هل مارس النص الديني القمع على حريات الناس، وفرض أحكاماً جاهزة لا يصح خلافها؟لا يوجد جواب واحد لهذا السؤال، فمن يميل إلى القمع سيجد ألف دليل وشاهد، ومن يميل إلى الخيار الديمقراطي سيجد ألف دليل وشاهد، فهذه هي طبيعة التاريخ وهذا هو سياقه ولا توجد مندوحة من اللجوء إلى الانتقائية في رواية التاريخ فهذا التاريخ ديوان أمة هائلة في قيامها ورقودها، وعثارها ونهوضها، وانتقاء الرجل قطعة من عقله.في هذه الدراسة سأقدم للقراء الكرام أربعين قاعدة ديمقراطية اعتمدها الفقهاء والمفسرون وعلماء الأصول للوصول إلى حلول تشريعية، تتجاوز ظاهر النص وتأذن بفضاء واسع من الحرية الاجتهادية، ومناقشة الحلول.يعتبر علم أصول الفقه قانون العقل ومنهج التفكير في الإسلام، وبعكس الصورة النمطية السائدة لهذا العلم بأنه علم التزام النص واتباعه، فالصورة الجوهرية لهذا العلم هي تسخير النص في سبيل حياة أفضل ومن ثم اللقاء والتكامل بين العقل والنص، وبين الديني والاجتماعي في الحياة.وبخلاف القاعدة السائدة لا اجتهاد في مورد النص فإن علم أصول الفقه يبحث في فصوله معظمها باب الاجتهاد في مورد النص وأصول هذا الاجتهاد، ويقدم تجارب متتالية عن اجتهاد السلف في مورد النص، ومن أشهر هذا اللون من التطبيق تقييد المطلق في النص وتخصيص العام فيه، والقول بالمجاز والحقيقة والقول بالمتشابه فيه، فهذه كلها آليات للاجتهاد في مورد النص.ونتحدث هنا عن القواعد الأصولية المشتهرة لدى الفقهاء، ونقصد بالقواعد تلك العناوين الرائزة في اجتهاد الفقهاء التي كانوا يحتكمون إليها بوصفها مسلمات فقهية لا مناقشة فيها، وأن الاستدلال لها من الكتاب والسنة أمر محسوم، ولا شائبة فيه.وقد قمنا بتصنيف هذه القواعد في خمسة مجموعات:1. قواعد تدل على تغير الأحكام بتغير الأزمان، ومن ثم تكرس حق الأمة في تشريع أحكام جديدة تلائم واقع المجتمع.
- لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان.
- الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً.
- ما ثبت بعلة يزول بزوالها.
- إذا زال المانع عاد الممنوع.
هذه قواعد تكاد تكون اتفاقية بين علماء أصول الفقه، وهي واضحة في أن التشريع يجب أن يتحلى بالبصيرة، ولا معنى للاجتهاد في غياب البصيرة، فالأحكام معللة، والحكم بالشيء فرع من تصوره، ومن المنطقي تماماً أن يجري تغيير الأحكام الفقهية تبعاً للعل التي من أجلها شرعت هذه الأحكام.وتأسيساً على هذه الأصول يمكن مثلا الانتقال من العقوبات الجسدية من رجم وصلب وقطع إلى عقوبات إصلاحية ليس فيها تعذيب ولا انتقام، وذلك بناء على انتهاء العلة الموجبة لهذا العقاب وتوفر بدائل إصلاحية كافية لقمع الجريمة وإصلاح المجرم، وتصبح بذلك الآيات الكريمة المتصلة بالحدود كلها أحكاماً معللة تزول بزوال علتها.2. قواعد تدعو إلى رفع الحرج عن الناس والتشريع لرفع معاناتهم، واعتبار التيسير على الناس أصلاً في الشريعة، وبذلك تؤكد ارتباط التشريع بمصلحة الجمهور.
- الاستحسان ترك القياس والعمل بما هو أوفق للناس.
- المشقة تجلب التيسير.
- يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر.
- إذا ضاق الأمر اتسع.
- الضرر يزال.
- درء المفاسد أولى من جلب المصالح.
- الأصل في الأشياء الإباحة.
- الضرورات تبيح المحظورات.
