ترصد هذه الورقة مسار الشيعية السياسية المعاصرة مقابل الإسلام السياسي السني؛ لتتحدث عن مراحل تشكل وتكون ثم امتداد الشيعية السياسية في المجتمع العربي من خلال المحاور التالية:
- الشيعية السياسية المعاصرة.
- مرتكزات الشيعية السياسية المعاصرة.
- التقيـــــــــــــــــــة.
- التقليـــــــــــــــــــــــــد.
- ولاية الفقيـــــــــــــــــــه.
- حركة أمل اللبنانية أول شيعية سياسية.
- الشيعية السياسية وارتباطها بإيران…حزب الله أنموذجاً.
تمهيــــــــــــــــــــــــــد
إن تطور الفكر الإسلامي الشيعي في الحقل السياسي بشكل مختلف عن نظيره السني، يرجع ذلك إلى تفارق في رؤية كل من الطرفين إلى منظومة الخلافة ـ الإمامة بشكل أساسي، أي أن الخلاف بدأ من لحظة سياسية لا عقائدية، وإذ يرتبط المتخيلين بحقبة زمنية مشتركة هي الخلافة الراشدية، إلا أنّ معالجة كل منهما لتلك الحقبة هي ما أوجد الشقاق الإسلامي التاريخي بين الفريقين إلى مرحلة تجّذره في أسس العقل لكل منهما.
الشيعية السياسية
المتخيل العمومي الإسلامي ـ السني مرتبط بشكل وثيق، بما أفرزته المنظومة السلطوية الأموية ثم العباسية من تمجيد لعصر النبي لغايات مرتبطة بشخصيات تلك المرحلة إلى درجة تقديسها ومنع أي محاولة لنقدها هي أو تصرفاتها السياسية أو غير السياسية، فإن المتخيل الشيعي ذهب إلى العكس، إلى شيطنة بعض هذه الشخصيات، طالما كانت مواقفها السياسية متعارضة مع التقديس للتيار الداعم للخليفة الرابع وأبناؤه.
إلا أنه يلاحظ تمأسس الإسلام الشيعي سياسياً في عصرنا الحديث بعد حوالي نصف قرن تقريباً من تمأسس نظيره السني، حيث بتنا اليوم أمام إسلام سياسي شيعي واضح الملامح، محدد بعدد من الحركات السياسية/ الدينية التي لا تخفي مرجعيتها الدينية، وتدمج بين الديني والسياسي، الأمر الذي يضعنا بمواجهة أسئلة، منها: ما هو هذا الإسلام الشيعي؟ كيف تكون؟ وماهي أهدافه؟ وهل نحن أمام حزب أم جماعة دعوية، وهل هي مستقلة أم مجرد تابع وجندي في خدمة أجندة أكبر؟
إلى جانب المتخيل الشعبي، المؤثر كثيراً على المتخيل السياسي، يوجد مجموعة اختلافات جعلت كلا الطرفين على طرفي نقيض، ففي حين يذهب الفكر السياسي السني إلى تبني ولاية الأمة واتفاقها على شكل النظام السياسي الممكن بشرط الصلاح والتقوى (الإجماع)، فإنّ النقيض الشيعي يعتبر أنّ ولاية الأمة حق من حقوق الأئمة (أبناء الخليفة الرابع وأحفاده) بموجب تصريحات للنبي وبموجب “العقل” أيضاً، ولا يقتصر اعتقادهم، في شأن الأئمة على ولايتهم السياسية على الأُمة فحسب، بل يتعدى ذلك إلى الاعتقاد أنهم وارثون لكل شؤون النبي سوى تلقي الوحي التشريعي. وهذا الاعتقاد سائد لديهم. وبناء على ذلك، فالأئمة يتمتعون بالولاية (المعنوية والدينية) بالإضافة إلى ولايتهم السياسية. فهؤلاء ورثة الرسول وخلفاؤه وأوصياؤه (بالحق)، ويترتب على وراثة شؤونه المعنوية والعلمية والسياسية أنهم (أفضل الناس بعد النبي) وأولاهم بالتصدي للإمامة والخلافة. ولذا فإن الشيعة يرون الإمامَ خليفةُ الرسول أي خلافته في كل الجوانب بما فيها السياسية، على خلاف نظرة أهل السنة الذين يكتفون بمعناها اللغوي أو الديني المعروف.
