تتحدث هذه الدراسة عن العلاقة المعقدة بين الدين والدولة في الفكر الإخواني؛ إذ تسلط الضوء على أساسات يعتمدها تنظيم الإخوان في سوريا؛ ليناقشها الكاتب من منظور المواطنة وحق الآخر في العمل السياسيوالاجتماعي والثقافي من خلال المحاور الآتية:
- العلاقة بين الدين والسلطة؛ مدخل للدراسة.
- ولادة الإسلام السياسي بعد سقوط الخلافة.
- الأيديولوجيا مقدسة في الفكر الإخواني.
- اقترب من الإخوان لتعرف فكرهم.
- البراغماتية في السلوك الإخواني.
- الإخوان في الثورة السورية.
- الإخوان ومفهوم المواطنة والعلاقة غير الواضحة.
التصقت المؤسسة الدينية الرسمية الإسلامية بالسلطة منذ بداياتها. أي مع وصول الثنائي أبي العباس وأبي مسلم إلى السلطة في (منتصف القرن الثامن الميلادي) عقب تمرد عسكري واسع رُتِّبَ له في مدى عقود، قام على أساس تحالف بين أسرة أعطت نفسها صفة القداسة (بذريعة قرابة الدم مع النبي) وعسكريين مغامرين وحاقدين أغلبهم ينتمي إلى العنصر الفارسي ورعاع من مختلف الأعراق التي ضمتها المملكة العربية إلى رعاياها، واستند إلى مقولات دينية لا مجال هنا لمناقشة مشروعيتها الدينية أو مدى تطابقها مع المرجعية التي تبنتها واستندت إليها فالمهم هو النتائج المعرفية التي ولدت منها وأنتجت “إسلاماً” سلطوياً يجمع عناصر فلسفية متناقضة تسمح باستخدامه بمرونة عالية في الأوضاع كلها، وأعيد صوغه وضبطه مرات. في إطار المعادلة: المؤسسة الدينية سيف السلطان ومطية له.
لكن المؤسسة الدينية الإسلامية الرسمية صدَّقت تقولاتها ورسخت قناعتها بأنها المالك الحقيقي للإمبراطوريات والإمارات التي أضافت الصفة الإسلامية إلى اسمها أو إلى ألقاب سلاطينها واستشرت في عقلها المعادلة السابقة معكوسة. أي: السلطان والسلطنة سيف في يدها ومطية لها.
هذا الفهم المتناقض للواقع بين المؤسسة الدينية والسلطان جعل الجانبين يصران على الاحتفاظ ببعضهما حتى سقوط “الخلافة” رسمياً على يد “أتاتورك” 1924 فسقط بسقوطها الإسلام السياسي (صنوها) الذي ربط مصيره منذ البداية بمصيرها لكن “الفقه السياسي” الذي أنتجته قرون الاستخدام المتبادل بين السلطة والمؤسسة بقي كما هو بسبب فشل عملية التحول الحضاري العام في عموم المنطقة العربية/ الإسلامية فأعيد استخدامه بعد تغيير وظيفته من سيف بيد السلطة إلى سلاح لاستعادتها.
ولادة الإسلام السياسي بعد سقوط الخلافة
هكذا حاول “محمد رشيد رضا” -أول من أقام اللطميات على سقوط “السلطة الإسلامية”- الموهوم بالتنظير لإعادتها أو استعادتها باعتبارها “رئاسة عامة في أمور الدين والدنيا خلافة عن النبي…..وأجمع سلف الأمة أن نصب الإمـام واجـب شرعـاً لا عقـلاً فقـط حتى قدمـوه على دفن النبي… يقوم به أهل الحل والعقد في الأمة(1).
وإن كانت مواقفه -على الأرجح- قد جاءت بدافع عقائدي أكثر ما هي بدافع سياسي نفعي مباشر. بعكْسُ الشيخ الأزهري (ورئيس الأزهر لاحقاً) الذي أقام “لطميته” بدافع استرزاقي فجٍّ. حين أهدى كتابه (نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم) “إلى خزانة حضرة صاحب الجلالة فؤاد الأول ملك مصر المعظم” ووقِّعه بـ”المخلص في الطاعة: محمد الخضر حسين”(2).