- الحاجة تنزل منزلة الضرورة.
وتأسيساً على هذه القواعد الاتفاقية يمكننا اليوم أن نتحدث عن تيسير أحكام المصارف في الاقتراض والسداد، بعد أن تغير واقع الحياة وأصبح الاقتراض التجاري جزءاً أساسياً من التنمية، وبات التمسك بالأحكام القديمة من منع أي قرض فيه زيادة، عائقاً حقيقياً في وجه البناء الاقتصادي، وسبباً رئيساً لتأخر المجتمع في قيامه ونهضته وتوفير حاجات الناس الضرورية في الحياة.3. قواعد تدعو إلى الاستماع إلى رأي الأغلبية والتشريع وفق حاجات المجتمع، وتشريع الأحكام الجديدة بناء على حاجات المجتمع وخياره الديمقراطي.
- حيثما كانت المصلحة فثم شرع الله.
- العادة محكمة.
- استعمال الناس حجة يجب العمل بها.
- الزم سواد الناس الأعظم.
- لا تجتمع الأمة على ضلالة.
- المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً.
- التعيين بالعرف كالتعيين بالنص.
- العبرة للغالب لا للشائع النادر.
وتأسيساً على هذه القواعد العميقة يمكن التأصيل للعمل البرلماني ومجالس الشورى ومجالس الأعيان التي تقوم بدور أساسي في العملية التشريعية في المجتمع، وهي الأقدر على معرفة رأي السواد الأعظم، وتحديد العرف والعادة المتبعة، ومعرفة اجتماع الأمة على أمر تشريعي، وتقدير الغالب من النادر، وهو جوهر القضايا الأصولية التي نتحدث عنها.4. قواعد تدعو إلى النظر في المآلات والمقاصد ومصالح المجتمع ولو أدى ذلك إلى تجاوز ظاهر النص، وهي تشير إلى مبدأ تقديم العقل وتأويل النقل.
- الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال.
- لا يلزم من صحة الدليل صحة المدلول.
- قد يثبت النص وليس عليه العمل.
- قد يصح السند ولا يصح المتن.
- العبرة للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني.
- الأمور بمقاصدها.
- التصرف على الرعية منوط بالمصلحة.
- شرط الواقف كنص الشارع.
- لا ضرر ولا ضرار.
- ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
وتأسيساً على هذه القواعد الفقهية أعيد النظر خلال التاريخ الإسلامي في كثير من الأحكام الشريعة التي كانت دائرة بين الحلال والحرام، وأوقف العمل بكثير من الأدلة التي تطرّق إليها الاحتمال، وفي سياق هذه القواعد جرى الاتفاق على تحريم الرق وملك اليمين وقد كان السابقون يدرجونها في المباحات بلا حرج، وجرى كذلك تغيير الموقف من التصوير والتماثيل وقد كان السابقون يحرمونها بلا تردد، بناء على ظواهر النصوص، ولكن أوقف العمل بظاهر هذه النصوص رعاية للحكمة والمصلحة والمقاصد المجتمعية.5. قواعد تدعو إلى تقييد النص بمتغيرات الزمان والمكان، ووقف الإطلاق في دلالات النصوص ومقاصدها ومعانيها.
- إذا تعذرت الحقيقة يصار إلى المجاز.
- إذا تعذر إعمال الكلام يهمل.
- لا حجة مع الاحتمال.
- الصحيح إذا خالف ما هو أصح منه صار شاذاً.
- ما ثبت على خلاف القياس فغيره عليه لا يقاس.