يشكّل هذا المتخيل الشيعي، الجزء الأكبر من ميراث الحركات الإسلامية السياسية الشيعية، إلى جانب قضايا مشتركة بين الطرفين، فكلاهما يريد العودة إلى الزمن الذهبي، زمن الرسول تحديداً، ولو بغيابه الشخصي وحضوره الرمزي، وكلاهما يعمل على تحشيد الجماهير بطريقة النوستالجيا دعماً لفكرته وطروحاته (أحد الروابط تلك التي يقوم فيها الشيعة في احتفالات كربلاء بضرب أنفسهم بالسياط تكفيراً عن خلفهم لوعدهم مع الإمام الحسن وعلي).
مرتكزات الشيعية السياسية
التقية
قبل الحديث عن الشيعية السياسية الحديثة لا بد من التنويه إلى مرتكزات تقوم عليها الشيعية السياسية هي التي وسمت إلى حد كبير الصورة الحقيقية للتشيع السياسي (وغير السياسي) وهو بذلك يتفارق عن مثيله السني افتراقاً كبيراً، ولهذه المرتكزات تأثير فاعل جداً على تطور الشيعية السياسية لاحقاً بما في ذلك الحركات الجهادية كحزب الله.
التقية بالأصل هي نتاج القمع السياسي في العصر الأموي، فأيّ مشايع لعلي أو آل النبي على العموم كان مصيره الموت في حال أجهر بموالاته أو بتشيعه، وفي وقت ظلّ فيه الحكام الأمويون يلعنون علياً (علياً عدو الله) مدة قاربت تسعين عاماً (عدا خلافة عمر بن عبد العزيز)، فإنه لم يكن هناك من مفر من اتخاذ طريقة لإخفاء مولاة علي بفتوى شرعية أطلقها على ما يقال الإمام جعفر الصادق وتقتضي من الأتباع عدم إظهار تشيعهم علناً إذا كان في ذلك حفظ للنفس والمال والعرض، وذهب لاحقون إلى إجازة اللعن لأهل البيت دون التبرؤ منهم (التبرؤ للمشركين فقط)، وزاد في الحاجة في القرون اللاحقة كون الشيعة أقلية في زمن الحكم العباسي ثم العثماني، ولولا نجاح الصفوين (يقول بعض الباحثين أنهم أتراك وليسوا فارسيين) في تشييع إيران في القرن الخامس عشر ميلادي لبقي الشيعة أقلية لا تذكر إلى اليوم.
إن إتباع غالبية الشيعة للتقية قاد إلى نوع من الاستسلام القدري لقرون، وتسبب في استهزاء أهل السنة والجماعة لهم في اعتبارهم “منافقين” يظهرون غير ما يبطنون. وهو اليوم، أحد مشاكل العلاقات الإيرانية ـ العربية والإسلامية. رغم أن الخميني أفتى بعد تفرده بالسلطة بنهاية أسباب استخدام التقية؛ لكنها ما تزال واضحة في سلوكهم مع الآخر.
التقليـــــــــــــــــــــــــــــــــــد
التقليد هو نقطة تفارق ثانية، يتمثل في أن يتخذ كل شيعي رجلاً من رجال الدين الشيعة كمرجع يستفتيه في أمور دينه ودنياه، وهو تقليد تسرب إلى الجماعة الشيعية الكبرى (الاثني عشرية) من أقلياتها الأصغر (الإسماعيلية والزيدية والعلوية)، وقد تولد عن هذا التقليد ظهور “المراجع” ومن ثم مع ظهور ضريبة “الخُمس” الخاصة برجال الدين الشيعة، إذ تحولت المرجعيات إلى أحد أكبر القوى في الإسلام الشيعي السياسي، واليوم تظهر هذه القوة في نظام الحكم الإيراني الذي أضاف إلى التقية والتقليد فكرة أخطر هي ولاية الفقيه.
لنتذكر أن المرجع العراقي المعروف، السيتساني، أصدر فتوى بكون التصويت في الانتخابات العراقية أمراً لازماً دفع بملايين الشيعة إلى صناديق الاقتراع، كذلك فتوى الخميني قبلها بإهدار دم الكاتب الهندي البريطاني سلمان رشدي بعد صدور كتابه “آيات شيطانية”.