ليخطو “حسن البنا” الخطوة المكملة أو التالية لخطوة “رضا” فيوظف المنتج العقائدي في الميدان الواقعي مستخدماً نهجاً مزيجاً من العقائدية والنفعية نتج منه تنظيم “الإخوان المسلمين” كأول حركة سياسية عملية للإسلام السياسي المهزوم تاريخيا والساعي إلى النهوض واقعياً، وبقيت تلك الصفة ملازمة للتنظيم مثلما بقي هو (التنظيم) ينوس بين جنباتها فمرة يعطي الأولوية للعقائدية ومرة للنفعية ما أفشله في الحالتين، أي فشل في المحافظة على الطابع العقائدي للتنظيم كما فشل في التحول إلى قوة دفع سياسي للمجتمعات العربية والإسلامية تفتح الطريق أمام الكتلة الكبرى فيها للتحول إلى العصر بمستلزماته المعرفية.
الأيديولوجيا مقدسة في الفكر الإخواني
أحد أهم المشكلات التي تواجه الإخوان المسلمين بعامة (والسوريين ضمنهم) أنهم تنظيمُ أيديولوجيا مقدسة يصعب المساس بها على نحو جوهري قبل النجاح الحقيقي للمشروع الوطني الديمقراطي في المنطقة العربية الإسلامية بمعنى آخر يستحيل إجراء تبدل جوهري في بنية التنظيم الفكرية (والتنظيمات المشابهة كلها) قبل إلحاق الهزيمة التاريخية بالحاضنة الواقعية له (التأخر الحضاري العام)، وأن الذين يتعاطون مع التنظيم بضغط الواقع يكتشفون متأخرين أنهم يضعون العربة أمام الحصان.
والمشكلة الأخرى أنه نشأ في زمن صعود الاتجاهات القومية والاشتراكية واندحار النظام الإمبراطوري إقليمياً (الذي يتبنونه في فلسفتهم السياسية) وتصاعد النضال من أجل الاستقلال وظهور “مسحة” حداثة في السلوك الاجتماعي والسياسي في الواقع العياني العربي والإسلامي، فظهروا كما لو أنهم ردة فعل على “مسحة” الحداثة تلك ومحاولة لتجييرها معاً.
ثم اُجبِرُوا بضغط حاملهم الاجتماعي والاقتصادي على البقاء ضمن تلك الشرنقة أي إنهم فكرياً وفلسفياً ضد حركة التاريخ ويسبحون بعكس التيار لكنهم في الوقت عينه (بوصفهم اتجاهاً دينياً عاماً) حاجة واقعية للتشكيلات الاجتماعية/ الاقتصادية التقليدية والمحافظة والمتشبثة بالرمق الأخير من الحياة بسبب فواتها التاريخي اجتماعياً واقتصادياً وأيضا لأن هذا الاتجاه قابل بطبيعته للاستخدام بوصفه حالة تعويضية للجماهير المسحوقة وأداة غير عنفية لضبطها أيضاً والسيطرة عليها، وسلاحاً تدميرياً في وجه المثقفين الخارجين على طاعة (مولانا ولي الأمر). هذا كله انعكس وينعكس باستمرار سلباً على الجماعة والتيار الديني بعامة فهو بسبب الإحباط الذي تعيشه الشريحة الواسعة من الناس يحقق انتصارات (أو بتعبير أكثر واقعية: اختراقات) مهمة في لحظات الأزمة والاختناقات بمستوياتها المختلفة، لكنه سرعان ما يخسر كثيراً من تلك المكاسب بسبب انقلابه على طروحاته السياسية (النفعية) ودفع الجزء العقائدي من بنيته إلى الواجهة. الأمر الذي يُحْيِ المخاوف لدى القوى غير الدينية التي نسقت معه وتجربة (البشير – الترابي) في السودان والرئيس مرسي في مصر محض نماذج لا أكثر.
اقترب من الإخوان لتعرف فكرهم
كحال السوريين كلهم من أبناء جيلي لم أكن مطلعا على الوثائق النظرية ولا السلوكات السياسية العملية للإخوان المسلمين. لا السوريين ولا غيرهم. بسبب التعمية الإعلامية الصارمة التي مارستها السلطة القائمة منذ عام 1970 في سوريا والممر السلطوي الإاجباري الذي كان قائما حتى عهد قريب للمعلومات كلها التي يتلقاها المواطن السوري، فلم يكن هناك اتصالات عابرة للحدود ولا مواقع إلكترونية ولا أي مراجع.
