لم تكن الحداثة كما يتصورها الكثيرون مشروعاً منفصلاً عن محيطه، سواء في العالم الإسلامي أو في الغرب، حيث الجاليات المسلمة التي باتت تشكل مجتمعات موازية إلى جانب المجتمعات الأوروبية في دول المهجر.
بل أكثر من ذلك، فإن الحداثة ليست مشروعاً بقدر ما هي نمط حضاري نشأ في بيئة غير إسلامية (الغرب) ولكنه أصبح كونياً بكل متطلباته المعرفية والمادية.
ولهذا فليس للمسلمين من خيار إلا الانخراط في هذا النمط الحضاري الذي بات يفرض نفسه على جميع المستويات السياسية والاقتصادية والمجتمعية على حد سواء.
وما نظام الحكم الديمقراطي إلا أحد تجليات الحداثة، فكل محاولة للرجوع إلى نظام غيره قائم على مفاهيم إسلامية من قبيل “الخلافة” أو “الحاكمية” أو على أي شكل آخر من أشكال المزج بين الدين والسياسة، محكوم عليها بالفشل عاجلا أم آجلاً كما هو بادٍ للعيان من الوقائع التي باتت أكثر من أن تحصى.
وبما أن الديمقراطية تحتاج إلى وقت لتترسخ في الأذهان وفي المؤسسات، فإن الإسلام السياسي مضطرٌ بدوره إلى التطور وإلى نبذ كل ما يتعارض مع مقتضيات حرية الضمير والمساواة بين الجنسين وبين جميع المواطنين بصرف النظر عن خياراتهم العقائدية والدينية.
لا يعني ذلك أن الحداثة هي على صدام تام مع الإسـلام وإن لم يكن الإسلامويون على وفاق مع مقتضياتها. ذلك أن النظرة الماهوية للإسلامويين، التي تدعي صداماً مع هذه الظاهرة أو تلك، تخلق بدورها عائقاً يضاف إلى ما هو قائم من معيقات تمنع العالم الإسلامي من اللحاق بركب التقدم الهائل الذي أحرزه الغرب.
إن فهم الإسلام وتأويله عملية مستمرة ما دام الإسلام حيا في النفوس، ولهذا فإن تأويلات معينة هي التي تكون في صدام مع الحداثة أو غيرها. والمقاربة الفكرية الضرورية في هذا الشأن هي التي تفصل بين ما يتصل بعلاقة الإنسان بالله وما يتصل بشروط العيش المشترك التي لا يمكن أن تخضع إلا للتشريع الوضعي القابل للتطور والتحسين.
تكمن الإشكالية في الإصرار في كل حين، وبصور متعددة، على محاولات تأويل النص الديني في سبيل استخراج ما هو مواتٍ لنظرة وتفسير “المؤول” الذي يشتغل في حقل السياسة انطلاقاً من ساحة الدين التي ديدنها – والحال هذه- دغدغة مشاعر العامة من المؤمنين.
من هنا، فإن المعضلة لا تكمن في كون الفكر الإسلاموي متعارض فقط مع قيم الديمقراطية التي هي معطىً حداثوي كما أسلفنا، وإنما تتمثل في افتقاد هذا الفكر لمرونة تجعله ينخرط بالعصرنة دون أن يفقد بصمات الإسلام الإنسانية والأخلاقية والوجدانية.
ولو لم يكن الإسلام كذلك لما استمر في قلوب المؤمنين وسلوكهم رغم تغير الأنظمة، من الخلافة والملكية إلى الجمهورية، في ظل نظم دكتاتورية وأخرى اشتراكية وثالثة ليبرالية، وغير ذلك من التغييرات التي تفرزها حركة التاريخ. فالإسلام فيه مقومات القدرة على البقاء؛ ولكن الفكر الإسلاموي مستلب لشهوة السلطة ومأسور بتراث لم يعد صالحاً للعصر؛ ويتعارض مع مقاصد الإسلام نفسه.
