يرصد هذا التقرير معاناة المهجرين من الغوطة وجنوب دمشق بعد وصولهم إلى الشمال السوري المحرر من خلال محاور منها:
- مرارة الغربة في الوطن.
- الإصرار على الهجرة إلى الخارج.
- الخوف من المستقبل في الشمال السوري.
- انعدام وجود منازل تؤويهم.
- العامل الاقتصادي وقهر البطالة.
- معوقات كثيرة في منطقتي درع الفرات وغصن الزيتون.
- الحالة الإنسانية المتدهورة.
- عطالة إغاثة المهجرين.
تمهيد:
تجاوزت أعداد المهجّرين قسرياً الواصلين إلى مناطق الشمال السوري المحرر، من منطقة جنوب دمشق والغوطة الشرقيّة 80 ألفاً بين مدنيين ومقاتلين، توزّعوا بين مختلف مناطق ريف حلب في مدن الباب وجرابلس وعفرين إلى محافظة إدلب في مركز المدينة ومعرة النعمان وريف إدلب الشمالي وكذلك المخيمات ومساكن الإيواء الموقّتة، إذ وصلوا فرقاً متعددة تقارب 36 دفعة، عبر معبري قلعة المضيق شمال حماة، ومعبر أبي الزندين مع مدينة الباب شرقي حلب، بدأت في 14 آذار/ مارس وانتهت في 10 أيّار/ مايو، وفقاً لفريق (منسّقي استجابة الشمال).
منذ وصولهم إلى مناطق الشمال السوري المحرر، اختلفت خيارات المهجّرين تماشياً مع واقعهم المفروض عليهم وأوضاع التهجّير التي أودت بهم إلى أرض ربما لم يعرفوها من قبل أو حتّى يسمعوا بها، بين رغبة في البقاء وإعادة ترتيب أساسيّات عيشهم من جديد، والرغبة في البقاء مع تخوف من مصير المنطقة وتهجير جديد يطالهم، وبين قرار الخروج إلى تركيّا لتأمين معيشة دائمة خارج البلاد بما يضمن حياة مستقرّة أكثر، وتصميم لإكمال ما بدؤوه في أرضهم.
الخروج إلى تركيّا خوفاً من المجهول
يتجّهز (بدر) من مهجّري الغوطة الشرقيّة ومن سكّان بلدة (المليحة) لمحاولة هي الثالثة على التوالي خلال أقل من شهر للعبور إلى الأراضي التركيّة، إذ جاء هذا القرار بعد وصوله إلى عائلته مع الدفعة الثالثة من المهجرين وإقامته في مدينة إدلب مدة شهر، مفترضاً أنّ مستقبل المنطقة المجهول وعدم استقرارها أمنيّاً سبب كافي للمغادرة إلى تركيّا بحثاً عن عمل ومسكن جديد بعد أن حرمهم التهجير كل ما بنوه وأسسوا له في مدينتهم.
قرر (بدر) الخروج مع عائلته وفقاً لقرار مبيّت منذ بدء التهجير، لإعادة تأسيس حياة جديدة بعد أن حُرم منذ سبع سنوات من جامعته ودراسته (كليّة الاقتصاد) في جامعة دمشق، إثر ملاحقة أمنيّة، ثم إنّ أوضاع الحصار والقلّة في الغوطة الشرقية لم توفّر له ذلك، ويبدو إدلب أن الأوضاع لن تتغير وتتيح له إكمال ما حلُم به، وفقاً لما يحدّثنا، وأضاف إلى حديثه لـ(مينا) مبيناً الأسباب التي دفعته إلى الهجرة إلى تركيّا، قائلاً: (إجرام الفصائل بحقّ هذا الشعب المظلوم في المناطق التي تسيطر عليها، وتحكّمهم في عيش الأهالي بدلاً من حمايتهم وحفظ أمنهم وتأمين حياة كريمة لهم، وخروج الثورة عن مسارها الأصلي، دفعني وكثير من الشباب إلى ترك هذه البلاد والهجرة، لإعادة ترتيب أوراق حياتنا الشخصية).
العوامل الاقتصاديّة مُعوِّق بارز أمام مهجّري الغوطة
تختلف الدوافع والأسباب للهجرة خارج إدلب آخر محطّات التهجير، وغالباً ما تكون الوجهة الوحيدة تركيّا، ومنها لأسباب كثيرة أهمها أمنيّة واقتصاديّة، متمّثلة في ضعف الدّخل وغياب فُرص العمل وكذلك ارتفاع الأسعار قياساً بدخل الفرد، الأمر الذي يضطر لأجله المهجّرون إلى مغادرة محافظة إدلب إلى دول مجاورة أو مناطق أكثر حيوية ونشاطاً تجارياً.