مع ذلك كانت هناك محطات وفرت لي إمكان المحايثة العملية لهؤلاء. منها أحداث الثمانينات في سورية وكنت يومها في نهاية العقد الثاني ومنخرطا بقدر ما في الأحداث. الأمر الذي وفَّر لي فرصة التعرف إلى بعضهم ومعاينة تفكيرهم، والثانية في بغداد حيث أقمت مدّة (1981) اختلطتُ خلالها بإخوان مسلمين سوريين لاجئين في العراق مكشوفي الهوية، والثالثة في سجن صيدنايا العسكري في مطلع تسعينيات القرن الماضي وكان لهم “مهجع” خاص في الجناح الذي نحن فيه. إضافة إلى ما كان يرويه لي السجناء من غير الإخوان القادمين من سجن تدمر إما للنقاهة وإما استعداداً لإخلاء السبيل. والمرة الرابعة في سجني صيدنايا العسكري ودير الزور المركزي (14 آذار – 25 آب 2011) وهذه المرة وفرت إمكاناً أفضل بسبب وجود إخوانيين وقاعديين تسمح صراعاتهم على مدار الساعة باستكشاف كنه التفكير لدى الجانبيين.
تلك المحايثات وفرت لي إمكان التعرف إلى جماعة الإخوان المسلمين السوريين من خلال الحوار المباشر معهم أو من خلال مراقبة السلوك العملي اليومي لهؤلاء سواء العلاقات البينية أم العلاقة مع الآخر.
الاحتكاك المباشر وفر لي أيضا إمكاناً معرفياً (ولو كان محدوداً) لقراءة البرامج السياسية لجماعة الإخوان المسلمين بطريقة مغايرة أي لا تعتمد على اللغة المصوغة بطريقة احترافية وإنما من خلال المدلولات العملية للأفكار والمصطلحات المستخدمة في تلك الأدبيات والمرامي الواقعية لها.
مع التبدل في رأس الهرم في النظام السوري 2000 وظهور معطيات جديدة في الواقع تمثلت أساساً في السياسات الخبيثة التي روج لها رأس النظام الجديد والأبواق المحيطة به والداعية إلى الانفتاح والتطوير والتحديث ووو…… والصورة التي أشيعت عنه وسلوك “غض الطرف” الذي اتبعته الأجهزة الأمنية حينها بدأت تظهر ملامح نشاط سياسي في سورية سعى الإخوان المسلمون إلى أن يكونوا جزءاً منه فطرحوا “ميثاق الشرف الوطني” 2001 وأتبعوه بـ “مشروع رؤية” 2004 ثم وثيقة العهد 2012.
البرنامج السياسي (رؤية جماعة الإخوان المسلمين في سوريا للإصلاح) الذي أصدره الإخوان المسلمون 2004 ولاقى رواجاً وترحيباً من المعارضين السوريين في حينه، ولتدوين وقائع التاريخ اليومي السوري في المرحلة 2001 – 2008 أي مرحلة النشاط شبه العلني للمعارضة السورية أقول إن السيد “جاك عبد الله” صاحب دار “الفراتيُّ التقدمي” في دير الزور طبع نسخاً كثيرة منه ووزعها وما زلت لا أجد تفسيراً مقنعاً لتغاضي الأجهزة الأمنية عن هذا العمل الذي يقع عملياً ضمن القانون 49/ 1980 سيء الصيت. (هذا لا يعني بالتأكيد التشكيك في الشخص الذي قام بالطباعة والتوزيع ولكنْ البحث عن أهداف النظام من غض النظر).
البراغماتية في السلوك الإخواني
طرح الإخوان المسلمون رؤيتهم للإصلاح السياسي في سورية باعتبارها تحمل تصورات جديدة تتماشى مع التطور الحاصل سواء في المستوى العالمي أم الإقليمي وتستجيب لأوضاع في سوريا (ذات الفسيفساء الدينية/ المذهبية والأكثرية السنية في آن) صار من العبث القفز فوقها وأعني انتهاء العصر الذي كانت فيه قوى المجتمع غير السنية ترضى بدور التابع أو تسير على قاعدة “ابعد عن الشر وغني له” وانتشر وعي الذات عند الجماعات المكونة للمجتمع السوري. لكن العامل الأهم هو محاولة الجماعة الدخول مجدداً إلى المجتمع السوري. ذاك المجتمع الذي حمَّل الجماعة مسؤولية تغول نظام الاستبداد من دون أن يعفي النظام نفسه من مسؤولياته تجاه الجرائم الهمجية التي ارتكبها في أثناء أحداث الثمانينات أو بعدها كأحد منتجاتها.