إن ما يحصل في بلدان المنشأ، حيث نبتت أفكار بناء مؤسسات “الدولة الإسلامية” الموعودة، وهي أفكار أينعت أكثر مما مضى في ظل تنامي تيارات الإسلام السياسي خلال سنوات “الربيع العربي”، ينعكس بقوة على الجاليات المسلمة التي يُفترض أنها تتبنى مفهوم الاندماج القائم على تقبل فكرة الحداثة من الناحية النفسية بحسبانها أمراً واقعا،ً وليس العمل بالضد منها سوى محاولات إفراغ شحنات عاطفية بانتظار “بديل” إسلامي غير موجود.
بالمقابل، فإن الإسلام السياسي لن ينتهي بخروج الإسلاميين من الحكم، بل سيتقلص دوره ويصبح ظاهرة هامشية فحسب. بهذا المعنى، فإنه لا ينبغي لنا أن ننسى أنه يمثل ردة فعل على التأخر الحضاري، لكنه يخطئ في توصيف الحلول الناجعة للخروج من هكذا تخلف، وعوض أن يكون نضاله في تقديم الحلول الناجعة، يصبح من بين العوامل التي تكرس التخلف.
ولعل أحد مظاهر تفشي الحالة النفسية السلبية لدى جموع الشباب المسلم، هو لحاقه بركب جماعات الإسلام السياسي التي يعمل من خلالها على إفراغ تلك الشحنات الزائدة لديه، والتي لا يجد لها طريقاً أخر طالما أن العقل الجمعي لم يزل “يقاوم” فكرة تقبل الحداثة ومقتضياتها، حتى بالنسبة لأولئك اللذين يعيشون في ظلال بلدانها الأصيلة (الجاليات المسلمة في الغرب).
تلك الوضعية القائمة على بقاء الحال على ما هو عليه، يستمد عناصر ديمومته غير الرشيدة تلك من أسباب وعوامل موضوعية خارجية. فالظاهرة الدينية أعقد بكثير من أن تختزل في الإسلام السياسي بتياراته المختلفة إذا ما علمنا أن عوامل عديدة تعمل بالتوازي مع واقع خصب لكل ما هو رجعي، أو لنقل غير حداثي.
فكثيرة هي الأسباب التي انتشرت على إثرها السلفية الجهادية لدى جيل الشباب. من أهمها المال الذي تغدقه عليها بعض الدول الداعمة لتيارات سياسية إسلامية كما هو حال قطر في علاقتها المثيرة للجدل مع “الإخوان المسلمين” الذي لم يزل يلعب دور الرجل المسلم “الأنيق” و “المعتدل” في الغرب، وكذلك عن طريق منظمات تدّعي أنها خيرية أحياناً، بالإضافة إلى فراغ الأنظمة التربوية، والأوضاع المعيشية الصعبة، وانسداد الآفاق، إلى غير ذلك مما يقتضي دراسات ميدانية علمية توضح حقيقة الأمر.
على مستوى الوعي بالذات سيكون للسلفية دوماً حضور في المجتمع المسلم كما في كل المجتمعات البشرية التي تشكل أجزاء منها بيئات محافظة تستقر في أذهان الأجيال المتعاقبة، فهي تمثل الحنين إلى الماضي والنزوع إلى المحافظة. وهي ظاهرة لا يمكن أن يخلو منهما أي مجتمع.
أما على المستوى السياسي فمن الأكيد أن السلفية لا حظوظ لها في المجتمعات المسلمة نظراً للتطور الذي شهده العالم، خصوصا بفضل تحرر المرأة ومساواتها بالرجل في أغلب ميادين الحياة. ومن الطبيعي أن أي تيار يستعمل العنف بكافة أشكاله في الصراع السياسي سيخسر وينكفأ، طال الزمان أو قصر.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال افريقيا الإعلامي.