تلك نتيجة استطلاع أجري على 50 مهجراً من الغوطة منتشرين في مدن إدلب ومعرة مصرين وبلدة حزانو في ريف إدلب الشمالي، كان (عبد الرحمن) المقيم في مدينة إدلب واحداً منهم، إذ ذهب خلال حديثه لـ(مينا) إلى أنّ انعدام فرص العمل الملائمة هي سبب رئيس في هجرة الأهالي إلى تركيّا أو المناطق المجاورة لإدلب مثل مناطق (درع الفرات) و(غصن الزيتون)، وتعد من أبرز المعوقات التي تواجه أرباب الأسر والشباب وخصوصاً أنّ جلهم هجّر من الغوطة تاركاً خلفه ما يملكه كله، وعاد إلى الصفر).
ويعدّ انتشار البطالة واحدة من سمات المجتمع في إدلب السلبيّة ويعانيها سكّانها الأصليّون والمهجّرون، يعود ذلك بشكل أساسي إلى الضغط السكّاني الكبير الذي تشهده مختلف المناطق في إدلب، وقلة فرص العمل مع انحسار التّجارات والنشاط الاقتصاديّ وعدم قدرته على استيعاب الطاقات البشرية في المنطقة، وأجور العامل لا تتناسب مع تكاليف المعيشة المرتفعة.
(أبو علي) كان ممن أجري عليهم الاستطلاع وجد أنّ صعوبة تأمين منازل للمهجّرين نتيجة الضغط السكّاني شجّعت المهجّرين على البحث عن مناطق تتوافر فيها فرص عمل جيدة وكذلك مساكن بأسعار ملائمة، إذ كان قد عدل عن فكرة الهجرة إلى تركيّا نتيجة ارتفاع أجور المهرب التي تجاوزت الـ 1000 دولار أمريكي، وانتقل إلى مدينة عفرين في ريف حلب، محاولاً إيجاد فرصة عمل ملائمة.
أمّا (محمود السيّد) فقد شاءت الأقدار أن يكمل مشواره الرياضي الذي بدأه في نادي المليحة الكروي في الغوطة الشرقيّة، ليجد فرصة مواتية له في نادي محلي في محافظة إدلب يتقاضي من خلاله أجراً ماديّاً، إلّا أنّه أوضح لـ(مينا) أنّ أحوال المعيشة الصعبة وارتفاع الأسعار وأجور المنازل جعلت أجره المادي الشهري لا يكاد يكفي جزءاً قليلاً منها.
وعلى اختلاف أنواع المهن وأشكال العمل، لا يكاد الأجر اليومي للعامل يتجاوز 2000 ليرة سوريّة وربّما يبدأ بـ 1000 ليرة، أمّا الأجر الشهري فيتراوح بين 100 إلى 150 دولار أمريكي، وهي في مجملها لا تسد مصاريف المواطن في إدلب، نظراً إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية والمحروقات وفقاً لأسعار العملة الأجنبيّة، وكذلك مصروفات تأمين المياه والكهرباء المعدومة من الجهات المحليّة التي تدير المناطق، ما سبّب معوقاً مادياً إضافيّاً على المهجّر إلى جانب إيجارات المنازل المرتفعة المتراوحة بين 20 ألف ليرة سوريّة و 200 دولار أمريكي، وهو ما لا يمكن للمواطن أن يطيقه بعد انعدام أي نوع للدخل الشهري من أرض زراعية أو مشروع تجاري صغير نتيجة التهجير.
محاولات للاستقرار من جديد
يتوافد آلاف المهجّرين من الغوطة الشرقيّة وجنوب دمشق، إلى منطقتي درع الفرات وغصن الزيتون اللتين تخضعان للنفوذ التركي، الأمر الذي شجّع كثيراً من العائلات المهجّرة على الانتقال إليها بوصفها منطقة مستقرة أمنيّاً بعد العمليات العسكريّة التي خاضها الأتراك مع فصائل تابعة للجيش السوري الحر ضد تنظيم (داعش) و(الميليشيات الكرديّة)، في محاولات لإعادة الاستقرار وتأمين أعمال جديدة أو نقل أعمالهم وحرفهم من الغوطة الشرقيّة إلى حيث حطت بهم رحال التهجير.
في رصد للحالة الإنسانيّة والمعيشية في منطقة عفرين، قال الناشط الإعلامي (أنس الخولي) في حديث لـ(مينا): (إنّ العائلات الوافدة للمنطقة تعاني ارتفاع الأسعار كثيراً لأن الحركة التجارية في المنطقة ما زالت ضعيفة جداً، ثم إنهم يلقون صعوبات بالغة في تأمين المنازل، يأتي ذلك مع عودة العائلات الكردية التي هاجرت بفعل العمليات العسكرية الأخيرة إلى المنطقة)، وأشار (الخولي) إلى أنّ المساعدات الإنسانيّة للعائلات معدومة وسط حاجة ملحّة نظراً إلى الحال الإنساني المتردّي لتلك العائلات، وفرص العمل محدودة وقليلة).