المهم هنا قدمت الجماعة رؤيتها مترافقة مع حشد إعلامي ترويجي على النحو الذي وصفنا، لكن المدقق في تلك الرؤية يجد أنها بقيت أسيرة المنهج الذي أرساه “البنا” أي المزيج العقائدي والنفعي، ما جعلها حالة إعلامية لا أكثر وغير قابلة للترجمة على أرض الواقع، وقد قدمتُ دراسة في حينها عن تلك الرؤية ومما سجلته عليها:(3)
استخدمت “الجماعة” مفهومات معاصرة عدة (الديمقراطية, فصل السلطات, التداول السلمي للسلطة, المواطنة…) إضافة إلى مفهومات تقليدية تراثية (الحاكمية, أهل الحل والعقد…) ولكنها بسبب المنهجية المتبعة حاولتْ الخروج على الفهم التراثي للمفهومات الثانية وصوغ فهم “خاص” للأولى يخرجها مما هو متداول في الأدبيات الإسلامية المعاصرة وفشلت في الحالتين فبقيت متأرجحة. إن المسافة التي تركتها “الجماعة” بين رؤيتها والرؤية التراثية ليست كافية لإطلاق صفة الفهم المعاصر على هذه القراءة، وكذلك فإن الرغبة في تجنب المعركة مع “الإخوة الخصوم” منعت الجماعة من تمثل رؤية واقعية للمفهومات المعاصرة فأعطتها صبغة تقليدية عطلت كثيراً من إمكاناتها التاريخية فبدا القبول شكلياً لا أكثر.
بدأت “الجماعة” بتحديد معنى للشريعة بدا مشجعا “الشريعة الإسلامية نصوص ثابتة ومقاصد عامة واجتهاد متجدد ينزل النصوص على الواقع” لكن تتمة النص ألغت أوله إذ يتابع واضعو المشروع “وفق أصول الفقه الإسلامي….. فكأن هذه النصوص تنزل على الأمة ندية طرية كما نزلت على الجيل الأول فتحدد مسارها, وتضبط حركتها, وتعالج مشكلاتها, وتلبي تطلعاتها/ الباب الأول – منطلقات المشروع.
إن النص في جزئه الاخير يؤكد شكلانية الفهم وبرانيته فالمسألة هي: تنزيل الواقع على النصوص وفق قاعدة “بروكست”.
قد يحمل النص السابق فهماً مجملاً لطريقة الإخوان المسلمين في عرض أفكارهم السياسية لكن تتبع أدبيَّاتهم يسمح باستنتاج قاعدة عامة وهي أن “الإخوان” يأخذون باليد اليسرى أضعاف ما يعطونه باليمنى مستندين إلى صياغات لغوية تعمل على المحافظة على ضبابية المعنى وإمكان قراءته في وجوه متعددة الأمر الذي يمكنهم الاختراقات المجتمعية والسياسية معا على الرغم من وضوح هدفهم النهائي: دولة محكومة بالشريعة. تتحول لاحقاً إلى: شريعة تمتلك دولة بالآليات ذاتها التي تحولت بها الدول التي حُكمت بالعقائد من دولة تمتلك أجهزة مخابرات إلى أجهزة مخابرات تمتلك دولة.
هكذا مثلاً أيدوا “إعلان دمشق للتغيير الوطني 2005” ودخلوا فيه عبر شخصيات قريبة من مدرستهم وبعد مدّة وجيزة دخلوا في تحالف (جبهة الخلاص الوطني 2006) مع نائب رئيس النظام السابق عبد الحليم خدام الشخصية المنبوذة من المعارضة السورية بتلويناتها كلها بسبب سلوكه السياسي والأخلاقي في مدة أدائه وظيفته وعدم اعتذاره عنها في ما بعد، بل محاولة تسويغها في المقابلات التلفزيونية التي أجريت معه بعد مغادرته دمشق (كانون الأول 2005). ثم انسحبوا منها (2009) محاولين مغازلة نظام أسد بذريعة الهجوم الإسرائيلي على غزة الأمر الذي يتطلب تغيير المواقف وإيجاد تقاطعات مع محور “المقاومة والممانعة” وكأن قضية غزة وفلسطين عموماً وُلدت الآن وليس منذ نحو قرن من الزمن.
ثم حاولوا استثمار العلاقة بين رئيس الوزراء التركي (أردوغان) والنظام السوري لمد جسر تفاهم مع النظام يوفر لهم ارضاً في سورية يتحركون عليها مدفوعين بوهم تأييد الناس لهم باعتبارهم (من وجهة نظرهم طبعاً) الممثل السياسي -الأبرز على الأقل- للمكون السني، ومن ثم فإن أي فرصة مهما كانت بسيطة تعني نمواً متسارعاً يقود إلى السلطة متناسين طبيعة النظام السوري الذي لا يعطي فرصة إلا لمن يضمن القدرة على استثماره في لحظة ولقضاء حاجة فقط ثم يرميه في أقرب سلة مهملات.