ورغم أن هذا يحسب للشيعية السياسية إذ أن الحاكم بات تابعاً وأجيراً للولي الفقيه؛ وهذا حدث له قيمته واعتباره؛ لكن هذه الإيجابية أعادت المجتمع إلى مرحلة الدولة الكهنوتية؛ رغم أن الجانب السني يعاني من تبعية العلماء للحكام؛ حتى فقدوا كثيراً من مصداقيتهم؛ وما بين الفريقين تبقى العلمانية بمفهومها العميق غير الملوث وغير المتخذ خصومة مع الدين والتدين حلاً مهماً لتلك الإشكالية ما بين افراط الشيعية السياسية وتفريط علماء السنة.
ولاية الفقيــــــــــــــــــه
يضاف إلى النقطتين السابقتين إضافة أخرى لا تقل أهمية هي كما قلنا، ولاية الفقيه، لقد قلبت هذه الفكرة تاريخ العلاقة بين السلطان والفقيه لصالح الأخير، وبذلك استعاد الخميني في طرحه (النظري ثم العملي) فكرة الوصاية الإلهية التي تنقل الوصاية الكاملة من النبي إلى الفقيه (الجامع للشروط) عبر الإمام المعصوم، يتشارك هذا المفهوم مع فكرة الوصاية الإلهية للبابا في القرون الوسطى.
تختلف الحركات الشيعية عن نظيرتها السنية في كونها أحدث وأصغر عمراً، ونشوؤها وتطورها ارتبط إلى حد كبير بظهور إيران الشيعية على المسرح الدولي بعد ثورتها عام 1979، من الصحيح أنه في العراق (مهد التشيع) كان هناك أحزاب شيعية عربية (حزب الدعوة)، وبأنها تعرضت مثل غيرها من الأحزاب إلى القمع ومحاولات التصفية، إلا أنها بقيت محدودة الأثر في ظل طوفان القومية العربية والصراع مع الشيوعية هناك، وتحديداً حزب الدعوة (رمزه محمد باقر الصدر، صاحب عدة كتب، أبرزها، فلسفتنا) بقي في مداره الإيراني أيام الشاه ثم لاحقاً إيام الخميني، إلا أن أثره بعد التسعينيات كاد يختفي.
حركة أمل أول شيعية سياسية في المجتمع العربي
يمكن القول بثقة، إن التنفيذ العملي للشيعية السياسية انطلق في المشرق العربي قبل الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975، فقد كان تأسيس المجلس الشيعي الأعلى في لبنان على يد موسى الصدر، وهو فقيه إيراني أرسله الشاه إلى لبنان منذ العام 1958 ونال الجنسية اللبنانية عام 1963، حيث عمل بدأب وصبر على خلق وجود ملحوظ وفاعل للطائفة الشيعية عبر تخطيط ذكي تمكن فيه مثلاً من حل مشكلة التسول في مدينة صور عبر جمعية البر والإحسان، وأقام بدعم وتمويل إيراني من الشاه من القيام بعشرات المشاريع الخدمية المنفّذة بحرفية، وكان لافتاً أنه اتخذ الخطاب الثوري لليسار اللبناني نفسه ولكن من بوابة الشيعية، ورغم عدم إعلانه أبداً الانقطاع عن أي مكون لبناني إلا أنه كان واضحاً أنه بهذه المؤسسات قد نقل الطائفة الشيعية المهمّشة اقتصادياً في لبنان الازدهار إلى طائفة بدأ يتكون لديها كيان وانفصال عن المجموعة اللبنانية الكبرى، انفصال ساهم في تشكيل وبلورة كتلة جماهيرية كانت تعد وقتها عددياً قرابة نصف مليون إنسان متوزعين بين هوامش مدينة بيروت والجنوب.
وقد جاء التجسيد الأول للانفصال في تشكيل المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الذي نال موافقة الدولة اللبنانية عام 1969، وتأسس المجلس مكوناً من تسعة أعضاء، وانتخب السيد موسى الصدر رئيساً له.
بالموافقة على تأسيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، ينتقل الصدر خطوة كبيرة للأمام، يستعيد فيها الولاء الشيعي على حساب الهوية العربية، الوطنية اللبنانية، دون أن يخسر أياً من القوى السياسية من حوله، يتضح ذلك بجلاء من قراءة برنامج التأسيس بنقاطه السبعة التي استندت على طروحات يسارية بعض منها تواجه مع الطروحات القومية المهزومة للناصرية بعد 1967 وأهمها سياسياً كان القضية الفلسطينية متبنياً “دعم المقاومة الفلسطينية والمشاركة الفعلية مع الدول العربية الشقيقة لتحرير الأراضي المغتصبة، في إطار استراتيجية عربية موحدة”، هذه النقطة تحديداً سوف تشكل لاحقاً فيما بعد التسعينات رافعة كبرى للشيعية السياسية.