(سامي الدريد) من مهجّري جنوب دمشق، وصل قبل أيّام قليلة إلى بلدة جنديرسفي بريف مدينة عفرين، محاولاً الاستقرار من جديد بالبحث عن عمل والتعرف إلى المنطقة الجديدة التي لربما سيقضي فيها ما تبقّى من عمره، أوضح في حديثه لـ(مينا) أنّه على الرغم من شعوره بالغربة والوحشة بعيداً عن أرضه الأصليّة وبيته، إلّا أنّه بدأ بالتعرّف إلى المحيط حوله من عادات وتقاليد وجيران، في محاولة حثيثة للاندماج في البيئة الجديدة، وربّما تكون فاشلة على حدّ وصفه، لكن هناك دافعاً للنجاح وإعادة الإنتاج والتعايش مع الموطن الجديد، مضيفاً: (المهجّر قسراً محتوم عليه البدء من العدم، وبخاصة عند الشروع في عمل أو حرفة أو مشروع جديد، فلا آليات أو محل صغير أو حتى رأس مال أو أي شيء يمكن أن يرتكز عليه في مهجره).
(دريد) الذي وثّق لحظات تهجيره من خروجه من منزله إلى وصوله إلى معبر (أبي الزندين) عبر وسائل التواصل الاجتماعي، كان قد عمل في حقل التدريس منذ سنوات طوال، إلى جانب نشاطه الثوري مع انطلاقة الثورة السوريّة، ويحاول أن يرتّب لنشاط من هذا النحو في المنطقة التي وصل إليها، وقد تواصل مع عدد من الشخصيات المعنيّة في العملية التعليمية في شمال حلب حيث بات يقطن، وفقاً لما أفاد.
أمّا (براء السالم) مهجر من حي القدم، كان له رأي مختلف، إذ عدّ المهجرين يوهمون أنفسهم بمحاولات الاستقرار ليعطوا دفعاً لمن حولهم وتفاؤلاً، مشيراً إلى أنه ما زال مع عائلته يبحث عن مسكن جديد ويتنقل من واحد إلى آخر، وعن الحياة المعيشية أضاف: (من خرج من أرضه وبيته بثيابه التي على جسده فقط، بات محتوماً عليه أن يضع كل ما يملك ثمناً لأثاث وحاجات أساسية أو أجور تنقل من منطقة إلى أخرى لبعد المسافات، إذافة إلى الأسعار الباهظة لمختلف المواد مستغلين فيها حال المهجّرين، وبخاصة أننا آتينا بلا مؤونة).
حالة إنسانية متدهورة واستجابة خجولة للمهجّرين
يعيش مهجّرو الغوطة الشرقية ومناطق جنوب دمشق أوضاعاً إنسانية ومعيشية صعبة، وسط ضعف في الإمكانات واستجابة خجولة من المنظمات الإنسانيّة والجهات المدنيّة في المحافظة، الأمر الذي دعا فريق (منسقي استجابة الشمال) إلى تسليط الضوء عليه (وهو فريق تطوعي يعمل على توثيق حالات التهجير)، إذ أشار في نداء استغاثة أطلقه قبل أيام، إلى أنّ أكثر من 60 في المئة من نسبة المهجّرين غير قادرة على شراء وجبة إفطار في شهر رمضان، منبّهاً الفريق إلى أنّ المهجّرين يعيشون أحوالاً إنسانية صعبة جداً، وهم بلا مأوى منتظم والحاجة الإنسانيّة لديهم تزداد كل يوم.
في السياق، قال (محمد الشامي) مدير الفريق في حديث لـ(مينا): (إنّ الفرق التطوعيّة داخل الفريق عملت على إيواء المهجّرين خلال عملية الاستجابة في الأبنية العامة من مساجد ومدارس وأبنية حكومية ودوائر خدمية في ظل العجز الكبير عن تأمين بيوت ومساكن دائمة، كما ذهب قسم كبير منهم إلى مساكن الإيواء الموقتة)، وتابع حديثه: (حاجات المهجّرين كانت كبيرة، إذ وصلوا بلا ثياب حتّى، وتتطلب الاستجابة الإنسانية الحقيقية لهم تقديم الخدمات كافة من مياه وكهرباء وأثاث منازل في حال توفرت، وفرش وبطانيّات ومساعدات غذائية).
وعن استجابة المنظمات الإنسانيّة، أوضح (الشامي) أنّ موجات التهجير كانت كبيرة وفجائية، ولم تكد تنتهي المنظمات والجمعيات الخيرية من موجات نزوح سابقة، كانت الأكبر لمنطقة شرق السّكة، حتى بدأ تهجير جديد من الغوطة، الأمر الذي سبب ضعفاً كبيراً في الاستجابة لدى المنظمات، واستنزافاً كبيراً من إمكاناتها، مؤكداً تقاعس الأمم المتحدة ومنظمات المجتمع الدولي عن دعم الكارثة الإنسانيّة في شمال سوريا، إثر عمليات التهجير.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال افريقيا الإعلامي.