وتأسيساً على هذه القواعد نجح علماء أصول الفقه في وقف العمل بنصوص كثيرة تأمر بقتال الجوار المخالفين في الدين وقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، وقتل المرتد وغيرها من الأحكام الخطرة التي يمكن أن تجعل المسلمين في حرب دائمة مع الأمم، وتمنع الوفاق والسلام في الأرض.فهذه نحو أربعين قاعدة شرعية، تحظى باحترام الفقهاء جميعاً، ومنها ما يحظى باتفاقهم، ولا يخلو منها كتاب من كتب أصول الفقه، وقد اخترت أن أرويها لك من دون تفاصيل، لوضوحها ووضوح مراميها ومعانيها، وكلها تؤكد حقيقة واحدة أن التشريع في الإسلام مرتبط بحاجات المجتمع وأن إمكان التطوير والتعديل فيه محققة ومشروعة، وأن الوحي الكريم معني بمصالح الناس، وأنه قد يعرض له التخصيص أو التقييد أو النسخ وفي ذلك كله يمكننا التماس مصلحة الناس الراجحة التي تفرض تغير الأحكام بتغير الأزمان والأوضاع والأحوال.ومدار هذه القواعد معظمها على اختيار الناس ومصالحهم، وهذا مطلب ديمقراطي جوهري، ولا بد من استعمال الأدوات الديمقراطية التي تكشف رأي الجمهور، وهذا هو جوهر العملية الديمقراطية في التشريع.لقد كانت هذه القواعد الفقهية أشبه بدستور الاجتهاد، وكان فقهاؤنا في العهد الذهبي للتشريع الإسلامي يطبقون هذه القواعد الديمقراطية من غير نكير، وكان هذا التطبيق ربما يصرف نصوصاً عن ظاهرها، أو يفرض فيها التخصيص أو القيد، أو يصرفها إلى المجاز، أو ينشئ أحكاماً جديدة تلائم مصالح العباد.ومن المؤسف القول إن رواية هذه القواعد أو إعمالها اليوم يواجه باستنكار التيارات السلفية التي تتوجه عادة للعمل بظاهر النص وترفض هذه القواعد الأصولية الفقهية الديمقراطية التي حققت تاريخياً تطوير الشريعة ومجد الفقه الإسلامي.وبدلاً من الروح العلمية والفقهية العميقة التي سادت في التاريخ الإسلامي ووفرت نظماً تحكم بها دول متحضرة، فإن الخيار السلفي يعود بنا إلى لحظة معصومة من التاريخ يمنع الاجتهاد عليها أو التغيير فيها، ويطالب بإطلاق الأحكام وفق ظاهر النص ولو عادت هذه الأحكام على مصالح الناس بالحرج والضرر نظراً إلى اختلاف الزمان والمكان.ومع أن هذه القواعد كانت عناوين الدراسات الفقهية التي قدمها الفقهاء في عصر المجد الذهبي للغسلام، ولكن مشايخنا اليوم ضربوا بها عرض الحائط في سياق التوجه السلفي القائم على خيرية القرون الأولى ووجوب اتباعهم في أدق التفاصيل.ونشير هنا إلى بعض الإطلاقيات التي استخدمها مشايخنا اليوم لمنع الاجتهاد والتطوير في الشريعة مهما كان مطلباً احتماعياً ضرورياً، والاكتفاء بظاهر النص:
- لا اجتهاد في مورد النص.
- قف على ما وقف عليه الأولون فإنهم عن علم وقفوا.
- وكل خير في اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف.
- كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وتنسب هذه الأخيرة إلى الرسول الكريم، وقد اختار السادة السلفية أن يكون هذا الحديث في صدر خطاباتهم ومواعظهم كلها باعتباره نصاً إطلاقياً حاسماً في منع الاجتهاد والتزيد.ويستخدم الواعظون عادة هذه الصيغ الإطلاقية لمنع الناس من الاجتهاد في الرأي، باعتبار أن الأولين قد كفونا مؤونة الاجتهاد والنظر في المسائل، وأن الأمر مسألة اتباع وخضوع وليس مسألة اجتهاد ونظر، وأن علينا التسليم والخضوع ليس إلا.أرجو أن تكون القواعد الأربعون التي أوردتها كافية لمواجهة هذه الإطلاقيات الأربعة ونظائرها، ولندرك أننا نستطيع أن نبني مستقبلنا من دون أن ننقلب على ماضينا، ونستطيع أن نصنع المستقبل من دون أن نكفر بالماضي، ففي التاريخ كله حداثيون وتقليديون، وأصوليون ومعاصرون، ومجتهدون ومقلدون، وأهل نقل وأهل عقل، وقناعتي وثقتي أن المراحل التي ازدهرت فيها الحضارة الإسلامية هي المراحل التي ازدهرت فيها قدرتهم على التشريع والإلهام والاجتهاد.
هذه الدراسة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال افريقيا الإعلامي.