رحل عبد الناصر عام 1970، وجاءت حرب تشرين الأول 1973، في العام التالي بدأت إرهاصات الحرب اللبنانية، وكانت خطوة الصدر التالية تأسيس حركة أمل التي كانت أول التجسدات العملية لتغيير سوف يطال المنطقة في العقود التالية، مع أن الصدر اختفى فجأة أثناء زيارته إلى ليبيا 1979 بعد الثورة الإيرانية (يرجح أن يكون لطهران يد في اختفاءه فقد كان رد فعل الخميني على الأمر فاتراً جداً) إلا أن الحركة أكملت طريقها.
بعد الغزو الإسرائيلي للبنان 1982 حضرت الحركة إلى الواجهة كحركة مقاومة مع جميع فصائل اليسار اللبناني (جزء منه كان شيعياً، من أبزر منظريه حسين مروة ومهدي عامل)، ولقد لعبت إيران من وقتها دوراً في شق الحركة إلى أجنحة ثلاثة لم تلبث أن اندمجت مع بعض لتشكل حزب الله (1984) مع بقاء الحركة الأم أقرب إلى التشيع العربي الرافض لفكرة ولاية الفقيه، في حين أعلن حزب الله ومؤسسه أن ولاية الفقيه ركن أساسي من أركان سياساته.
الشيعية السياسية وارتباطها بإيران…حزب الله أنموذجاً
فهم الشيعية السياسية بهذا الشكل وتجسدها بدعم إيراني وفي بلدان فيها شيعة أمر لا يختلف فيه اثنان بالنظر إلى أن القاعدة المركزية للشيعية هناك في طهران، مثلما كانت القاعدة الأخرى في القاهرة والرياض والدوحة، هذا يعني وببساطة أشد، أن الأديان تنتهي بوفاة مؤسسيها لتحل السياسة محلهم.
سيكون تأسيس حزب الله نقطة إضافية في مسار الشيعية السياسية ستفرض معادلات جديدة في خرائط الصراع في المنطقة، في العام 1982 حدث صدام عسكري بين الجيش السوري وحزب الله أدى لمقتل عشرات عناصر الحزب في ذروة الغزو الإسرائيلي للبنان، لن يكون هذا الصدام بين الحركة الناشئة والقوميين العرب آخر صدام.
بعد نجاح حزب الله في تحقيق حضور عربي واسع من بوابة المقاومة (ولو ادعاءاً كما كشفت الأحداث السورية)، ستعمل إيران على تعميم تجربة حزب الله حيث تستطيع، حيث تمكنت في اليمن من دعم الحوثيين، وهي تعمل على استثمار كل الشيعة العرب في المنطقة لضمهم إلى أنموذج ولاية الفقيه، كي يكونوا أدواتها في الهمينة والتمدد، فكما أن الإسلام السياسي السني (الأخواني) بات اليوم الذراع والأداة الأهم للسلطان التركي في مشروعه السياسي، فإن الإسلام الشيعي هو أداة إيران في سعيها لاستعادة الامبراطورية الفارسية، الأمر الذي يوضح وبما لا يدع مجالاً للشك اليوم، أن الإسلام الشيعي السائد اليوم هو مجرد إيديولوجية أو أداة تستخدم لخدمة مشاريع سياسية تهدف إلى الهيمنة والتمدد، ولعل علو صوت كل من الحوثي وحسن نصر الله تزامنا مع الضغوط على إيران يوضح ذلك، بل أبعد من ذلك، نلاحظ مؤخراً أنه مع عودة الصراع الأميركي الإيراني بعد إلغاء ترامب للاتفاق النووي، واندراج الرياض ضمن محور واشنطن، تزامناً مع هذا استهدف الحوثيون الأراضي السعودية أكثر من مرة، الأمر الذي يوضح لنا بما لا يدع مجالاً للشك أننا أمام أدوات تتمسح بمسوح الدين لا أكثر ولا أقل.