مثل هذه السلوكات تكشف عقلية براغماتية شديدة تعطي الأولوية المطلقة للتكتيك المستند إلى احتمالات متعددة ترجح الرغبةُ والهوسُ -وليس القراءة الواقعية- الاحتمالَ الأكثر ملائمة، والساعي إلى استثمار الرياح أياً كانت جهتها ولا تقيم وزناً لأي التزامات وتفاهمات.
الإخوان والثورة السورية
أخيرا 15/ 3/ 2011 انهارت جدران الخوف وتهاوت مملكة الموت التي أسسها حافظ الأسد بعد انقلاب 1970 الأسود وعززها بعد انتصاره المخزي على الشعب السوري الذي يُعتبر هجوم حماة البربري 1982 تاريخاً رسميا له.، واندفع الشعب السوري إلى شوارع المدن والبلدات يهتف للحرية والكرامة.
ثورة “الحرية والكرامة” التي فجرها الشعب السوري في وجه نظام لا نظن وجود شبيه له في التاريخ البشري ليس بدرجة الهمجية والاستعداد لارتكاب الجريمة حتى ولو لم تكن ضرورية لأمنه أو استمراره. ليس من هذه الناحية فحسب وإنما أيضا من حيث تركيبته الاجتماعية وارتباطاته الإقليمية والدولية والعقل السياسي الذي حكمه أو طغى على مؤسسه فحدد له الأساليب الواجب اتباعها لتأسيس سلالة مالكة.
ومع أن الجو العام إقليمياً كان مُهَيِّئاً للثورة أو دافعاً وحافزاً إلا أن الوضع الداخلي لم يكن مُهَيّأ فعلا للثورة في تقديرنا وهذا رأي شخصي أعلنته ردا على سؤال وجهه لي السجناء القاعديين في سجن صيدنايا العسكري 14/ 6/ 2011 (وكانوا يثقون برأيي السياسي دون الفكري كما كانوا يقولون لي مراراً)، إذ استنادا إلى معرفتي بتركيبة النظام وأساليبه قلتُ: هذه الثورة لن تنتصر على النظام بل ستؤسس لثورة مقبلة تمتلك مقومات النصر النهائي.
من هنا لم يتجرأ أحد على ادعاء أبوة الثورة السورية واعترف الجميع للشعب وفئته الشابة خصوصاً بتفجير الثورة ولم يشذّ الإخوان المسلمون عن ذلك. لكن انطلاقاً من الواقع السوري الذي يفتقد إلى البنى التنظيمية التي تسمح بترتيب الأمور وبالتالي اضطرار الناس إلى استغلال يوم الجمعة موعداً للتجمهر والانطلاق ساهم في ركوب الثورة من الجماعات الدينية (وجماعة الإخوان إحدى تلك الجماعات). بالتأكيد هذا عامل من عوامل عدة ليس هنا مكان التعرض لها.
طرحت الجماعة نفسها مع بداية الثورة مستفيدة من هشاشة المعارضة السورية وتشتتها وافتقارها إلى البنى التنظيمية شرطاً ضرورياً لممارسة العمل الوطني المثمر وأيضاً بسبب إمكاناتها المالية الكبيرة وعلاقاتها الإقليمية وسعت إلى تأطير المعارضة السورية ولكن في اطار السيطرة عليها وتزايدَ نشاطُها واخذ أشكالاً أكثر تنظيماً واتساعاً مع بداية عام 2012.
قد يوضح تصريح أدلى به أحد قادة الجماعة الطريقة التي اشتغلت على أساسها الجماعة في التعاطي مع الثورة السورية “لكوننا لا نملك قواعد تنظيمية بالمعنى الاصطلاحي لأن التنظيم محكوم عليه بالإعدام فإن لنا قواعد فكرية تُؤْمِنُ بمبادئنا وأهدافنا ضمن المجتمع السوري وهي تتحرك تلقائياً ضمن هذا المجتمع وتشارك في الحراك الدائر حالياً على طريقتها وبقرارها”(4).
فالجماعة تدرك أن وجودها الواقعي يكاد يكون معدوما وأن الشعور الديني متصاعد في سورية لأسباب لا مجال لذكرها هنا ولكن من بينها تشجيع النظام نفسه للتوجه الديني ضمن الوسط العربي السني لغايات في نفسه والأهم ربما أن “الإخوان المسلمين” مدرسة فكرية مثلما هم تنظيمات حركية وهذه النقطة الأخيرة هي التي استفادت منها الجماعة واشتغلت عليها فهي توفر لها إمكان التحكم في الوضع وإدارته لمصلحتها هي ومن جهة أخرى تسمح لها بالتنصل من الأخطاء باعتبار أن التشكيلات –وبخاصة العسكرية– تأخذ بمدرسة الإخوان الفكرية ولا تنتمي إليها تنظيمياً.
