الغفاري و معاوية ، عندما كان هذا الأخير قائماً ببناء قصر الخضراء بدمشق، فكان الصحابي المشهور يؤنب الخليفة تأنيباً شديداً، فيقول له بهذه المناسبة: (فإما أنك تبني هذا القصر بأموال المسلمين من دون حق لك فيها، وإما أنك تبنيه من مالك وهو تبذير).
فهذه الرقابة التي يفرضها الضمير الإسلامي على أعمال الحكم قد استمرّ أثرها في التاريخ الإسلامي، حتى بعد التقهقر الذي أشرنا إليه، ويمكن تفسير أحداث كبرى في التاريخ الإسلامي كظهور المرابطين والموحدين في الشمال الإفريقي على أنها الصدى لاحتجاج الضمير الإسلامي ضد الاستبداد”.
الخلاصة:
بعد هذا التلخيص والتكثيف لعلاقة الإسلام بالديمقراطية سيغدو، بتصوري، كلُ الكلام الذي سيأتي بعده حتى هذه اللحظة مجرّد تكرار وتطويل وشرح لهذا المتن، لذا فمن أعجب العجب أن نتنادى- نحن المسلمين- اليوم لتأصيل ما تمّ تأصيلُه من العلاقة بين (الديمقراطية والإسلام)، وكأنها مسألةٌ مستحدثة، أو قضيةٌ طارئة مستجدة، فهل يُعقل أن نظلّ نعالج هذه المسألة منذ مئة وخمسين سنة في نفس طويل يحطّم أعلى رقم يمكن أن يتخيله إنسان، وفي ترديد وتكرار وإعادة بلا إفادة، وفي مراوحة في المكان، بلا كلل ولا ملل؟؟
فلنترك المتنطعين، ولندع أذاهم، ولنعرض عن استدراجهم إيانا لمناقشات عدمية لا تنقطع، ومماحكات لفظية لا تنتهي، فلا يعقل أن نظل لأكثر من قرن نصبّ ماءنا في برميل مثقوب! كفانا… كفانا.
الهوامش:
(1) انظر: محمد الحداد، “ديانة الضمير الفردي”. دار المدار الإسلامي، ط:1، بيروت، 2007، ص 156.
(2) في سنة 1840 نشر الشدياق في المطبعة البروتستانتية في مالطا باللغة العربية نصاً تعريفياً بمارتن لوثر، ثم نشر في نفس المطبعة بعد انتقالها لبيروت تاريخاً معرّباً لحركة الإصلاح بعنوان: “ملخص تاريخ الإصلاح في القرن السادس عشر” لـ ميرل دوبينيه.
(3) يمكن الرجوع لكتاب “التوفيقات الإلهامية في مقارنة التواريخ الهجرية بالسنين الإفرنكية والقبطية” لمؤلفه اللواء محمد مختار باشا. المؤسسة العربية للدراسات وللنشر. ط: 1، بيروت، 1980. ففيه ذكر لإحصاءات مثبتة بعدد السائحين القادمين لمصر في القرن التاسع عشر، وكان يتراوح عددهم ما بين 45 ألف سائح إلى 70 ألف سائح سنوياً. وهذا رقم كبير بالقياس إلى تلك الأيام.
(4) نحيل ههنا إلى موقف الفقهاء، من كلا الطرفين: سنة وشيعة، المناوئ والرافض لــ (المشروطة: الحياة الدستورية).
(5) انظر: “مجلة الهلال”، عدد مايو، سنة 1935.
(6) جميع نصوص مالك بن نبي الواردة هنا هي من كتابه: “تأملات”. فصل: (الديمقراطية والإسلام)، بدءاً من ص 68، دمشق: دار الفكر، ط1، 2002م
هذه الدراسة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال افريقيا الإعلامي.