حاول الإخوان خلق وجود واقعي على الأرض السورية بسرعة لتعويض انعدام وجودهم قبل الثورة بسبب الاجتثاث الذي مارسه الأسد (الأب) ضدهم فلجؤوا إلى استخدام الحالة التنظيمية في الخارج التي يمتازون بها عن باقي التشكيلات السياسية السورية المعارضة لنظام أسد. هكذا استقبلوا منشقين مدنيين وعسكريين عن النظام مثلاً من دون التدقيق (أو إبداء اهتمام حتى) بملفهم الأخلاقي السابق. وهو أمر حمّلهم تبعات ثقيلة في بعض الأحيان تجاه الشارع والمجتمع السوريين. أيضا سعوا إلى استثمار إمكاناتهم المالية وعلاقاتهم الإقليمية خصوصاً مع قطر وتركيا أساساً والسعودية بدرجة أقل وربما إيران ولو من وراء ستار) لتشكيل هيئات الثورة وبسط نفوذ غير مباشر عليها من خلال ربطها بالدول المتحكمة إما مالياً أو جغرافياً في الوضع السوري (قطر وتركيا) مستخدمين غالباً تكتيك “الإدارة من الخلف” أي من خلال دعم وتمويل واستثمار مؤسسات وتشكيلات ذات طابع ديني (المجلس الإسلامي السوري / استنبول نيسان 2014) أو خدمي تنفيذي (الحكومة السورية المؤقتة) أو شخصيات مستقلة إما ذات أصول إخوانية سابقاً أو تنتمي فكرياً إلى المدرسة الإخوانية أو قريبة منها.
في المستوى السياسي أثمر جهدهم في تأسيس “المجلس الوطني السوري” بوصفه واجهة للثورة تتعاطى مع العالم الخارجي وتؤمن الدعم للثورة في الداخل ولكن ليس بصفته مؤسسة سورية وإنما واجهة سورية، واستخدموا الأساليب غير المباشرة للسيطرة والتحكم منها العامل المكاني (وجوده في تركيا حليفة الإخوان) والعامل المالي (الدعم القطري) وأيضاً العامل البشري، إذ سعى الإخوان إلى إدخال أتباعهم الفكريين إلى المؤسسة وهكذا خضعت المؤسسة لمشيئتهم وفي الوقت عينه تنصلوا من أخطائها باعتبارهم “أقلية عددية” داخلها بحسب ما يقولون.
في موازاة العمل السياسي في الخارج بالتحالف مع القوى السورية الأخرى حاول الإخوان بناء قاعدة اجتماعية من جديد داخل سوريا فأسسوا في مطلع 2012 “هيئة حماية المدنيين” التي هي دولة مصغرة فكانت تمتلك مؤسسات إغاثية ودعوية وهيكلية تنظيمية إضافة إلى قوات مسلحة كبيرة قياساً بأعداد الفصائل السورية الأخرى وضمت (لواء الأنصار، أنصار الخلافة، أمجاد الإسلام، الفرقان، لواء حطين، فرقة أبناء القادسية، لواء أسود الإسلام، لواء معاوية بن أبي سفيان، لواء النصر في القلمون، لواء خالد بن الوليد في القصير، لواء سيوف الحق ولواء الكرامة في حمص المحاصرة، لواء ذئاب الغاب، وألوية أخرى) إضافة إلى كتائب أخرى يمكن إطلاق صفة “سلفية سياسية” عليها أي تتبنى المنظومة العقائدية السلفية ذاتها ولكنها تطرح السياسة وسيلة لتحقيقها وتأتي هنا “أحرار الشام” التي أسست في أواخر عام 2011 من بين فصائل عدة ينطبق عليها التوصيف السابق وأيضاً “لواء التوحيد” ذو الصبغة العقائدية والتكتيكية المطابقة لبنية الإخوان المسلمين إلى حد كبير لكن تناقض تصريحات قادة اللواء وزعماء الإخوان حول العلاقة بين الجانبين تجبر الباحث الموضوعي على إقرار التشابه من دون تأكيد العلاقة التنظيمية (أسس اللواء عبد القادر الصالح الشهير بحجي مارع في منتصف عام 2012 وهو يطالب وفق تصريحات عدة له بدولة مرجعيتها الشريعة، تحفظ حقوق المكونات غير السنية. ما يسمح بالقول إنّه ينتمي إلى الإخوان فكرياً على الأقل إن لم يكن ذراعاً عسكرياً لهم).
ويبقى الجانب العسكري أكثر المسائل تعقيداً لخصوصيته في أوضاع الثورة السورية، فالانطلاق في قراءة العلاقة بين الإخوان المسلمين والفصائل العسكرية محكومة بنقص الوثائق والأدلة. الأمر الذي يسهل تنصل الطرفين من تلك العلاقة ولذلك فهي قراءة سياسية أكثر ما هي توثيقية وعلى الباحث ألا يغوص في التركيب الأيديولوجي لتلك الفصائل فهي بالعموم تستند إلى الهوية الإسلامية كأيديولوجيا عامة وإن تباينت في بعض النقاط بل قد يكون الطرح السياسي كاشفاً أفضل لتبيان العلاقة بين الجانبين. إضافة إلى الشكل السائد تقليدياً في عموم المنطقة للعلاقة بين العسكريين والسياسيين التي تقوم على تصور يرى السياسي جندياً وبوقاً عند العسكري عليه الطاعة والتطبيل وخضوع قرارات التشكيلات العسكرية لإرادة القوى الداعمة مالياً أو المسيطرة على المنافذ الجغرافية وحساباتها هي ومصالحها وقراءتها الخاصة للخريطة السورية وأيضا لارتباطاتها الإقليمية والدولية، بأكثر من خضوعها للتشكيل السياسي الذي ينتمي إليه والانتشار المكاني غير المتصل وضعف السيطرة الهيكلية. تلك كلها عوامل تساعد في تأكيد العلاقة بين الإخوان (والتشكيلات السياسية كلها في الخارج) مثلما تجعل التنصل من تلك العلاقة إذا دعت الضرورة أمرا هيِّنا.
الإخوان ومفهوم المواطنة؟ والعلاقة غير الواضحة
شخصياً لا أستسيغ القوى العقائدية في الميدان السياسي ولكن الوطن ليس عقاراً ورثه أحدنا عن أبيه بل هو مُجْمَل الوجود التاريخي لمجموعة بشرية بأكملها ومن ثم لا قيمة ولا معنى لرغباتي الشخصية وعليه فلا يمكن للمرء أنْ يتصور في المرحلة المقبلة حياة سياسية سورية تمتلك الحد الأدنى من المعاصرة من دون وجود هذه القوى العقائدية (الدينية والقومية والاجتماعية) ذلك أن الإقصاء والحرية طرفا نقيض وقد قلت هذا المعنى يوم كان أغلب إخوانيي اليوم والزعامات المتلطية معظمها خلف الدريئة الدينية (مصفقاتيين) وربما أسوأ.”
“إذ ليس من حق أحد أن يصادر على التيار الديني حقه الطبيعي في النشاط السياسي انطلاقاً من خلفية دينية (إسلامية أو غيرها) على أن تكون هذه الخلفية خلفية للحزب وليست هوية للدولة”(5).
لقد قلتُ حينها قناعتي وانطلاقاً من أن المصلحة الوطنية تستلزم الحرية للجميع ودفعتُ الثمن راضياً، ولكن هل القوى الدينية بعامة تنطلق من القاعدة ذاتها ومعنية بالقدر نفسه بالمصلحة الوطنية؟
الجواب الذي تقدمه المعايشة اليومية وقراءة ما بين السطور هو: لا. كبيرة.
وحتى لا يلقى الكلام على عواهنه خذ مثلاً الشعار الرسمي (اللوغو) الذي ما يزال يرفعه الإخوان المسلمون هل هو شعار مُطَمئِن ويتناسب مع الصورة السياسية التي يحاولون الظهور بها؟. مصحف وسيفين وعبارة: “وأعدُّوا” أليست تعبيراً تصويرياً عن عبارة “لا حكم إلا لله”؟ أليست الوجه الآخر لعبارة “فإن حزب الله هم الغالبون/ اللوغو الرسمي لحزب الله”؟ ألا يمكن تحويلها من اللغة الرمزية إلى اللغة المنطوقة فتصير “ومن لم
يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون” ومن ثم ألا تسقط الحدود المتوهمة بين الإسلام المعتدل والإسلام الجهادي العنفي في لحظة ما.
نموذج آخر (وهي كثيرة) وثيقة العهد التي أصدرها الإخوان المسلمون (آذار 2012) تتضمن فقرتها الأولى أثناء الحديث عن الدستور السوري المأمول “ويضمن التمثيل العادل لكل مكونات المجتمع” ربما نستطيع أن نجبر أنفسنا على قبول العبارة من ممثلي أقليات عرقية ودينية (مع أنها مرفوضة أياً كان مصدرها لأنها تتناقض مع مفهوم المواطنة الذي يقوم على الفرد ويضمن حقوقه باعتباره فرداً) لكن صدورها عن جهة تظن أنها تمثل الأكثرية يمكن قراءته سياسياً سعياً للهيمنة بذريعة النسبة العددية. إنه يحافظ على الأكثرية “القطيعية” المتناقضة في الجوهر مع المواطنة والمساواة التي تتحدث عنها الفقرة الثالثة من الوثيقة.
في الفقرة الثالثة من الوثيقة ترد عبارة “دولة….. تقوم على مبدأ المواطنة… يحق لأي مواطن فيها الوصول إلى أعلى المناصب استناداً إلى قاعدتي الانتخاب والكفاءة”.
وهو تكرار لما جاء في “مشروع الرؤية” السابق: “إن السباعي تقدم بطلب إضافة مادة إلى الدستور السوري (1950) تقول: (المواطنون متساوون في الحقوق لا يحال بين مواطن وبين الوصول إلى أعلى مناصب الدولة بسبب الدين أو الجنس, أو اللغة – الفصل الثالث/ ثانياً)”.
وهو كلام جميل حتماً ولكن على الجماعة أن تجيب عن السؤال: كيف يمكن التوفيق بينه وبين القول:
“إننا حين نعلن أننا جميعاً مواطنون في هذا الوطن متساوون في الحقوق والواجبات فهذا لا يعني أننا نسمح لأي إنسان أن يستغل هذه المواطنة ويستغل العروبة والقومية ليطعن في دين هذه الأمة ويسخر بتاريخها – الباب الثالث/ ثالثاً”(6) أليست هذه العبارة نسفاً لما تقدم كله؟
تتحدث الوثيقة أيضاً عن “دولة تلتزم حقوق الإنسان كما أقرتها الشرائع السماوية والمواثيق الدولية / البند 4”. هذه العبارة الخيالية التي لا تتضمن أي معنى أليست “ضحكاً على اللح ” ودغدغة للعواطف وسلاحاً وقت الحاجة أي عندما تصل الأمور إلى اللحظات الملائمة والحاسمة، فهل سنجمع اليهودية والمسيحية والإسلام (أليست هي الشرائع السماوية وفق الرؤية الإسلامية والإخوانية معاً)؟ وكيف سنختار بين هذه الكتل الهائلة والمتناقضة؟ ومن الذي سيختار؟ وعلى أي أساس؟.
ثم ماذا لو تناقضت الشرائع السماوية والمواثيق الدولية فلمن الأولوية. أستطيع القول: الأولوية للثانية وتسطيع أن تقول أنت: الأولوية للأولى. لكن لسنا أنا ولا أنت من يجيب عن الإخوان ولأنهم تركوها (ويتركونها دائماً) مفتوحة فهي لا تعبر عن موقف بقدر ما تكشف أسلوباً موارباً قابلاً للتبدل بسهولة وفقاً للحاجة المباشرة.
يستطيع الباحث تتبع كثير من تلك التعبيرات في الأدبيات السياسية الإخوانية وكلها تكشف طريقة مواربة في العمل مع الأخر السياسي وفي الوقت عينه تسمح بالتعبئة الشعبية من خلال إعطاء تلك العبارات تلك تلائم التوجه الفكري للشريحة المستهدفة ولكنها أيضاً تشكل مطبخاً تنضج فيه التنظيمات كلها التي أطلق عليها “متطرفة”.
هذا الأسلوب لن يُؤتي أُكلاً طيباً مهما امتد به الزمن ولن يحقق طموحات التنظيم في الوصول إلى السلطة.
المراجع
- محمد رشيد رضا، الخلافة. ص 16 -15.
- محمد الخضر حسين، نقض كتاب أصول الحكم ص 8
- المشروع الإسلامي بين مطرقة الموروث وسندان الاندماج/ قراءة نقدية. دراسة للكاتب. موقع الحوار المتمدن. العدد 1171. 18/ 4/ 2005
- تصريح إعلامي للسيد زهير سالم في أوائل أيار 2011
- المشروع الإسلامي. البحث السابق
- المشروع الإسلامي. البحث السابق
هذه الدراسة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد.